هل سكنّا يوما بيتًا، فشعرنا أنه يُبادلنا الأمان؟ وهل جلسنا يوما في غرفة فانبسط صدرنا وكأنها تحتوينا؟ وهل ارتجفنا يومًا من زلزال، لكن أحسسنا أن المبنى معنا، لا ضدنا؟
منذ أن بدأ الإنسان يشيّد، لم يكن يشيّد للجسد فقط، بل للروح أيضًا. ومع تطور العلوم الهندسية في مواجهة المخاطر الطبيعية كالزلازل، بدأت تظهر مقاربات جديدة تسعى إلى دمج الاستجابة الهندسية الميكانيكية بالحس الإنساني العاطفي. وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل يمكن لهندسة البنيان أن تصبح امتدادًا لهندسة الإنسان؟ وهل يمكن للمبنى ألا يكون مجرد ملجأً من الزلازل، بل رفيقًا في الصدمة؟
يروم هذا المقال استكشاف هذا الأفق من خلال ثلاثة محاور متكاملة:
1. الهندسة السيكولوجية للمباني.. حين يتكلم الحجر بلغة الإنسان.
2. الاستجابة المعمارية للأزمات.. البنيان في لحظة الزلزال.
3. نحو عمران عاطفي.. من العمارة الباردة إلى البنية الوجدانية.
المحور الأول: الهندسة السيكولوجية للمباني.. حين يتكلم الحجر لغة الإنسان
في العقود الأخيرة، بدأ يتشكل تيار علمي جديد في الهندسة المعمارية يُعرف بـ”الهندسة السيكولوجية للفضاء” (Environmental Psychology & Architecture)، ويركز على فهم العلاقة العميقة بين الإنسان والمكان الذي يقطنه، ليس فقط من حيث الوظيفة أو الجمالية، بل من حيث الأثر العاطفي والنفسي.
تشير دراسات متعددة إلى أن شكل المبنى، ولونه، وتوجيهه نحو الشمس، ومواده الخام، وأنماط فتحاته (النوافذ، الأبواب، الأفنية)، كلها عناصر تؤثر على الإدراك والمزاج، وحتى القرارات اليومية التي يتخذها الإنسان.
بل إن بعض العلماء المعاصرين يقترحون مفهوم “الذكاء المكاني التفاعلي”، حيث تُبنى البيوت لا فقط لتُسكَن، بل لتستشعر ساكنيها وتتكيف مع مزاجهم.
وقد وجد الباحثون أن المساحات المزدحمة أو القاتمة أو ذات الزوايا الحادة قد تزيد من التوتر العصبي، بينما المساحات المفتوحة والمنحنية والخضراء تُحفّز على الهدوء والتركيز والتعافي.
هنا يتجاوز البنيانُ دوره المادي، ليصبح معالجًا نفسيًا صامتًا.
وهكذا ننتقل من المعادلة الإنشائية: قوة = حمل ÷ مساحة إلى المعادلة الإنسانية: راحة = حس + إحساس + إدراك وبينهما، يولد عمرانٌ يحسُّ بك قبل أن تحسَّ به.
المحور الثاني: الاستجابة المعمارية للأزمات.. البنيان في لحظة الزلزال
الزلازل، باعتبارها صدمات مفاجئة، تكشف لنا ما لم يُبنَ جيدًا، وما لم يُحسب له حساب. لكنها في الوقت نفسه، تُعرّي العلاقة بين الإنسان والمبنى في أقسى لحظة.
هل هو سقف يحميك؟ أم قبرٌ ينقلب عليك؟ هل الجدران حليفة أم خصم؟
لذلك، لا تكفي الحلول التقليدية التي تعتمد على قوانين مقاومة الإجهاد والانبعاج، بل نحتاج إلى بنية تستجيب نفسيًا قبل أن تتحرك ميكانيكيًا.
في هذا السياق، ظهرت ابتكارات مثل: المنازل الطافية ضد الزلازل، والأبراج القابلة للارتجاج الذكي، والجدران الذكية الممتصة للطاقة.
لكن السؤال: هل يستشعر هذا النظام مستوى الذعر البشري؟ هل يُحس أن سكانه أطفالٌ أو مرضى أو كبار في السن؟
هنا يتقاطع المفهومان: الهندسة الإنشائية التي تتعامل مع الكتل والقوى، والهندسة الإنسانية التي تتعامل مع القلق، والخوف، والحاجة إلى الشعور بالحماية.
ومن هذا التفاعل، يمكن تطوير مبانٍ تشتغل بطريقة طبية نفسية لحظة الأزمة، عبر: إضاءة مطمئنة أوتوماتيكية، وأصوات خافتة تُصدر رسائل تهدئة، وأنظمة ذكية تُظهر للسكان أن المبنى متماسك وتحت السيطرة.
إنه بعبارة أخرى: بناءٌ “يحضنك” ساعة الزلزال، بدل أن يُفزعك.
المحور الثالث: نحو عمران عاطفي.. من العمارة الباردة إلى البنية الوجدانية
طوال قرون، تعلّق الإنسان بجدرانه.. كتب عليها، وعلّق صوره، وخاطبها حينًا.. وهرب منها حين ضاقت نفسه.
لكن أغلب البنيان في العصر الحديث فقدت هذه الحساسية العاطفية، وصارت صندوقًا باردا، يفرض حضوره دون أن يتفاعل.
في المقابل، تطمح العمارة الإنسانية المعاصرة إلى بناء “عمران وجداني”.. يسمع نبض ساكنه، ويغيّر حاله بحالهم. لا يعني هذا أن الجدار سيبكي معك، أو أن السقف سيغني لك، بل إن: تصميمه، ومواده، وتفاعلاته الذكية، كلها ستُفهمك ضمنًا أنك لست وحيدًا.
فمنزلُك لم يعد فقط مساحة.. بل علاقة. وحجارتك لم تعد فقط مواد.. بل مرايا لأحاسيسك.
تخيل أن تكون العمارة القادمة على هذا الشكل: بيت يعرف متى تكتئب فيضيء شرفتك. وغرفة تعلم أنك قلق، فتبثّ أصواتًا من البحر. وبناية ترفع نفسها عن الأرض وقت الزلزال.. وتهمس لك: “اطمئن، أنا معك.” هذا ليس خيالًا علميًا، بل بداية هندسة الإنسان عبر البنيان.
ختاما: لنبنِ الإنسان أولًا، ثم لنبنِ له سقفًا يليق بروحه في زمن الأزمات البيئية، والزلازل النفسية، والهشاشة الحضرية.. لم يعد مطلوبًا من المهندس اليوم، أن يكون بارعًا فقط في الخرسانة والحديد، بل أن يكون شاعرًا بالإنسان.. شاعريًا في استجابته له.
فهندسة البنيان لا يجب أن تُصمَت، بل تُفهم. وليس أجمل من عمران يستجيب للحدث، ويحتوي الحس، ويذكّر الإنسان دومًا أنه ليس في بيتٍ فقط، بل في حضنٍ معماريٍّ ذكيٍّ يُصغي ويستجيب.. “البنيان الذي لا يحس بك.. لا يستحق أن تسكنه”.