الموت طريقٌ كلنا سالكوه حقاً، وسيدركنا، وإن كان قاسياً علينا، فالله سبحانه وتعالى يقول: «كل نفس ذائقة الموت»، وعندما يفرقنا الموت عن أغلى الأحباب يكون الأمر مؤلمًا، ولا ندرك حجم حضورهم في حياتنا؛ حتى نفقدهم فجأة؛ فندرك حجم الفراغ الذي يتركونه وراءهم، وتخوننا المشاعر في وداعهم، وتختلط الدموع بالآهات في التعبير عن ألم فقدهم، - خصوصاً - عندما يسكنون القلب، ويستحوذون على حب الناس، ويضيفون عليها البهجة، والسرور، ويزرعون في النفوس التفاؤل، والأمل، والسعادة.
ودّعناك يا «سيد» يا طيب القلب، وواريناك الثرى بالدمع والحزن، وكنت كما كانت وستبقى محبتك في قلوبنا، عشت طيباً للذكر، وودعناك بمزيد من العزة والكرامة والفخر، عشت نقيًا للقلب، ليناً معطاءً، حكيماً صلباً عصياً، لقد كان فقيدنا - رحمه الله - يملك قلباً متسعاً للجميع، وأخاً حنوناً، ووجهاً بشوشاً لكل من حوله.
نم قرير العين أيها الأخ العزيز والصديق الغالي، فلقد تركت فينا سيرتك الحسنة، كنت رجلاً لك من الطيبة والوقار والمكانة في كل راحلة تحطها أقدامك، لم نستطع أن نوفي فيك معاني العطاء والإخاء والمحبة والشرف ونبل الأخلاق مهما حاولنا التعبير، حقًا تخونني الألفاظ والمعاني ولن توفيك الكلمات حقك ولم يستطيع قلمي وصفك.
وإني لا أشك لحظة أن للموت رحمات بالأحياء قبل أن يكون بردًا وسلامًا على المؤمنين الراحلين، فمن رحماته أنه يدرأ الشر والظلم عن نفوس جبلت على القلق من حتمية النهايات، ويستعيد نفوسًا أخرى لمواطن البذل والعطاء والتسامح لأنها مدركة إنه حق لا ريب فيه، وهي النفوس التي جبلت على الخير، وإلا فكثير من القلوب قُدّ من صخر أو حديد، لا ذاكرة الموت تنفعهم ولا انحدارهم من قمة العمر لأسفله يوطن نفوسهم على بذل الخير أو كف الظلم والأذى.
وقد لا يعني القارئ أي قريب وصديق عزيز على قلبي أرثي اليوم، لأنه قد لا يعرفه، ومن يعرفه حق المعرفة قلة من أصدقائه ورفاقه ومحبيه، وأنا حتى اللحظة لم أكتب رثاء في صديق وإنما كنت أرثي الأحياء قبل الأموات، والباقين عوضًا عن الراحلين.
لقد أثارت فاجعة رحيله ومفاجأتها غصة في الحلق، وانحسارًا لمدد الرفقة الجميلة، وانطفاء لومضة نبل إنساني، وإذا إجتمع في المرء النبل وحب الخير وكرامة النفس والوقوف عند الحق فقد ترك الدنيا وهي أحسن مما وجدها، وفي هذا عزاء لنا وأي عزاء.
وإني كلما خطرت على نفسي خواطر الرحيل، أو مر ذكر راحل ترك الدنيا أحسن مما وجدها، وجدتني مع الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي أستعيد عبارته الخالدة: «اعمل عملك يا صاحبي، فإن لم تزد شيئًا في الدنيا كنت أنت زائدًا عليها، وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فما وجدتها وما وجدتك».
وأشهد الله أن القريب الحبيب والصديق المخلص سيد محمود عبدالمعز الرجل الجميل الطيب ترك الدنيا أحسن مما وجدها، فلم تكن حاجته وضعف حيلته في أول حياته وصروف الإنهاك التي مر بها أو مرت به، إلا دافعًا جميلًا لصنع الخير عندما أدركته الدنيا، وإن فيه خصلتين أقدرهما أيما تقدير: «كرامة النفس ونُبل المقصد».. لقد رحل عن الدنيا وهو زائد فيها، ولم يكن زيادة عليها، وقد تركها أحسن مما وجدها.. للموت كرامات ورحمات أيها الباقون.. و«إنا لله وإنا إليه راجعون».
أيها الأخ والصديق إننا نستمد من كرم أخلاقك الكثير، وكما يقولون لا تموت ذكرى رجل خلّف وراءه نبل الأخلاق وحسن العشرة، وداعاً أيها الأخ الغالي الباقي في قلوبنا وفي ذاكرتنا، ورحمك الله وغفر لك وأسكنك فسيح جناته، إنّه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
سيد، كلنا حبناك بقدر ما حبيتنا، ونشرت بيننا من عبير وجودك؛ بقدر الابتسامة التي أهديتها لنا؛ بقدر الأخلاق الجميلة التي عاملتنا بها؛ بقدر ما علمتنا قيمة الحياة؛ وقيمة الإنسان؛ وقيمة الإيمان؛ وقيمة الرحيل، ولكننا في الوداع تعجز ألسنتنا، ولن نقول أبداً إلا ما يرضي ربنا كما أمرنا الله سبحانه وتعالى: «إنا لله وإنا إليه راجعون».
تعجزنا الحروف عن وصف الفراق كعجزها عن وصف الحب، فبعد رحلة عمر أمضاها - الوفي الصديق - سيد محمود عبدالمعز على طرقات الخير، إلا أنه رحل رحلة القدر المكتوب، الذي تتألم منه القلوب، وتذرف الدموع، وتتعطل الجوارح، وتذوب الأكباد؛ حتى تسيل؛ ولأن في الموت مواعظ، وعبرًا؛ فسأؤثر البكاء في صمت على من أحببت بكل صدق من أعماق قلبي؛ كونه صبري، وعزائي الوحيد.
كان عف اليد، واللسان، بهي الطلعة، طيب المعشر، لين الجانب، حسن الخلق، بل كان مثالاً يحتذى به في التواضع، والوفاء، والبشاشة، والنبل، واللباقة، وسمو الأخلاق، والعطف، وسيبقى ماثلاً في سفر ذاكرتي طيفه من حولي، ووفاء لذكراه يعمر قلبي، ويحرك مشاعري، وسأتذكر بالدعاء لروحه الطاهرة.
تجرعنا مرارة الفقد، وآلام الفراق، وسيبقى عزاؤنا فيك يا سيد، هو هذا الحب الذي تركته في قلوبنا، فعلى فراقك نثرنا دموع الأوفياء، وعزاؤنا أنك تصالحت مع الموت كما تصالحت مع الحياة، وستبقى في ذاكرتنا خالدة أيامك الجميلة؛ ولأننا سنبكيك، ونرثيك، وننعيك، ونترحم عليك، ونطلب لك الشفاعة، وسندعو لك في مرقدك، بأن يؤنس الله لك وحدتك، ويرحمك برحمته الواسعة، ويغفر لك، وينزل الصبر والسكينة والسلوان على قلب أهلك وذويك وأحبابك، وأصحابك، وأن يجمعنا بك في مستقر رحمته، ودار كرامته، في مقعد صدق، عند مليك مقتدر.