قال عالم الإناسة المغربي عبد الله حمودي، الأستاذ البارز في جامعة برينستون الأمريكية، إن “برنامج الإبادة أو ترحيل الفلسطينيين قسرا أو بوسائل أخرى كان جاهزا قبل 7 أكتوبر 2023، وكل ما هنالك أن الحكومة المتطرفة لليكود كانت قد استولت على كل المؤسسات والقوات منذ ثلاثين سنة في الدولة الجديدة المسماة إسرائيل، وهي دولة جديدة أوروبية التنظيم والمؤسسات، ومفاهيم الحكم، وتراتبية الدول والمنظومات الحكومية والحضارية على وجه المعمور”.
الأكاديمي الذي شغل منصب مدير معهد الدراسات الإقليمية بجامعة برينستون، أردف قائلا لهسبريس: “الحاصل أن حكام إسرائيل ومعظم منظريها ومثقفيها قد أسسوا مؤسساتها على أساس تلك التراتبية؛ بأن دولة إسرائيل دولة لها قيمة سامية، تسمو على القيم بالمنطقة. وكان ذلك واضحا في الأسس العرقية لتلك التراتبية، والأهم أن تلك التراتبية وأساسها العرقي تتقاطع مع تراتبية النظام الأمريكي، وخاصة النظام الجديد تحت قيادة الجمهوريين، وهذا ظاهر في الخطاب والممارسة؛ فهناك أيضا دعم لا مشروط لإسرائيل رغم ما يقال. وقد تعمق إلى درجة التماهي بين الولايات المتحدة الجديدة في ظل قيادة الجمهوريين ودولة إسرائيل”.
لكن، “رغم ما ينبه إليه هذا التشخيص من بواعث التشاؤم والاستسلام لنظرية وممارسة هذين النظامين”، فإنه من الأقصى أهمية في نظر حمودي “التعبير على رفضنا التام لهذا الواقع الجديد وأسسه الإيديولوجية، واللاأخلاقية، وألا نستسلم للتشاؤم ولو دقيقة، ونتشبث بنظرتنا المتفائلة لمستقبل الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية الإسلامية، وذلك على أساس الأخلاق والفكر، وألا نستسلم للتلاعب مع المبادئ الأخلاقية الصحيحة التي لا بد أن ترجع إلى مكانتها لتأسيس علاقات جديدة بين الأمم والشعوب”.
ضد الإبادة والتجويع
وجه عبد الله حمودي في أواخر دجنبر من سنة 2023 نداء قال فيه: “صاحب الجلالة، ملكنا، أمير المؤمنين، الرئيس الشرعي لدولتنا، الضامن لهويتنا المتعددة (…) هذه الأمة الفلسطينية تجد نفسها منذ ذلك الحين تحت هجوم مستمر، مطاردة بشكل منهجي من قبل دولة-أمة إسرائيلية جديدة، ذات تصور أوروبي، نشأت من حركة قومية في القرن التاسع عشر (…) بتسليحها الفائق ودعمها من طرف أوروبا وأمريكا، يبدو كما لو كان القرار قد اتُخذ للتضحية بالشعب الفلسطيني كقربان، في محاولة لتطهير الذنب الناجم عن الهولوكوست. وهو ما يؤدي في الواقع إلى تكرار الإبادة الجماعية. والدولة الألمانية بشكل خاص لا تفعل سوى التضحية بشعب ثانٍ (…) ألتمس منكم منع تنفيذ هذا المخطط بطلب وقف إطلاق النار فوري وبدون شروط مسبقة. صاحب الجلالة، أجرؤ على مناشدتكم تعليق اتفاقية إقامة العلاقات مع دولة إسرائيل، إلى أن تتخلى هذه الدولة عن هجومها العسكري المستمر منذ منتصف القرن العشرين، وتوقف الحرب الحالية على غزة، وتقبل باحترام شعوب ودول منطقتنا”.
وفي هذه المرحلة من “الإبادة الجماعية” ضد الفلسطينيين بغزة، ونهج سياسة “التجويع” من طرف إسرائيل، قال عبد الله حمودي في “موقف” عبر عنه لهسبريس: “حان الوقت لدعوة الناس إلى التظاهر السلمي باستمرار، والخروج من الشعارات العامة إلى شعارات تطالب الجهات الرسمية بأخذ المسافة الضرورية مع التطبيع واتفاق إبراهيم (المعروفة بأبراهام)، وقطع العلاقات مع إسرائيل وإغلاق السفارة الإسرائيلية في بلادنا”.
ونادى حمودي بـ”الجهد من طرف الدولة في احترام مشاعر الشعب وتوجهاته، وتجاوز هذا الانفصام الحالي بين تطلعات الشعب وممارسة الدولة في هذا المقام”.
ثم زاد: “حرب الإبادة الكاسحة اليوم في غزة على شعب بكامله ليست حرب حماس فقط، ولكنها انتفاضة شعب بكامله في غزة، ولا بد أن نقول بصراحة إن هذه الحرب حرب إبادة، وليست حربا بين حماس وإسرائيل، فهذا تمويه. بل إن حماس تسمية في أفواه الحكومة الإسرائيلية والكيان مع استثناءات معروفة، وتصنيفها في قائمة الإرهاب هو، بمثابة نعت مجازي، تصنيف الإسلام كله في الإرهاب، وهذا لا يقبل. لا يمكن أن نستسلم لتلك التسميات، والطبقة الحاكمة اليوم في أمريكا ومن يساندها قليلا ما تسمع في أفواههم كلمة فلسطين أو فلسطيني أو عربي، بل المهيمن هو كلمات: الإرهاب والمنظمة الإرهابية، وهو تعبير مجازي عن الواقع العربي الإسلامي بصراحة. وهذا لا يقبل”.
وتابع حمودي: “الاستمرار في التطبيع رغم كل هذا من طرف الجهات الرسمية التي تستمر فيه وتنمّيه، والجهات غير الرسمية من أمثال “كلنا إسرائيليون” وغيرها (…) يجعل مستقبل المغرب الأدبي والأخلاقي في خطر لا يمكن السكوت عليه”، وهو “خطير بالنسبة لمستقبل البلاد فيما يتعلق بالعدالة الكونية التي لا بد أن ترجع يوما إلى وجه الأرض في ظل التنكر لمبادئها اليوم من طرف إسرائيل والدول والقوى المتماهية والداعمة لها”.
لا للاصطفاف الحزبي
شدّد عبد الله حمودي على أن الوقت اليوم في المغرب “ليس وقت الاصطفاف بمنطق حزبي أو غيره وراء القضية الفلسطينية العادلة والمشروعة”، مضيفا: “طبعا اطلعت على مواقف مثقفين مغاربة ومثقفات مغربيات محترمين، عبروا عن موقفهم الداعم للقضية الفلسطينية وهذا جيد وأثمنه. ووقفت على موقف العدل والإحسان، من طرف الأمين العام السيد العبادي، وفي نظري فإن تعددية الأصوات التي تعبر عن دعمها للقضية المشروعة والعادلة للشعب الفلسطيني كيفما كان عددها وتنوعت، فهي في الاتجاه الصحيح، وليس هناك مانع للتعبير عن أصوات أخرى ما دام الهدف الأساس هو القضية الفلسطينية والعربية المشروعة”.
وتابع حمودي: “القضية الفلسطينية لها اليوم طابع كوني تعدى كونية الفلسفات والممارسات الأورو-أمريكية، كما يعبر عنها ‘الغرب’، علما أني لا أفضل ذلك المصطلح، لكن أؤكد أن الأفق الأخلاقي وما قام به الشعب الفلسطيني بمثقفيه ومناضليه وبالتضحيات هو الأفق الكوني الذي يتبلور يوما بعد يوم، ويتجاوز الرؤى الجزئية التي أصبحت هي الرؤية الطاغية اليوم في الأنظمة الأوروبية والأمريكية”، علما أنه “لا بد أن نفرق بين الأنظمة وبين حياة الشعوب الثقافية والدينية”.
وواصل حمودي شارحا أنه عند التفريق بين الأنظمة وحياة الشعوب، نجد “أنه فيما يسمى الغرب اليوم مفارقة الانفصام الكبير بين الشعوب والحكّام في أمريكا وبريطانيا العظمى وأوروبا… وقد بدأ ذلك يؤثر على مواقف تلك الدول. وهذا بالنسبة لبريطانيا، وهولندا، وفرنسا، إيجابي ولكنه لا يكفي أبدا”.
وذكر الأنثروبولوجي أن “القضية الفلسطينية هي اليوم قضية عالمية أوصلتنا إلى أفق كونية أشمل”، بالتالي فإن “منطق التقاطبات بالنسبة للمواقف المؤيدة للحق الفلسطيني” غير معقول ولا مقبول؛ لأن “المنطق في حد ذاته تجُوّز (في ظل جبروت إسرائيل والتحالف التام الأمريكي معها ومع أنظمة ‘غربية’ أخرى). وقد ظهر منطق كوني جديد، ونَدين لاستماتة المقاومة وتضحيات الشعب الفلسطيني في تبلوره، وهذه كونية جديدة، يمكن أن ننخرط فيها بأصوات متعددة حسب المشارب، وبقبول هذا التعدد في الاتجاه الصحيح”.
قضية فلسطين والمغرب والإنسان
في ظل “المنطق الكوني الجديد”، قال عبد الله حمودي: “ربما الطريق هي القبول بتلك التعددية في نفس الاتجاه، بتشبث بمشروع ملكية ديمقراطية، بإصلاح معقول، وأعي أن صوتي صوتٌ من بين الأصوات، ولا أنكر الأصوات الأخرى. وإذا تعددت الأصوات ونمت في إطار سلمي، وتظاهرات جماعية، فإن النتيجة ربما ستكون تحررنا من التطبيع واتفاقيات الهيمنة، وإنجازنا مصالحة وطنية في ظل المبادئ الديمقراطية والمبادئ الجديدة التي تسمو إلى الكونية. وهي كونية أنارت لنا الطريق إليها تضحيات الشعب الفلسطيني الجسيمة في غزة، وتضحياته غير المسبوقة، ويمكن تجاوز النكبة الجديدة والتصفية المستمرة، وتحقيق انبعاث جديد لشعوبنا رغم الحاضر القاتم والقاتل”.
وسجل الأكاديمي يقينه بأن “نساء ورجال العرب والمنتمين إلى المنطقة كيفما كانت ثقافاتهم ولغاتهم، يشعرون اليوم، قادة وأفرادا، بالإهانة داخل قلوبهم. هذا هو شعوري الآن، أحس بأننا مهانون، وغالبية الجهات الرسمية تشعر بالإهانة، وهناك طبعا قسط يتكالب وراء مصالحه، وأريد أن أؤكد أن موقفي هذا لا ينادي بتصفيات داخل مجتمعاتنا، ولكن ينادي بتكتل، ضد من يسمون أنفسهم ‘كلنا إسرائيليون’ وهم منا، ولا نخاف منهم، ولنا وسائل دحضهم بالتكوين للكتلة الثقافية الجديدة، وهذا يكفي”.
وأضاف المصرح: “إذا نجحنا في ذلك، لا بد أن نمد اليد، ولا نبقى منغلقين، للإسرائيليين اليهود المنادين بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية؛ لأن هناك انقساما اليوم بين (منتمين للديانة اليهودية) ولا بد من الانفتاح على منظمات عتيدة مثل ‘أصوات يهودية من أجل السلام’ في أمريكا مثلا، فاليهود ليسوا كتلة واحدة ومنهم تيارات وشخصيات منفتحة على الحقوق الفلسطينية دون رجعة على ما أعتقد، ولا يمكن الانغلاق على ذلك باسم فلسفة أو دين”.
ثم أردف حمودي: “ننفتح على كل المغاربة، من يهود وغيرهم الذين واللواتي يؤمنون بعدالة القضية الفلسطينية، وهذا مهم”، كما ذكر أنه مع التحقيق مع المواطنين من أصل مغربي الذين انخرطوا في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفق قانون الجنسية المغربي “كما اتضح لي في نقاش مع المناضل الكبير نويضة، وقد أجاب عن سؤالي حول إعادة قراءة هذا القانون سيون أسيدون، حول إمكان استبعاد كل من ساهم وانخرط في جيش من نظام معاد من المغربيات والمغاربة والتحقيق معهم (…) وهذا طبعا شيء لا بد أن نطالب الأوساط الرسمية بتحقيقه عمليا”.
ويبقى الأساس في ختام موقف عبد الله حمودي الذي استقته هسبريس، الضغط من أجل وقف الإبادة الجماعية والتجويع، وضمان حقوق الإنسان والعدالة للجميع، وإعادة ترتيب العلاقة في العالم التي هي “مهمة وحرجة من أجل المستقبل”، مع تضافر جهود الجميع داخل المغرب وخارجه بمختلف أديانهم وانتماءاتهم ورؤاهم؛ فـ”هناك مثلا يهودٌ اليوم يدعون إلى شيء أساسي هو حق العودة للفلسطينيين منكوبي 1948، ومنكوبي الأجيال الأخرى التي رحّلت بكيفية أو بأخرى. وحق العودة ليس متقادما، وهو من أسس بناء مجتمع جديد على أرض فلسطين التاريخية”.