في ظل التحولات التي يشهدها الحقل الديني بالمغرب يبرز التصوف كرافد أصيل من روافد الهوية الروحية والوطنية، وكفضاء تربوي يُسهم في ترسيخ القيم الإسلامية السمحة، ومواجهة مظاهر الغلو والانغلاق. غير أن هذا الرصيد التاريخي والروحي لا يمكن أن يُترك عرضة للتأويلات أو التجاذبات، خصوصًا في ظل ما تشهده بعض الزوايا من ارتباك في مشيختها، وتنازع حول شرعية قيادتها.
الزوايا، بما لها من تأثير روحي واجتماعي، لا يمكن أن تكون خارج سلطة المؤسسة الدينية الرسمية، التي يمثلها أمير المؤمنين، ضامن الشرعية وحامي الملة والدين. فالتصوف المغربي، في نموذجه السني المعتدل، لا يكتمل إلا في إطار من الانسجام مع الدولة، وتحت إشرافها المباشر، بما يضمن له الاستمرار والفاعلية، ويُحصّنه من الانزلاق أو التسييس.
وقد تطورت العلاقة بين الدولة والزوايا من التوقير الرمزي إلى التأطير المؤسسي، في نموذج يجمع بين التزكية الروحية والتعيين الرسمي، ويُجسّد خصوصية التصوف المغربي في ارتباطه بالسلطة الدينية الشرعية.
الجذور التاريخية لرعاية التصوف
منذ العصور الإسلامية الأولى كانت العلاقة بين السلطان والزوايا الصوفية علاقة تكامل وتوقير. وبدأت ملامح التنظيم الرسمي تظهر بوضوح في عهد الدولة المرينية، حيث صدرت أولى ظهائر التوقير التي تُمنح لشيوخ الطرق الصوفية، وتُعبر عن الاعتراف السلطاني بمكانتهم الروحية.
في عهد الدولة السعدية استُخدمت الزوايا كقوة اجتماعية لمواجهة التدخلات الأجنبية، وكان التصوف يُعد عنصرًا من عناصر الوحدة الوطنية.
أما في عهد الدولة العلوية فترسّخ هذا الدور بشكل مؤسسي، خصوصًا في عهد السلطان مولاي سليمان، الذي رعى الطريقة التيجانية، وأصدر ظهائر تُنظّم علاقتها بالسلطة، وتُحدد مهام شيوخها.
نحو مأسسة التصوف: من الدعم الرمزي إلى التنظيم المؤسساتي
في القرن العشرين، وخصوصًا في عهد الملك الحسن الثاني، استمر دعم التصوف ضمن رؤية متوازنة بين الروحانية والمؤسساتية. وفي عهد الملك محمد السادس شهد التصوف نقلة نوعية نحو المأسسة الواضحة، من خلال ظهائر شريفة تُعيّن شيوخ الطرق، وتُعيد هيكلة المشيخات، تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
من الوراثة الروحية إلى التأطير المتوازن: قراءة في النموذج المغربي
الزوايا الكبرى مثل الدلائية والفاسية والناصرية كانت مراكز علمية وروحية متكاملة، تُنافس الجامعات، وتُنتج المعرفة، وتحظى بتوقير سلطاني. الزاوية الدلائية نافست القرويين، والزاوية الفاسية ارتبطت بأعلام كبار، والناصرية جمعت بين التصوف والفقه والتاريخ.
وفي المقابل لم تكن الزاوية البودشيشية، التي نشأت في القرن العشرين، امتدادًا لزاوية علمية تقليدية، بل ظهرت في سياق اجتماعي وروحي مختلف، وركّزت على التربية والسلوك دون إنتاج علمي يُضاهي الزوايا التاريخية؛ ورغم انتشارها الواسع واجهت تحديات تتعلق بـ:
* غياب التأطير العلمي الصارم.
* توسّع غير مضبوط في المشيخة.
* توظيفات إعلامية أو سياسية غير منسجمة مع روح التصوف السني.
وقد كشفت الرسالة الاستعطافية التي وجهها مريدو الزاوية البودشيشية إلى أمير المؤمنين، ونُشرت علنًا، عن حالة من التشويش والارتباك في مسألة مشيخة الطريقة، والطعن في شرعية الشيخ الحالي، ومحاولات استبداله بغير ذي سند واضح. هذا الوضع يُبرز الحاجة إلى آليات أكثر وضوحًا ونجاعة في تدبير انتقال المشيخة، بما يضمن وحدة الصف، ويحفظ المكانة الروحية للزاوية، ويُجنّبها التنازع الداخلي.
وفي هذا السياق يبدو من الطبيعي، في ظل النموذج المغربي الذي يجمع بين الروحانية والمؤسساتية، أن يُعاد التفكير في سبل تعزيز الانسجام بين التزكية الروحية والتأطير الرسمي، من خلال إشراك المرجعية الدينية العليا، ممثلة في أمير المؤمنين، في ضبط هذا المسار؛ فبوصفه أميرًا لجميع المؤمنين، وسلطانًا على المال كما هو سلطان على المعنى، تظل إشاراته وتوجيهاته مصدرًا للثقة والقبول، ومظلة جامعة تضمن الاستقرار الروحي، وتُحصّن الزوايا من الانزلاق أو التوظيف المغرض.
بل إن تدخل إمارة المؤمنين يصبح حتميًا حين يطرأ خلل في ولاء “وارث السر”، أو حين تظهر مؤشرات على ارتباطه بجهات خارجية أو ولاءات متناقضة مع الثوابت الوطنية والروحية. فهنا لا يكون الأمر مجرد خلاف داخلي، بل تهديدًا للرواية المغربية في التصوف، وللوحدة الدينية، ولأمن الوطن الروحي. ومن ثم فإن حماية الملة والدين والوطن والرواية تقتضي تدخلًا حازمًا من المرجعية العليا، بما يضمن استمرار التصوف المغربي في مساره المتوازن، ويُبقيه في حضن الأمة لا على هامشها.
ليس المقصود هنا فرض نمط معين، بل اقتراح عقلاني يُراعي خصوصية التصوف المغربي، ويُسهم في بناء نموذج متوازن يجمع بين الوفاء للسند الروحي والانضباط للمؤسسة الدينية، في إطار من التكامل لا التنازع، ومن الحكمة لا الإقصاء.
التزكية الصوفية والشرعية الرسمية: تكامل لا تعارض
في التصوف التقليدي يُمنح الشيخ تزكية من شيخه السابق عبر سند روحي، يُعبّر عن انتقال السر وتوارث التربية. غير أن هذا السند، رغم أهميته، لا يُعد كافيًا في السياق المغربي الحديث، حيث أصبح التصوف جزءًا من الحقل الديني الرسمي، ويخضع لضوابط مؤسساتية تُشرف عليها الدولة.
ففي النموذج المغربي لا تُمنح المشيخة فقط بناءً على الوراثة الروحية، بل تُعزَّز بتعيين رسمي من أمير المؤمنين، لضمان الشرعية، وضبط المهام، وتحديد المسؤوليات. وهذا الجمع بين التزكية الروحية والتزكية السلطانية يُجسّد خصوصية التصوف المغربي، الذي يربط بين السلطة الدينية والسلطة السياسية في إطار من الانسجام والتكامل.
وهذا ما يُفسّر الحاجة إلى تدخل المرجعية العليا في حالات الارتباك أو التنازع، كما ظهر في نموذج الزاوية البودشيشية، حيث لم يكن الخلاف مجرد مسألة داخلية، بل تجاوز ذلك إلى تهديد محتمل لوحدة الصف الروحي، ما يستدعي ضبطًا مؤسساتيًا يُعيد التوازن، ويُحصّن الزوايا من الانزلاق أو التوظيف المغرض.
التصوف كرافد من روافد الثوابت الدينية
التصوف المغربي يتميز بارتباطه الوثيق بالسنة النبوية، ويُعرف بـ“التصوف السني”، الذي يُركّز على التربية الروحية، التزكية الأخلاقية، والسلوك المتوازن. وقد لعبت الزوايا دورًا محوريًا في:
* نشر القيم الإسلامية المعتدلة.
* مقاومة التطرف والغلو.
* تعزيز الانتماء الوطني والولاء للثوابت.
ومن هنا فإن رعاية إمارة المؤمنين للتصوف لا تقتصر على التعيين أو التنظيم، بل تُعد جزءًا من حماية الثوابت الدينية: العقيدة الأشعرية، المذهب المالكي، والتصوف السني، وهي المكونات الثلاثة التي تُشكّل الهوية الدينية المغربية.
وهذا ما يجعل من ضبط المشيخة، وتحصين الزوايا، وتوجيهها نحو خدمة الأمة، ضرورة وطنية، لا مجرد خيار تنظيمي. فالتصوف، حين يُدمج في إطار مؤسساتي منسجم مع الثوابت، يُصبح قوة تربوية وروحية تُسهم في بناء الإنسان.