“Une bonne photographie consiste à savoir capturer la profondeur des sentiments, pas la profondeur du champ.”
Peter Adams
“La meilleure chose à propos d’une image est qu’elle ne change jamais, même lorsque les personnes qui y figurent changent.”
Andy Warhol
“Ce que j’aime dans les photographies, c’est qu’elles capturent un moment qui est parti pour toujours, impossible à reproduire.”
Karl Lagerfeld
بورتريه السلطة: عندما يُعاد تشكيلُ الواقع وُقوفاً
لسْتُ مُتأكدًا تمامًا متى بدأ وَلَعي العجيب بالصّور البروتوكولية، لكنني أستطيع القول بثقة، هي صنف من الصّور التي تُثير في نفسي ما لا تُثيره اللّوحات الفنية، ولا الكتب الفلسفية، ولا حتى أحاديث المقاهي؛ إنها تحفٌ بشرية مُؤطرة بالإجبار، تشبه ضحكة موظف في عزّ التقشف.
لماذا إذن أحبّ الصّور البروتوكولية؟ ربما لأنها تُقدّم لنا أعمق خطاب من دون أن تنطق بكلمة؛ صورة واحدة تكشف حجم الكذب البَصَري الذي نعيشه يوميًا، لكنها تفعل ذلك بربطة عنق مُتقنة، ونظرة بعيدة، وخلفية وطنية. ولماذا تثير انتباهي؟ لأن كل شيء فيها مدروس حدّ العبث: الكرسي ليس للجلوس، وإنما لتأكيد المقام؛ والوثيقة على الطاولة ليست للقراءة، وإنما للتوقيع الفوتوغرافي؛ وأما الابتسامة فلا تعكس السّرور، بقدر ما هي للضرورة البَصَرية. لماذا أتأملها بلهفة؟ لأنها اللحظة التي يمنح فيها الحضور الإنساني للسّلطة طابعًا شبه مقدّس؛ وربما لأنها معْمودية المسؤول: لا يُعترف به إلا حين يظهر محاطًا بجمهور واقف بعناية، وسجادٍ أحمر، وستارة توحي بوقار المؤسسة (حتى لو كانت مُفلسة). ولذلك فهي صورة تُلخّص كل شيء: اجتمعوا، تصافحوا، ناقشوا شيئًا ما، اتفقوا على شيء غير محدد… انصرفوا وكلّهم أمل في أن تُنشر الصورة قبل أن تُنسى المناسبة. لأجل ذلك كله تُضحكني الصّور البروتوكولية بقدر ما تُخيفني، تُريني وجهًا رسميًا للحياة شديد الهشاشة، كأنني أشاهد تمثيلية يؤديها الجميع باحتراف، ولا أحد يجرؤ على نسيان دوره، ولو لثانية. فمن يخطئ في وقفته، أو يضحك في غير أوانه… قد لا يظهر في الصّورة القادمة.
احتفالٌ بالعَلامة حين تنفَصلُ عن المرجع
من منظورٍ سيميائي ليست الصورة البروتوكولية مجرّد تمثيل لواقعة سياسية أو إدارية، بقدر ما هي نظام دلالي قائم بذاته، يصنع واقعه بدل أن يُحاكيه. من هذا المنظور فهي تُوثّق حدثًا، وتُنتجه رمزيًا في الآن ذاته؛ فالاجتماع ربما لم يكن مُثمرًا، والحوار قد يكون سطحيًا، لكنّ الصّورة تعلن نهاية ناجحة، مهما كانت البداية هزيلة. في هذا السياق تتحوّل الصورة إلى ما يُسميه رولان بارت “العلامة المجرّدة” وقد انفصلت عن مرجعها الواقعي، لتُصبح رمزًا مستقلًا بذاته، يُؤدّي وظيفة اجتماعية ومعرفية. فمن يُشاهد صورة لوزير يُصافح نظيره لا يسأل أبدًا: ماذا دار بينهما؟ لأنه يكتفي بما تقوله الصورة بصمتها السّاحر: “هناك علاقة، هناك تواصل، هناك سياسة قيد التشكل”. ولو لم يكن هناك شيء فالعَدسة كَفيلة باختلاق شيءٍ منه.
بهذا المعنى، حين نُحلّل الصّورة البروتوكولية لا نحلّل وجه الوزير أو زاوية الالتقاط فحسب، بيد أننا نهتمّ أكثر بتحليل بنية خطابية كاملة: ملابس، ترتيب مكاني، خلفية، تعابير وجه، توقيت النّشر، والتعليق المُرفق. فكل عنصر في الصورة يُنتج معنى، ويُحيل على شيء “واقعي”، وعلى “السّلطة بصيغتها المثالية”. بهذا الخيار يتقاطعُ التحليل السيميائي مع رؤية جان بودريار التي يدافع فيها عن فكرة اعتبار الصورة مثالًا ناصعًا على “محاكاة المحاكاة”، حين لا تُحاكي واقعًا سياسيًا، وإنما تحاكي صورة مثالية سابقة عن “كيف يجب أن تبْدوَ السّلطة”.
في الصورة البروتوكولية لا أحد يُدير ظهره لأحد. كل الأكتاف متجاورة، كل الرؤوس مُنتصبة، وكل العيون تنظر إلى عدسة المصوّر وكأنها تنتظر خَلاصها: رؤساء، وزراء، وفود رسمية، وحتى مُصافَحاتٌ لا أحد يذكر بعدها ما الذي اتُّفِق عليه. المهم أن الصورة وُثِّقت، والربطة مُنسَّقة، والبذلة خالية من التجاعيد. أحيانًا، يتفوّق المصوّر على الفيلسوف، فهو الوحيد القادر على جعل الوقت يبدو ثابتًا، والموقف واضحًا، رغم أن لا أحد يفهم ما الذي يحدث حقًا. خذْ أيَّ صورة لمؤتمر دوْلي سترى المشاركين يقفون مثل تماثيل شمْعٍ مُحترمة، لكنهم في الواقع يُفكّرون في أشياء شديدة الخصوصية: أحدهم يتمنى لو لم يأكل ثومًا في الفطور؛ والآخر لا يتذكر اسم الزميل الذي يقف بجانبه. لكن، هل تساءلنا يومًا: من يلتقط الصور للبؤساء؟ للفقراء؟ للمُعلّمين المُنهكين؟ للمُزارعين الذين لا يعرفون معنى كلمة “بروتوكول”؟ لا أحد؛ لأنهم ببساطة لا يرتدون بذلات رسمية، ولا يقفون على سجاد أحمر، ولا يهم إن كانت ربطات أعناقهم متناسقة.
السُّلطة المَرْئية: حين يُصبحُ الظهور بديلاً عن الإنْجاز
في أنظمة تُحب الطقوس أكثر مما تُحب النتائج تُصبح الصورة البروتوكولية دليلاً على الفعل، حتى وإن لم يحدث الفعل؛ إنها “دليل إثبات رمزي”، كأن الوزير لا ينجز شيئًا حتى تُلتقط له صورة، وكأن المؤسسة لا تُوجد إلا عندما تُعلن عن نفسها بصريًا. ولذلك تُنتج الصورة الرسمية شعورًا جماعيًا بـ”وجود الدولة”؛ إنها الطمأنينة البصرية التي نشتري بها القليل من المعنى في عالم تغيب فيه الفعالية. في النهاية، الصورة البروتوكولية ليست كذبًا، إنها صدقٌ من نوع خاص: صدق شكلاني، بارد، محسوب، يُرضي الحاجة إلى المعنى دون أن يُشبعها؛ هي قناعٌ فلسفي ترتديه السلطة حين لا تجد ما تُفصح به؛ تَعِد بكل شيء… دون أن تُلزِم نفسها بشيء.
لست مفتونًا بالصورة البروتوكولية لأنّها جميلة، فهي نادرًا ما تكون كذلك، ولست مأخوذًا بها لأنها عفوية، فهي لا تعرف إلى العفوية سبيلاً؛ أفتتن بها لأنها تمثّل أسمى درجات “التمثيل”، وأقصى ما يمكن أن تبلغه الواجهة حين تنفصل عن الجوهر.
يتحقّق في الصورة البروتوكولية شيء نادر الحدوث: تجمُّع بشري يتّفق فيه الجميع على الصّمْت، وعلى الظهور، دون أي التزام بالمحتوى؛ إنها لحظة تتجمّد فيها الحياة، لا من أجل التأمل، وإنما من أجل الإيحاء بأن شيئًا مهمًّا قد حدث؛ إنّها التجلّي البَصَري لإرادة الدولة في أن تقول دون أن تتكلّم، وأن تُعلن دون أن تُفكّر، وأن تُمسك الحقيقة من عنقها… ثم تُطلقها لاحقًا عبر بيان صحفي مكتوب بلغة مُحايدة.
هل لاحظتَ كيف يقف الجميع في الصورة؟ الرؤوس مرفوعة، والأكتاف مصفوفة، والعيون تنظر نحو الأفق، كأنهم جنود في جيش لا يخوض حربًا، بيد أنه ينتصر فقط في ساحات الفلاش، كأنهم يُشاركون في طقسٍ حديثٍ من طقوس السلطة: حيث الرمزية تحلّ محلّ الفعل، والظهور محلّ الإنجاز، والبذلة محلّ الرؤية. المدهش أن هذه الصور تتكاثر، وتتناسخ، وتتشابه. لا تكاد تفرّق بين لقاء وزاري هنا، ووفد رسمي هناك، ومؤتمر دولي في قاعة مُكيّفة. الابتسامات هي ذاتها، الوثائق هي ذاتها، وحتى النوايا المُعلَنة… محفوظة ومتكررة، كأن الزمن لا يتقدّم، لكنه يدور حول عدَسة مُعلّقة فوق التاريخ. أكادُ أجزم أنّ الصور البروتوكوليةلا تُوثّق لما حدث، وإنما لما نُريد أن نُقنع به أنفسنا بأنه حدث؛ من ثمة فهي لا تُخاطب الحاضر، لأنها تُصمَّم خصيصًا للمُستقبل:كي نقول، ذات يوم، “كنا هناك” حتى لو لم يكن هناك شيء.
المقعد الجانبي الذي صنع التاريخ
في كل صورة بروتوكولية هناك مقعد جانبي يُحشر فيه موظف لا يعرف لماذا جِيء به، ولا متى يُفترض أن يغادر. ذلك الكرسي يجلس عليه شخص يحمل ملفًا بلا أوراق، أو أوراقًا بلا معنى، أو لا يحمل شيئًا سوى نظرات مُترددة تتساءل: “هل أبتسم؟ هل أنا فعلاً في الصورة؟ هل أنا موظف؟ هل أنا موجود؟”؛ ولأنه لا يريد أن يُظهر جهله بالموقف فإنه يُطبّق أرقى تقنيات البقاء الإداري: يتظاهر بالفهم؛ لا أحد يعلم اسمه، لكنه يظهر في كل الصور، كأنّه “شاهد” في محكمة الحداثة الشكلانية.
هو لا يوقّع على شيء، لكنه يحرص على وضع نظاراته في جيب سترته كما يفعل الكبار، يبدّل موضع قدميه بانضباط تام، كأن كل إيماءة جزء من بروتوكول دولي صارم؛ ولو اقتربت من ملفه لا تجد فيه سوى وثيقة قديمة منتهية الصلاحية، أو مذكرة داخلية لا تخصه، لكنه يعرف أن الظهور نصف البقاء، وأن حركة الرأس المدروسة تُغني أحيانًا عن ألف وثيقة؛ هو متخصص في فن التموقع، ذلك الفن الذي لا يُدرّس في الجامعات، بل يُكتسب عبر التسلل الصامت إلى هامش الصورة. وفي خلفية الصورة يدرك المصوّر المحترف أن هذا الكائن الجانبي ضرورة جمالية: هو من يُحدث التوازن البَصَري، يمنح المشهد بعدًا بيروقراطيًا يُرضي الذوق الإداري العام؛ وجوده مثل الفاصلة في الجملة الطويلة، لا تغيّر المعنى لكنها تُريح العين. لكن العجيب من كل ذلك أن هذا الموظف، بعد عشرين عامًا، سيعتمد تلك الصور بوصفها دليلاً على مسيرته المهنية، سيعرضها على أبنائه كأثر من زمن الظهور، وسيُقنع نفسه أن قربه من السلطة كان له مغزى، وأنه في لحظة ما لعلّه ابتسم الابتسامة الصحيحة إلى الكاميرا الصحيحة؛ وكأنَّ الحداثة الشكلانية، وقد استدعته يومًا شاهدًا، قررت أن تُبقيه إلى الأبد في أرشيفها، كبرهان حي على أن المجهول قد يصير جزءًا من المشهد، بمجرد أن يتقن فنّ الجلوس بدون أن يطرح أيّ سؤال.
حينما تُغيّر الكاميرا لغة الجسد
بمجرد أن تدخل العدسة القاعة تتحوّل لغة الجسد إلى مسرحية صامتة بامتياز. من كان يصرخ يُهدّئ نبرته فجأة، ومن كان يشرب القهوة كأنه في استراحة مطعم شعبي يُخفي الكأس كأنها دليل إدانة؛ حتى من كان نائمًا نصف نومة إدارية مقدّسة يستيقظ تلقائيًا، ويأخذ هيئة “المفكّر الذي يُدبّر أمر أمة”. الكاميرا تُربّي أكثر من قوانين الوظيفة العمومية، إنها العين التي تحكم، والعدسة التي تُجمّل؛ وهي حين تشتغل تُعيد ترتيب ما يجب أن يُحدث، تُجبر الواقفين على الوقوف بشكل عمودي أكثر؛ تُولد فجأة كيمياء جماعية من التصنّع، يُصبح فيها الجميع أكثر حضورًا مما هم عليه فعلاً، وكأن الانتماء للمشهد يمر من بوابة اللقطة المُتقنة، لا من صميم الفعل أو صدق الانشغال.
إنها لحظة إعادة تعريف الذات في ثوانٍ: يتحوّل الموظف العادي إلى شخصية اعتبارية، وتتحوّل العبثية اليومية إلى مناسبة تاريخية. كل تفصيل، من ربطات العنق إلى الحواجب المرفوعة، يُعاد إنتاجه بوصفه تمثيلًا للجدية الوطنية. ثم، بعد مغادرة المصوّر تعود الحياة إلى عشوائيتها المُحببة: صوت الهاتف المزعج، وجلسات تذمر. لكن شيئًا ما يبقى معلقًا في الهواء… إحساس غامض بأن الصورة أهم من الواقع.
والأخطر أن هذه الصور ستغدو بعد حين وثائق إدارية تُعتمد كدليل مشاركة، ستُدرج في التقارير السنوية، وتُعرض على الزوار، وتُطبع في الكُتيبات الرسمية. هكذا تصنع الكاميرا وهْمَ الإنجاز: تجعل من حضور عابر مناسبة دائمة، وتمنح للمسرح الإداري صفة الأثر.
لكن، ألا يحقّ لنا أن نتساءل: ما عدد العقول التي تعمل فعلًا حين تشتغل الكاميرا؟ وهل يُعتبر “تعديل ربطة العنق” قرارًا إستراتيجيًا؟ من أين يأتي هذا الحماس الفوتوغرافي المفاجئ؟ ولماذا تتحوّل نظرات الحضور إلى تأملات وجودية لا نراها في بقية أيام الأسبوع؟ وهل الابتسامة البروتوكولية تُحسب ضمن ساعات العمل؟ ثم من يجرؤ أصلًا على فرك عينه أو تعديل جوربه في لحظة تاريخية كهذه؟ ألسنا في حضرة العدالة البصرية، حيث كل حركة تُحسب، وكل وقفة تُؤوّل، وكل نظرة قد تترقى في أرشيف الوزارة؟.
اليدُ المرتَبكَة
هذه اليد المرتبكة ليست مجرد عضو، إنها مرآة داخلية للفوضى الذهنية. اليد التي لا تجد لها موضعًا هي يد تُعبّر عن ضياع أوسع: في الهوية، في الدور، في التمثيل. وربما لهذا السبب تُصبح الصور الرسمية مضحكة أكثر مما هي ملهمة، فبينما يصرّ العنوان الصحفي على أن “الوفد يمضي بثقة” تهمس اليد المرتبكة بالحقيقة: “نحن لا نعرف حتى أين نضع أطرافنا”.
المدهش ألاّ أحد يُفكر في تدريب اليدين، مع أن البروتوكول يدرب على كل شيء: طريقة الجلوس، نبرة الخطاب، توقيت الابتسامة. اليد تُترك وحيدة، تخوض معركتها أمام الكاميرا بلا دليل ولا مرشد؛ وحدها تقرر، تخون أو تنجو، تُعبّر أو تُربك. وهكذا، تتحوّل الصورة من لحظة تمثيل رسمي إلى درس مفتوح في الفلسفة الحركية: كيف نبدو واثقين حين نكون خائفين؟ كيف نقنع الناس أننا نمسك زمام الأمور، بينما لا نعرف ما نفعل بأيدينا؟.
ولأن الصورة تُنشر فإن اليد المرتبكة تُصبح مادة للتأويلات: يكتب أحدهم في تعليق على “فيسبوك” ساخرا: ” شوفو اليد اللي كتقول: خرجوني من هنا!”، بينما يرد آخر بمكر: “اليد ديال واحد ماقاريش المذكرة، وكيتمنا الوزير ما يسولوش!”…وهكذا، تتحول اليد من جزء بيولوجي إلى نص سياسي، ومن ارتباك شخصي إلى دليل عام على هشاشة التمثيل في مؤسسات تُجيد الظهور أكثر مما تُجيد التدبير.
التّرتيبُ الصّفّي للهَيْبَة
لا شيء يُترك في الصور البروتوكولية للصّدفة حتى ترتيب الوقوف: الوزير في الوسط، بالطبع، لا لأنه المركز المعرفي أو الأخلاقي، وإنما لأنه “المحور اللُّوجسْتي للعَدسة”؛ إلى يمينه المدير صاحب الصوت الجهوري والحضور الباهت، وإلى يساره مستشارة تُجيد التظاهر بالاهتمام، وتدير رأسها نحو الوزير بزاوية 43 درجة، وهي الزاوية المثالية للظهور بمظهر “الإنصات”. أما البقية فهم ديكور بشري ضروري لتوازن اللقطة.
المشكلة لا تكمن في الصورة، بل في الطقوس التي تسبقها وتليها. قبل الالتقاط بدقائق تسود حالة استنفار شاملة: يُنفخ الهواء في الصّدور، تُرفع الذّقون برصَانة شبه عسكرية. أحدهم يسأل: “هل أنا على اليمين بما يكفي؟” وآخر يتساءل: “هل يدي اليمنى أعلى من اليسرى؟” إنه هندسة رمزية للهيبة، تُمارس بلا مرآة داخلية. وما إن تومض الفلاشات حتى يدخل الجميع في سبات بصري: شللٌ مؤقت اسمه “الهيبة اللَّحْظية”.
وبعد الصورة ينتهي كل شيء كما بدأ: يسقط الذقن من عليائه، ترتخي الكتفان، ويعود المدير إلى نبرة النّواح المعتادة. يتنفس الجميع بارتياح وكأنهم خرجوا من جلسة تعذيب فوتوغرافي. الوزير نفسه قد لا يتذكر الحدث أصلًا، لكنه سيطلب نسخة عالية الجودة “مع إطار أنيق”، لتُعلّق لاحقًا في قاعة الاجتماعات.
ثم يأتي السؤال الأهمّ: ما وظيفة هذه الصور؟ أرشيف؟ تذكارات؟ تمائم إدارية؟ أليست أقرب إلى “بصمات حضور” في سجل الطقوس الوطنية؟ وهل يمكن أن يفتح موظف بسيط تحقيقًا لأنه ظهر في الظل؟ أليس من المفترض أن يكون “اللا-ظهور” شكلًا من أشكال الاحتجاج البصري؟ أم إن الصورة، في نهاية المطاف، لا تبحث عن الحقيقة، بل عن توازن الزَّيْف؟.
وزير في الصورة: مَن يبتسم أخيرًا؟
الوزير، حين يدخل إطارَ الصورة لا يعود إنسانًا، يتحوّل إلى كائن بروتوكوليّ مَهيب، تُصبح قامته أكثر انتصابًا، ونظرته أكثر تركيزًا، وابتسامته نصف دافئة ونصف باردة تمامًا كما يجب أن تكون الدبلوماسية الناجحة؛يقف في المنتصف غالبًا، لأن المنتصف يُشبه السلطة: لا يميل لأحد، لكنه يُراقب الجميع. وبجانبه يقف المدير العام، الذي لا يعلم إن كان يجب أن يضع يديه أمامه، خلفه، أم في جيبه، ثم يتذكر أن الجيب يُعتبر خيانة للوقار الإداري.
وفي الاجتماعات ينظر الوزير نحو الوثيقة وعيناه على الكاميرا، بينما يتظاهر المدير العامّ بتدوين ملاحظات، لكنه في الحقيقة يرسم دائرة حول كلمة “ميزانية”. بينما يهمس المصور: “من فضلكم… نظرة جدّية… نعم، تمامًا… معالي الوزير، لو سمحتم، الرأس قليلًا إلى اليمين… ممتاز… الآن ابتسموا!”، ثم تُنشر الصورة في الصفحة الرسمية للوزارة، مع تعليق من طراز: “في إطار تعزيز النجاعة وربط المسؤولية بالمحاسبة، انعقد اجتماع رفيع المستوى لتدارس سبل تفعيل مقاربة تشاركية مستدامة متعددة الأبعاد…”. ولا أحد يعلم ماذا جرى في الاجتماع، ولا إلى أيّ بُعد ذهبت المقاربة، لكن الصورة كانت واضحة: الوزير موجود، والمدير منتبه، والابتسامة مُبرمجة بدقة رُوبُوتية.
هل رأيت من قبل كيف يُمسك الوزيرُ المقصَّ لقصّ شريط التدشين؟ المقص مطلي بالذهب، الشريط أحمر، والحضور مكوّن من موظفين مدفوعي الأجر لتصفيقٍ محسوب، ثم تُؤخذ الصورة؛ ويُعاد الشريط لاحقًا ليُقصّ من جديد في افتتاحٍ آخر، لأن العبرة ليست في المشروع، وإنما في ” لقطة الافتتاح”. أجل، الصورة البروتوكولية لا تكذب… لكنها أيضًا لا تقول الحقيقة؛
هي نسخة محسّنة من الواقع، كما يريد الوزير أن يراه، وكما يُحب المدير العامّ أن يُنشر في التقرير السّنوي. وبين الفلاش والفلاش تُمارسُ السلطة هوايتها القديمة: الإيحاء بأنها تُفكّر، دون أن تكون مضطرة لفعل ذلك حقًا.
المدير الذي عاشَ اللَّحظة أكثر من اللازم
في كل مؤسسة يوجد مدير يُحب الكاميرا أكثر مما يحب عمله، يرتدي بذلة جديدة كلما شمّ رائحة عدسة، يمشي أمام الوزير وكأنه المترجم الفوري لنواياه، ويُحني رأسه في الصور كأنّه يُلخّص المسافة بين الحلم والتقارير السنوية. هذا المدير لا يرى في الصورة تذكارًا، لكنه يعتبرها بالمقابل “إستراتيجية تواصل”، يرفقها لاحقًا مع طلب الترقية، ويُعلّق نسخة منها فوق مكتبه، ويُرسلها في رسائل “واتساب” لعائلته مع تعليق: “ها أنا مع الكبار… قريبًا أكون واحدًا منهم!”؛ لكنه لا يعلم أن كل “كبير” في الصورة يُفكّر في كيفية التخلّص من “المتسلّقين الودودين”.
هذا المدير لا يُخطئ في زوايا الوقوف، يعرف تمامًا أين تقف الهالة، وأين تذوب الكاريزما، هو لا يبتسم كثيرًا، بل يمنح الكاميرا تعبيرًا مركبًا: نصف جدية، ربع دهشة، وربع “أنا جاهز للمناصب العليا”. وإذا حدث وابتعد المصور قليلًا تجده يتحرك معه تلقائيًا، كأن بينهما عقدًا غير مكتوب: “صوّرني، إذًا أنا موجود”. إنه النموذج الإداري الجديد: مدير لا يقرأ التقارير، لكنه يُجيد قراءة الضَّوْء.
وبين الزملاء يتحوّل حضوره في الصورة إلى ظاهرة تفسيرية: أحدهم يهمس “ها هو مرة أخرى في الصف الأمامي”، وآخر يضحك “كم بذلة يمتلك هذا الرجل؟”، بينما الموظف الصامت في الخلف يدوّن سرا: “في المؤسسة، كلما زادت الصور، قلّ العمل”. لكن المدير لا يلتفت، هو مشغول بحساب زاوية الإضاءة الأمثل، وشدّ البطن، وتثبيت الكتفين، كأنه في مهمة دبلوماسية، لا في إدارة عمومية تعاني من نقص الأقلام. والأطرف من كل هذا أن المدير يتوهّم أن الصورة ستصنع له مسارًا، كما تصنع المجلات أبطال الموضة. لكن الكاميرا، على عكس ما يعتقد، لا تمنح الشرعية، هي فقط تمنح فرصةً للناس أن يروا الوَهْم بوضوح أكبر؛ وحتى وإن نجح يومًا في الترقية، فسيظل محاصرًا بالسؤال البصري القاسي: هل حصل على المنصب بالكفاءة، أم بجودة طباعته الفوتوغرافية؟ وهل هو حقًا مع الكبار… أم فقط أقرب إلى العَدَسة؟.
الدليل المختصر للمسؤول في حضرة الكاميرا
عزيزي المسؤول، إن كنت مقبلاً على التقاط صورة بروتوكولية، لا تقلقْ، إليكَ هذا الدليل المختصر لتنجو من العدسة دون أن تُصاب بالحقيقة:
ابتسم نصف ابتسامة، النصف الأول يُعبّر عن الانفتاح، والنصف الثاني عن الصرامة. دع الناس يتساءلون: “هل هو وَدُود… أم يُفكر في إقالة أحد؟”.
لا تنظر مباشرة في العدسة، انظر قليلاً فوقها، لتوحي بأنك تفكر في المستقبل. المستقبل، في النهاية، لا يُرى بالعين المجرّدة.
اضبط ربطة العنق لإنها إيماءة السلطة، لا علاقة لها بالملابس.
لا تقرأ الوثيقة أمامك. انظر إليها كأنها تحتوي أسرار الدولة، بينما هي في الحقيقة قائمة الحُضور.
اجعلْ يديك مرئيتين، الناس تريد أن ترى اليد التي تدير الأمور… حتى لو لم تكن تُدير شيئًا.
إن ضحك أحدهم لا تلحق به. الضحك الجماعي في الصورة يُفسد الإخراج، ويجعل الاجتماع يبدو إنسانيًا أكثر مما يجب.
تذكّر: ليس المهم ماذا قلت، بل كيف بدَوْت وأنت لا تقول شيئًا.
وفي الأخير، حين تنتهي من الصورة، لا تنسَ أن تسأل المصوّر السؤال الرسمي الوحيد:
” بغيتْ غير نعرفْ… خْرجتْ زْوينْ؟”.
لنتأمّل؛ وإلى حديث آخر.