"مصادر الطاقة لا تُقصى بل تتعايش، وتتطور في خدمة الإنسان"، بهذه العبارة لخّص الأمين العام لأوبك هيثم الغيص، جوهر النقاش حول تحول الطاقة، خلال كلمته في منتدى بغداد الدولي للطاقة (سبتمبر/أيلول 2025)، وهو حاجة العالم إلى تعزيز القدرات، لمواجهة الطلب غير المسبوق، وليس الحديث عن الانتقال من مصدر إلى آخر.
ورغم ذلك؛ فإن واقع الطاقة اليوم يُظهر مفارقة لافتة، لكن لن أقول كما قال تشارلز ديكنز في روايته الشهيرة "قصة مدينتين": "إنه يُعد أفضل الأزمان وأسوأها"، بل هناك سيئ حيث يُهدر فائض كهرباء بملايين الدولارات سنويًا، لمجرد إثبات الريادة في التحول الطاقي وتهميش دور النفط والغاز، وهنا أسوأ حيث حرمان قاتل وملايين تغرق في الظلام تنتظر بصيصًا من الكهرباء.
ففي العديد من الدول الغربية؛ حيث التسارع غير المحسوب نحو الطاقة المتجددة، دون توسيع وتطوير كافٍ للبنية التحتية، تتزايد ظاهرة هدر فائض الكهرباء، إذ يلجأ مشغلو محطات الطاقة المتجددة لتقليص الإنتاج أحيانًا، بسبب عدم قدرة خطوط النقل على استيعاب كامل الكهرباء المنتَجة، وهو ما يتسبب في خسائر مالية كبيرة للمنتجين.
وأبرز مثال على ذلك ألمانيا، رائدة التحول الطاقي الأوروبي كما تُوصف، ففي عام 2024، وصل تقليص إنتاج الطاقة الشمسية والرياح إلى 1.4 تيراواط/ساعة، و8 تيراواط/ساعة على التوالي.
على النقيض، في دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يعيش أكثر من 600 مليون إنسان بلا كهرباء، ويبلغ معدل الوصول إلى الكهرباء في دول مثل تشاد جنوب السودان، أقل من 12%.
قصور تحول الطاقة
الصورة المزدوجة التي توضحها الأمثلة أعلاه تكشف عن عيوب سياسات تحول الطاقة الحالية؛ فبينما تُهدر كهرباء في الشمال العالمي دون استهلاك، يواجه الجنوب تحديات بداية الوصول إلى الكهرباء من الأساس، عن أي تحول نتحدث إذن؟
تحول الطاقة لا يُقاس فقط بعدد الألواح الشمسية أو توربينات الرياح المُركبة، بل التحول الحقيقي الذي يجب أن يحدث هو الانتقال من الظلام إلى النور وتوفير الكهرباء لملايين المحرومين في أفريقيا، ومن الاعتماد على مصادر بدائية للطهي، الذي يتسبب في وفاة مليون أفريقي سنويًا، إلى إمدادات وقود موثوقة ودائمة.
في الوقت نفسه هو التحول الذي يضمن لمواطن غربي كهرباء مستقرة ومستدامة عبر مزيج طاقة شامل لكل المصادر دون إقصاء، في ظل الطلب المتزايد جراء النمو الاقتصادي والسكاني وطفرة الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات، وكان انقطاع الكهرباء في إسبانيا والبرتغال هذا العام دليلًا على ذلك.

هذه الأزمات الحالية هي نتاج سياسات غير مسؤولة روّجت لها بعض المؤسسات في السنوات الأخيرة، وعلى رأسها وكالة الطاقة الدولية، التي طالبت بضرورة التوقف الفوري عن الاستثمار في الوقود الأحفوري في تقرير مثير للجدل قبل 4 سنوات، من أجل دعم تحول الطاقة والوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2050.
وأسهم ذلك في تراجع المستثمرين وجهات التمويل عن تطوير إمدادات النفط والغاز ومحطات توليد الكهرباء منها في أفريقيا، وسط مخاوف من أن تُصبح هذه الأصول عالقة مستقبلًا، والنتيجة الآن هي تباطؤ وتيرة التقدم في توفير الكهرباء وحلول الطهي النظيف، بسبب نقص التمويل.
وفي الوقت الحالي، يتزايد الحديث عن تراجع وكالة الطاقة عن توقعاتها بشأن ذروة الطلب على النفط والغاز هذا العقد، إلى جانب تغيير موقفها بشأن ضرورة الاستثمار في هذه الموارد لتأمين الاحتياجات؛ فماذا استفاد العالم سوى ضياع سنوات دون خطوات ملموسة في توصيل الكهرباء للمحرومين؟
ما هي الحلول الممكنة حاليًا؟
هناك العديد من الحلول لأزمة هدر فائض الطاقة، والحرمان منها، التي يجب النظر إليها معًا بوصفها هدفًا رئيسًا أولًا، وعندها سيجد العالم نفسه أمام ما يهدف إليه: "تحول طاقة شامل وعادل".
أولها: الموازنة بين كل المصادر والتوقف عن نبرة الاستهجان تجاه الوقود الأحفوري، التي تُخيف الاستثمارات؛ فتعزيز قدرات الطاقة المتجددة والنووية أمر مهم والاستفادة من النفط والغاز لا تقل أهمية.
ففي مثال ألمانيا، المذكور في هذا المقال، اضطرت شركات الكهرباء إلى تعويض هدر فائض الطاقة المتجددة، عبر 8.3 تيراواط/ساعة من محطات الوقود الأحفوري لتواصل تلبية الطلب؛ فماذا لو أن هذه المحطات غير موجودة؟
وحاليًا يمكن استغلال المحطات التقليدية بطرق أنظف وأكثر كفاءة، عبر استعمال تقنيات مثل احتجاز الكربون وتخزينه، إذا كان ذلك سيُرضي تطلعات رواد تحول الطاقة الغربيين، خصوصًا أن أوروبا الآن تعاني تبعات التسرع في الاعتماد المفرط على الطاقة المتجددة.
الحل الثاني يكمن في تعزيز مشروعات الربط الكهربائي العابر للحدود؛ فالربط الكهربائي الحالي بين المغرب وإسبانيا، والمشروعات المقترحة بين دول أفريقية وأوروبية عبر البحر المتوسط، نماذج يجب توسيعها حتى تتحول إلى شبكة عابرة للقارات، بحيث يمكن للفائض أن يجد مستهلكًا محتاجًا.
الحل الثالث هو تعزيز قدرات تخزين الكهرباء بالتوازي مع مشروعات الطاقة المتجددة، من أجل تخزين الفائض لاستعماله عند الحاجة، إلى جانب إمكانه استغلاله في إنتاج الهيدروجين الأخضر.
رابعًا، لا بد أن تكون هناك عدالة تمويلية بحيث تتحمل الدول الغنية والمؤسسات التنموية مسؤولية تمويل وصول الكهرباء لملايين الأفارقة، فحتى الجهات التي تمتنع عن تمويل محطات الكهرباء التقليدية، بإمكانها تمويل نشر الأنظمة اللامركزية مثل المحطات الشمسية الصغيرة أو التشاركية، التي بدورها توفّر الكهرباء مباشرة للقرى النائية.
وخلال السنوات الأخيرة، تلقّت أفريقيا 2% فقط من إجمالي الاستثمارات العالمية في الطاقة المتجددة.
ولا شك أن تطبيق هذه الحلول سيجعل تحول الطاقة حقيقيًا وعادلًا، وليس مجرد احتفاء بأرقام الطاقة المتجددة في الغرب.
* أحمد شوقي مدير وحدة أبحاث الطاقة.
* هذا المقال يمثّل رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي الطاقة.
اقرأ أيضًا..