أخبار عاجلة

ميرغت.. الزمان والمكان والذاكرة

ميرغت.. الزمان والمكان والذاكرة
ميرغت.. الزمان والمكان والذاكرة

احتفلت جمعية شباب ميرغت للثقافة والرياضة والأعمال الاجتماعية، بالذكرى 26 لعيد العرش المجيد، أيام الثلاثاء والأربعاء 12 و13 غشت 2025، بمركز جماعة سيدي حساين أوعلى، وذلك في إطار الدورة الجديدة لمهرجان التميز، بشراكة مع وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة – ومجلس جهة كَلميم واد نون، وبدعم من المجلس الإقليمي لسيدي إفني والمجلس الجماعي لجماعة سيدي احساين أوعلي، تحت شعار “التميز عنواننا والإبداع سبيلنا”. وكالعادة في كل سنة، فقد تميز هذا المهرجان بطابع احتفالي غني بالأنشطة الثقافية والفنية والرياضية التي تهدف إلى ترسيخ ثقافة الاعتراف بالتميز، وتكريم كل من أسهم في إشعاع المنطقة علميًّا وثقافيًّا ورياضيًّا.

للتميز حضور

في بداية الحفل، اجتمع الحاضرون في القاعة الكبرى لجمعية شباب ميرغت، حيث تم إلقاء كلمات معبرة منوهة ومحتفية بالتلاميذ المتفوقين الذين بذلوا مجهودات مثمرة في رحلة التحصيل العلمي التي توجت بالتفوق والتميز. وقد قُدمت لهم جوائز تحفيزية ممهورة برمزية التشجيع والتحفيز وتقدير الجهود، كما تم تكريم شخصيات تربوية وثقافية وإعلامية أحرز كل منها قصب السبق في مجال تخصصه، كل ذلك في إطار تقليد موروث قوامه الاعتراف بكل من قدم إسهامات ناجزة على المستوى الوطني والجهوي والإقليمي والمحلي. وقد تم تنفيذ هذا النشاط بحضور شخصيات وازنة تمثل مختلف المصالح المحلية والإقليمية والجهوية، الشيء الذي أضفى على الحفل طابعاً رسمياً يعكس الاعتراف المعتبر بمكانة المحتفى بهم.

وفي ختام هذه الفقرة، ألقى رئيس الجمعية السيد الحسين حروت كلمة شكر فيها جميع الشركاء والداعمين، مؤكداً أن المهرجان ليس سوى حلقة من سلسلة مبادرات تهدف إلى تشجيع الشباب، وصون التراث، وتعزيز روح العمل الجماعي، مؤكداً أن العلم والمعرفة والإبداع من أسس التنمية، وإن المجتمع الذي يحتفي بمبدعيه لابد أن يصنع مستقبلًا واعدًا ببشائر الخير.

الفنون الأصيلة حاضرة بثبات

أنهى المشرفون على حفل تقديم الجوائز والتكريمات، وانتقل الحاضرون إلى جنبات الساحة، واتخذ الكل مكانه المناسب في مقابل المنصة التي ستقدم عليها الفقرات الفنية، الرجال في جانب، والنساء في جانب آخر كما تقتضي ثقافة المجتمع القروي وتقاليده. وما إن حلت بوادر المساء حتى بدأت نغمات الآلات الموسيقية تنداح عبر جنبات سهل بلدة ميرغت، تردد أصداءها الجبال التي تحيط بمداشرها ودواويرها كما تحيط الأسورة بمعاصم الحسان.

تمازجت أهازيج أحواش مع زغاريد النساء مخترقة الفضاءات التي تنعشها نسائم أول الليل بعد يوم صيفي قائظ. وتزينت ساحة إد حساين المركزية بالمصابيح الكهربائية العاكسة التي ترفرف تحت أنوارها الأعلام الوطنية، وتزهو نقوش الزرابي المغربية الأصيلة المفروشة على أرضيتها الفسيحة، وجنباتها مؤثثة بلافتات تحمل الشعارات الوطنية، وعبارات التشجيع والتحفيز. كما أضفت نشوة الأطفال وفرحتهم بهجة أكبر على الحفل، بينما بات الشيوخ يراقبون المشهد بابتسامات الرضا، فيما تناوبت الفرق الغنائية على منصة العروض بأزيائها التقليدية. لقد كان المشهد أشبه بعرس جماعي للعلم والثقافة والفن، حيث يلتقي الحاضر بالماضي في لوحات قروية جميلة تنعش المشاعر في قلوب الشباب، وتذكي لهيب الذكريات في نفوس الشيوخ.

وقد تنوعت العروض الفنية بين الحداثية والتراثية، وجذبت أنظار الحاضرين واستدرت إعجابهم، وكان أبرزها رقصات أحواش المختلفة حسب انتماء فرقها الجغرافي، إلى جانب العروض الموسيقية التي شاركت فيها فرق محلية شبابية. كما نُظم معرض لمنتوجات الجمعيات المحلية توثق ما اختزنته ذاكرة القرية من مبادرة قمينة بالتقدير.

ميرغت.. رسالة إلى الشباب

ليس مهرجان التميز المنظم في قرية ميرغت مناسبة ذات صبغة فلكلورية، بل هو تجسيد وعي جمعي متأصل بأهمية الثقافة والمعرفة والقيم النبيلة الثابتة في بناء المجتمع وتنميته. ففي ظل تحديات الهجرة الداخلية والخارجية، تمثل مثل هذه المبادرات جسورًا تربط الشباب بأرضهم وهويتهم، وتمنحهم شعورًا بالانتماء والفخر. كما أنها تعزز الاقتصاد المحلي بشكل غير مباشر، عبر تنشيط الحركة التجارية والسياحية، وتفتح المجال أمام الشراكات مع مؤسسات تعليمية وثقافية ورياضية وسياحية على الصعيد الوطني والدولي، وخاصة أن أغلب سكان المنطقة مهاجرون إلى الديار الأوروبية، وهم بالتالي سفراء طبيعيون للتعريف بالهوية والتراث اللامادي لمنطقتهم.. ولا شك أن الاستثمار في هذا النوع من الفعاليات هو استثمار في رأس المال البشري، وهو ما يجعل من مهرجان ميرغت نموذجًا يمكن أن يُحتذى به في مناطق أخرى من المغرب.

ميرغت.. تحقيق هوية

تقع ميرغت في نفوذ مدينة الأخصاص التابعة لإقليم سيدي إفني، جهة كَلميم واد نون، وقد كانت سابقًا قبل إحداث عمالة سيدي إفني تابعة لإقليم تيزنيت، جهة سوس ماسة. وإليها ينتمي الإمام والعالم العلامة محمد بن سعيد المرغتي السوسي، قبل هجرته إلى مراكش في أواخر الدولة السعدية.

ففي قلب التاريخ الثقافي والعلمي المغربي، تبرز أسماء أعلامٍ نذروا حياتهم للعلم والمعرفة، وجعلوا من مساجد مراكش وفاس وتارودانت قلاع إشعاعٍ فكري معتبر. ومن بين هؤلاء يبرز اسم محمد بن سعيد المرغتي السوسي، الإمام والعالم الموسوعي، الذي جمع بين الفقه واللغة والفلك والتصوف، وترك وراءه إرثًا معرفيًا يتجاوز زمنه، ويقاوم النسيان.

النشأة والجذور

وُلِد أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغتي سنة 1007هـ (1598م)، في قرية مرغت بسوس قرب الأخصاص، في بيئةٍ علمية أمازيغية عريقة، وبخاصة في حفظ القرآن وطلب العلم. ارتحل صغيرًا في طلب العلم والمعرفة. درَس بجامعة القرويين بفاس، واستقر به المقام بمدينة مراكش، حيث تولّى الإمامة والخطابة بجامع المواسين وجامع الكتبية. كان المسجد حينها مركزًا للحياة الفكرية، وكان المرغتي يقيم حلقة يحضرها طلبة العلم والفقهاء والمتصوفة، يستنيرون بعلمه. وعلى الرغم من انكماش الحياة العلمية في عصره، فقد استطاع أن يعيد إليها إشعاعها ويبث فيها نفحة الحياة.

موسوعيّة المرغتي

لم يكن المرغتي مجرد فقيهٍ تقليدي، بل كان عالما كبيرا متنوع المعارف. فقد كتب في الفقه المالكي، والتصوف، والمنطق، والتوقيت والفلك، وقضايا الحج والمناسك والأذان والأسماء الحسنى. جمع بين دقّة الحساب في علوم التوقيت، وسموّ الروح في التصوف، وعمق النظر في الفقه والأصول. وهكذا جسّد نموذج العالم الموسوعي الذي ينهل من جميع العلوم ولا يحدّه تخصّص. بل إنه مارس الطب حتى إنه قد عين طبيبا لأحد الأمراء السعديين. لكن ما عُرف عنه من الورع ويقظة الضمير جعله يهجر مهنة الطب بعد أن أدخل عليه مريض قارورة فيها بول ليفحصه. فأقسم على ترك تلك المهنة التي تسببت في إدخال النجاسة إلى بيت الله. لقد كان يرى أنّ رسالة العالِم لا تكتمل بالعلم وحده، بل بالأخلاق التي تُهذّب صاحبه وتُعلي من مكانته بين الناس. وكان شعره شاهدًا على صفاء سريرته. فقد كتب قصائد روحانية ما زال المريدون يرتلونها في الزوايا الصوفية.

أهم مؤلفاته

“المقنع في اختصار علم أبي مقرع”

وهو منظومة في علم التوقيت، وضع لها شرحين: “الشرح الكبير” و”الشرح الصغير”، وكان لها تأثير واسع في الأوساط العلمية المغربية.

“الممتع في شرح المقنع”

وهو كتاب نفيس يجمع بين دقة الحساب الفلكي ولغةٍ أدبية مفعمة بالأسى على تراجع العلم في عصره.

“العوائد المزرية بالموائد”

ويعرف بفهرسة المرغتي، وقد نشرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في ثلاثة أجزاء.

وهناك مؤلفات أخرى في الفقه والتصوف والأذان ومناسك الحج، فضلًا عن منظومات في الأسماء الحسنى وإبطال السحر والتاريخ، مما يدل على موسوعيته وتنوع اهتماماته.

وفاته العلامة المرغتي

توفي العلامة محمد بن سعيد المرغتي سنة سنة 1089هـ (1678م) بسبب وباء الطاعون الذي اجتاح المغرب حينذاك. ورغم رحيله منذ عقود فقد ظل صدى علمه مستمرًا، فقد ترك تلاميذ ومؤلفات ومواقف لا تزال تُلهِم الباحثين، وجسّد صورة العالم الموسوعي الذي لم يعرف التخصص الضيق، بل آمن بأن المعرفة كلٌّ لا يتجزأ.

إن الحديث عن محمد بن سعيد المرغتي السوسي ليس مجرد استعادة لسيرة عالم منسيّ، بل هو إحياء لذاكرة علمية وروحية مغربية ما أحوجنا اليوم إلى استحضارها. ففي زمن الانغلاق والتراجع، كان المرغتي منفتحًا على العلوم والآفاق الرحبة، وفي زمن الفتن والوباء، ظلّ ثابتًا على محراب العلم والخلق. إنه شاهد حيّ على أنّ المغرب، عبر العصور، أنجب رجالاتٍ جعلوا من العلم رسالةً، ومن القلم نورًا ومن الأخلاق تاجًا.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق ثلاثي جديد يوقع في اتحاد تواركة
التالى نقابة الصحفيين المصريين تجدد إدانتها للجرائم الوحشية للعدوان الصهيوني في غزة