ناقش المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مساء الخميس، مرتكزات “الحقّ في المدينة”، وتنزيل المقتضيات الكونية الحقوقية في هذا المجال، على هامش الدورة الثلاثين للمعرض الدولي للنشر والكتاب، وذلك من خلال تقديم مؤلَّف جماعي حول هذا الحقّ بمشاركة الباحثين عبد العزيز عديدي ويونس وحالو، وتسيير المصطفى المريزق، العضو السابق بالمجلس.
المدينة والنشأة
قال الباحث عبد العزيز عديدي إن “المدينة في المغرب وشمال إفريقيا تعدّ قديمة قدم التاريخ”، موردا أن “ظاهرة التمدين تعدّ حديثة نسبيا، ويمكن ربط نشأتها بالفترة الاستعمارية. فقد شهد المغرب خلال تلك المرحلة تحولات عميقة نتيجة دخول اقتصاد السوق والنظام الرأسمالي، فحدثت خلخلة في العالم القروي، نتجت عنها موجات من الهجرة الجماعية نحو المدن التي أنشأها الاستعمار، وعلى رأسها مدينة الدار البيضاء”.
وذكر عديدي أنه “قبل سنة 1912، أي بداية فترة الحماية، لم يكن سوى 8 بالمائة من سكان المغرب يعيشون في المدن، فيما كان 92 منهم يسكنون في البوادي أو يعيشون حياة الترحال”، وأضاف: “لكن وفقا لمعطيات الإحصاء الأخير لسنة 2024، فقد بلغت نسبة التمدين 65 بالمائة، وهذا يعني أن المغرب انتقل خلال قرن واحد تقريبا من مجتمع قروي إلى مجتمع يغلب عليه الطابع الحضري”، مع أن النسبة “تظل مرشّحة للمزيد من الارتفاع”.
وسجّل المتحدث أن “المدن المغربية اليوم تساهم بنسبة 80 بالمائة من إنتاج الثروة، وتساهم بنحو 50 في المائة في خلق فرص الشغل”، ومع ذلك، فهي “مسؤولة أيضا عن انبعاثات غازات الدفيئة التي تتسبب في التغيرات المناخية”، وتابع: “المدينة أصبحت أحد التحديات الكبرى، ليس فقط على الصعيد الوطني المغربي، بل بالدرجة الأولى على الصعيد العالمي، ومن الملاحظ أن المغرب بدأ يشهد تحولا نحو المدن الكبرى، أو ما يعرف بالميتروبولات، وهي مدن يتجاوز عدد سكانها 500 ألف نسمة”.
وقال الباحث سالف الذكر: “صرنا أمام تحدٍّ آخر، وهو التمدّد الحضري”، وزاد: “لقد تفاجأ المغرب بسرعة وتيرة التمدين، ولم يكن مستعدا لهذه التحولات العميقة، مما أدى إلى بروز اختلالات عديدة تمثلت في انتشار السكن العشوائي، والبطالة، والفقر، وسوء توزيع الثروة”.
وانتقل عديدي للتفاعل مع سؤال المريزق حول المدن الجديدة، فسجّل أنه “لا يوجد تعريف قانوني رسمي لهذا المفهوم، سواء كانت ‘المدينة الجديدة’ أو ‘المدينة الصاعدة’ أو ‘المركز الصاعد'”، مبرزا أن “التصميم الوطني لإعداد التراب، الذي أنجز بين سنتي 2002 و2004، أوصى باعتماد سياسة المدن الجديدة، لكنه اشترط أمرين: أولهما سن قانون يحدد مفهوم المدينة الجديدة ويحدد الجهة المسؤولة عنها، وهل هي مشروع قطاعي أم ترابي، وثانيهما إعداد تصميم وطني مخصص لهذه المدن”.
وسجّل أن التصور الذي ساد “اختزل مفهوم المدينة الجديدة في مجرد تجزئات سكنية، دون توفير البنية التحتية والخدمات الأساسية التي تضمن العيش الكريم للمواطن”، مظهرا “وجود محاولات حالية لتدارك الأخطاء، خاصة أن التجارب الدولية الناجحة، مثل بريطانيا وفرنسا والصين، أظهرت أن بناء المدن الجديدة يحتاج إلى وقت كافٍ للتخطيط ووضع استراتيجيات فعالة”.
أصل النقاش
قال الأستاذ الباحث يونس وحالو إن “أصل النقاش بشأن الحق في المدينة يتمثل في الحديث عن إعمال كامل للحقوق والحريات لكل من يتواجد في فضاء أو حيز ترابي يمكن أن نطلق عليه المدينة، بما تحمله من تناقضات وتجاذبات وأحيانا تكامل”، وتابع: “مع ضرورة منح تمييز إيجابي للفئات الأكثر هشاشة، مثل المسنين، والأطفال، والنساء، والأشخاص في تماس مع القانون، وذوي الاحتياجات الخاصة”.
وشدد وحالو على أنه “عندما نفكر في الحق في المدينة، ونسعى إلى بلوغ هذا الهدف، يجب ألا نغفل عن الواقع المغربي، الذي دقّ ناقوس التفكير، مما دفعنا إلى التفكير الجماعي في هذا الموضوع”، موردا: “إذا استرجعنا ذاكرتنا القريبة، نجد أن عددا من المدن شهدت موجة من الاحتجاجات، ولأول مرة في المغرب، خرجت عن المألوف، لأنها جاءت بمطالب ترابية. وبالتالي، فإن الإجابة عنها كانت تتطلب حلولا من داخل المدينة”.
وأشار الباحث ذاته إلى أن “الحديث عن هذا الحق يفترض استحضار مفهوم المدينة ذاته، الذي يتجاوز النمو الديمغرافي والجدران الأربعة، ويتجاوز البعد السكني، ليشمل كونه فضاء للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، التي تنتج عنها تبعات وتفاعلات متعددة، ونحن نسعى داخلها إلى مدينة تمنح فرصا متساوية للجميع من أجل إعمال كافة الحقوق، مثل التعليم، والصحة، وغيرها”.
وأبرز أنه “في ظل الزخم من التطور الاقتصادي والعمراني، لا يمكن لأحد إنكار الجهود التي بذلت للاعتناء بالمدينة، لكننا نلاحظ دائما أن السياسات الموجَّهة نحو المدينة كانت تفتقر إلى الالتقائية بين مختلف التدخلات. وبالتالي، فإن الإجابة عن إشكالات المدينة ليست مهمة فئة واحدة، بل تتطلب تدخل السوسيولوجي، والجغرافي، والاقتصادي، والسياسي، والإداري، والقانوني. ومن يظن أنه يمتلك جوابا شافيا بمفرده، فهو مخطئ”.
وقال: “إن المجهود الجماعي للتفكير في سياسات المدن، وإعادة التأهيل الحضري، والاهتمام بظاهرة توسع المدن الكبرى، يجب أن يوازيه وعي بالتعثّرات التي تواجهنا على مستويات متعددة، والتي تؤثر بدورها على نظرتنا للمدينة من الناحية الحقوقية”، موضحا أنه “على سبيل المثال، تتوفر الجماعات الترابية على برنامج عمل تنموي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تستحضر هذه البرامج البعد الحقوقي؟”.
وشدد المتحدث عينه على “أننا اليوم بحاجة إلى التفكير في مدينة تبنى على أساس حقوقي، وهذا يتطلب حوارا جماعيا، والتقائية مختلف الأطراف، ورؤية شاملة تراعي كل الجوانب المتصلة بالمدينة. فالمدينة ليست مجرد عمران أو سكن، بل هي فضاء للديمقراطية المحلية، والمساواة، وتجسيد للحقوق بمختلف أشكالها”، موردا أن “المدينة الناشئة لا ترتبط دائما بما هو جديد، فهي يمكن أن تكون قديمة ولكن بصدد تحوّل هيكلي كبير، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي”.