“ورقة ترافعية بليغة” قدّمها الأديب والناقد والأكاديمي البارز محمد برادة أثناء تكريمه والاحتفاء بمساره الاستثنائي، مساء الأربعاء، ضمن الدورة الثلاثين من المعرض الدولي للنشر والكتاب، خصّص منها جزءا لرصد واقع المغاربة الذي يُشعره بـ”الغُربة” كلما زار وطنه عائدا من المهجر، فيما تناول في الجزء الآخر “أزمة” اتحاد كتاب المغرب، معتبرا أنه “يفقد الشرعية”.
وقال برادة: “التاريخ العام العالمي يتحول بسرعة كبيرة. ولا أخفيكم أنني بتّ أشعر بنوع من الغربة كلما زرت المغرب، بسبب تحولات مقبلة، ولا أحد يعرف كيف ستكون مواجهتها”، وأضاف أن “من ضمن مظاهر الإرث السلبي لسبعين سنة من الاستقلال أن نسبة الأمية مازالت مرتفعة، وأن المدرسة والجامعة العموميّتين تعيشان نوعًا من التعثر والتقهقر، وأن البطالة مرتفعة، وتزحف صوب الـ20 بالمائة”.
رجل برؤوس كثيرة
عاش المكرم بين فترتين مهمتين من تاريخ المغرب: فترة الحماية وفترة الاستقلال، ويحكي أن حياته “خضعت كثيرا للصدفة”؛ تيتّم في أبيه وعمره لم يتجاوز السنتين، ولد في الرباط وانتقل إلى فاس ليعيش مع خاله، فانتهى به الأمر إلى أن يكون أحد أهم الرواد المغاربة وأسهم كما جاء خلال التكريم “في بناء صرح الثقافة المغربية المعاصرة، وترسيخ الحداثة الأدبية برائع مؤلفاته في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والترجمة والنقد”.
وانتقد برادة من على المنصّة “التأرجح الموجود في المغرب بين الحداثة والأصالة والاضطراب الفكري الذي يرافقه، بالإضافة إلى التردد في مساندة الحقوق المشروعة للمرأة وغياب فعالية وسائط التثقيف في المغرب من حيث مستواها وأدوارها؛ فعندما نتابع بعض البرامج في التلفزيون أو الإذاعة قلما نجد إنتاجًا فعليًا يستطيع أن يُكوّن مواطنًا مسؤولًا، قادرًا على التفكير بحرية”.
وتحدث صاحب “هل أنا ابنك يا أبي” (مجموعة قصصية) عن “انتفاء قنوات الحوار بين مختلف الفئات، خصوصا بين المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية، وعدم اضطلاع الأحزاب السياسية بدور بارز في المرحلة”؛ وهي أشياء كثيرة لا تخضع، وفقه، للصدفة، لأن “التاريخ المقبل يكتسح العالم، وسيغير قضايا كثيرة؛ ومن المؤسف أن نكون مجرد قابلين بالوضع تاعبين وخاضعين لما يفرضه الآخر، بدلًا من أن تكون لنا مساهمة قوية فيه”.
وعاد المتحدث بالذاكرة إلى المرحلة التي عرض فيها عليه الفيلسوف المغربي الراحل محمد عزيز الحبابي فكرة تأسيس اتحاد كتاب المغرب، موردا: “قام بذلك بصفته محايدًا، وهذا ما شجعني على التعاون والتعامل معه”، وزاد أنها “تجربة طويلة عرفت مشاكل عدّة، إلى أن استطعنا أن نرسم، نوعًا ما، طريقًا ديمقراطيًا لانتخابات الاتحاد”. وفتح برادة، هنا، “قوسًا بمناسبة الأزمة التي يعيشها التنظيم حاليا”.
وقال الرئيس الأسبق لاتحاد كتاب المغرب لثلاث ولايات متتالية (1976-1979-1981): “هذه الأزمة يتحايل فيها الرئيس الحالي (أو السابق) على القانون، لأن الأخير لا يتيح لأي رئيس الاستمرار في الرئاسة لعشر سنوات. سنوات الرئاسة ثلاث؛ وقد تتجدد مرة أو مرتين لا أكثر”، وواصل: “الفراغ الذي تركه هذا التنظيم واضح؛ كان يقدم اقتراحات وينظم أنشطة وندوات، ومثّل تقريبًا الاتحاد الوحيد غير الحكومي، والبعيد عن الدوائر الرسمية، وهذا ما جعل تقديره في الخارج متسعًا، ويُستمع إلى صوته”.
ودعا الكاتب إلى “تدخل الدولة لحل هذه الأزمة؛ لأنها الجهة التي يجب أن تتصارع مع هذا الرئيس الذي يوجد بدون شرعية، في الحقيقة”، كما قال: “إذا كانت هناك منظمة حافظت على الحد الأدنى من الحوار الديمقراطي، وجميع الاتجاهات ممثلة فيها، فهي اتحاد الكتاب. ومن حق الدولة أن تحافظ على هذه الجمعية الثقافية التي تكاد تكون الوحيدة التي تمارس هذا النوع من الحوار”.
الأديب الكريم
قال حسان بورقية، الفنان التشكيلي والمترجم والكاتب: “عندما دخل محمد برادة جيلنا، أستاذًا أديبًا وناقدًا ومناضلًا ومترجمًا، صرنا نحن النازحين من قرى وسط البلاد، الذين كنا نقرأ مقالاته دون معرفة مباشرة به، ونتتبع نشاطاته في مؤتمرات أدبية هنا وهناك”، وأضاف: “صيرتنا دروسه بسرعة البرق من أهم مترصدي اليوتوبيا، التي وهب لها جزءًا مهمًا من حياته”.
وأورد بورقية وهو يقدم شهادةً تلاها بالنيابة مسيّر لقاء التكريم الأكاديمي البارز محمد الداهي: “كان رئيسًا لاتحاد كتاب المغرب في سنوات عصيبة، وكنت وقتئذ طالبًا في المدرسة العليا؛ رحت يومًا لأحضر لقاءه مع محمد شكري وتقديمه رواية ‘الخبز الحافي”‘، وكم كنت أستقل الحافلة من بني ملال لأحضر دروسه في المناهج والنقد الأدبي في السلك الثالث بالرباط”.
وتابع الشاهد ذاته: “كلما ودّعته بعد لقائنا ودعوته لي للغداء في بيته يمد لي كيسًا مملوءًا بنسخ من روايات أصدقائه من الكتاب المصريين، وهو يخفي في عمل إبراهيم أصلان أو إدوارد سعيد، أو خيري شلبي، أو يوسف أبو رية، أوراقًا نقدية بمثابة ‘ثمن تذاكر أسفارك المقبلة إلى الجامعة’، كما كان يقول لي آنئذ”، معتبرا أنه “كان أنيقًا على الدوام، عاشقًا للأدب، يفتح الكوات على الأدب العالمي الرفيع والرواية العربية، والمصرية منها بوجه خاص”.
وكانت الأقواس، يقول المتحدث، “التي يفتحها في محاضراته بين الحين والآخر على أدب التراسل (…) من أروع اللحظات بالنسبة إليّ، حتى إنني أدمنت على جمع مؤلفات المراسلات بين المبدعين”، وزاد: “منذ اللقاء الأول به في قاعة اتخذها لإجراء اختبارات شفوية للتسجيل في السلك سألني عن أحد حواراتي التي سبق أن نشرتها في جريدة ‘القدس العربي’ آنذاك، وعن ترجمة نيتشه إلى العربية، وطلب مني التفكير في محاضرة عن نقد هذا الفيلسوف الألماني للحداثة لاحقًا، ثم دعاني إلى بيته لتناول وجبة الغداء”.
وأورد بورقية: “عندما قدّم لي مجموعتي القصصية ‘الدنيا هانية’، التي صدرت سنة 2000، اتصلت به لأشكره على المقدمة التي خصني بها، وعلى كتب المبدعين المصريين كافة التي أهداها إليّ، فجاءني صوته من الطرف الآخر للهاتف قائلًا: ‘ليست بيننا… اعتبر الأمر مجرد حوار بين جيلين’. الآن، يعيش محمد مرحلة استنشاق واستئصال وابتعاد ربما للاقتراب من نفسه أكثر، كضوء هارب ينير ليلاه في مجرى التاريخ هذا؛ لا نعرف عمّا يبحث في ذلك الخارجي، لكننا ننتحل الأعذار للمترحلين (…) فبرادة يعرف أن الحياة، كالإبداع، توجد هناك، في مكان ما”.
دينامو ثقافي
قال رشيد بنحدو، الكاتب والناقد والمترجم: “منذ تعرفت على أستاذي الأخ محمد برادة في كلية الآداب بظهر المهراز، وبعد ذلك، كان ما يثير الاستغراب في حالته، وهو الذي تربطني به علاقة تلمذة، ثم وفاء وصداقة طيلة 58 عامًا بالحساب الفلكي، هو تأخّره في كتابة الرواية إلى حين نشر ‘لعبة النسيان’ سنة 1987، وكان عمره آنذاك يقارب الخمسين عامًا”.
وفي نظر بنحدّو فإن “سبب تأخره لا يكمن في افتقاره آنذاك إلى ملكة التخييل واللعب، أو صعوبة الانتقال من كتابة القصة القصيرة إلى كتابة الرواية؛ إن السبب أعمق من هذا، فلقد افتتن بهذا الفن، وأخلص له طوال حياته: تدريسًا، وتأطيرًا أكاديميًا، ومواكبة، وقراءة، وتفكيكًا، وتأويلًا، وحتى ترجمة؛ وعندما كنت أسأله كان يقول لي: ‘إن في جعبتي أكثر من رواية’، ثم يضيف: ‘لكن…’، فتُرى، ما الذي يضمره هذا الحرف الاستدراكي من خفايا؟ وما الذي جعل برادة لا يستعجل كتابة روايته الأولى؟”.
يغلب على الظن، وفق الأكاديمي ذاته، أن برادة “حين عاد إلى المغرب في العام 1960، قادمًا من القاهرة التي حصل في جامعاتها على شهادة الإجازة في الأدب، لم يكن أول همومه أو مطامحه أن يبادر إلى تشكيل صورة مثالية لنفسه، مزهوًا بكتابة نصوص روائية حديثة”، مسجلا أن “المغرب، وقتئذ، كان خارجًا من مرحلة الهيمنة الاستعمارية، ومحتاجًا إلى ذوي الهمم القوية والنوايا الحسنة من أبنائه، ليتحمّلوا مسؤولية محو آثار الاستعمار وإعادة البناء”.
وأورد الشاهد أن “برادة كان مشدوهًا بما بلغته مصر من نهضة ورقي، خاصة في مجالات الأدب والفن والفكر، ومنبهرًا بشعارات الالتزام في الآداب، والواقعية المرآوية التي لا تتعارض مع ضرورة تجديد وسائط التعبير الشكلية والأسلوبية”، وزاد: “قرر، في البداية، أن يصوّر في قصصه القصيرة مظاهر التفاوت الطبقي في المجتمع المغربي وتداعياته على المستضعفين، وذلك موازاةً مع تبنيه قيم التجاوز والتجديد في حقل ثقافي موبوء يتسم بالمحافظة والتقليد”.
ويختار بنحدو لبرادة من الأوصاف أنه “مصارع طبقي حقيقي في قبيلة الكلمات، يحارب من غير كلل في عدة جبهات متنوعة”. ولهذا لا يجد الجامعي ما يصف به صديقه برادة سوى عبارة “الدينامو الثقافي”، وهي “الصفة التي لا يكاد ينازعه فيها أحد من مجايليه”، وفق تعبيره، وواصل: “هذه الجبهات هي اهتمامه بالنقد الروائي، ورئاسته اتحاد كتاب المغرب، وعنايته باكتشاف المواهب”.
وكانت الجبهة الأولى، وفق المتحدث، تتجلّى في مقالات المكرم النقدية الأولى التي نذرها للتعريف ببعض الظواهر الثقافية والمؤلفات، وكذلك حين ترجم بعضها من الفرنسية إلى العربية نظرًا لأهميتها، مشيرا إلى “الإيديولوجيا العربية المعاصرة لعبد الله العروي، الذي حظي بمقال نقدي من محمد برادة، رغم أن الكتاب كان ممنوعًا من التداول في المغرب آنذاك، فنال المؤلّف انتشارا واسعا”، وسجل أن المكرّم “كانت لديه أيادٍ بيضاء على العديد من الكتّاب المغاربة، إما بمرافقته النقدية أو بترجمته أعمالهم”.