ليس من السهل أن يسلّم الإنسان للحق إذا خالف هواه؛ فحتى حين تُبسط له المعاني، وتُكرّر عليه الحجج، ويُضرب له المثل من كل وجه، يبقى مستعدًا للمراوغة، ويجد في الجدل وسيلة لتجنّب الانقياد والاعتراف بالحقيقة، أكثر من كونه طريقًا نحو الصواب.
وهذا الجدل، وإن كان في ظاهره حوارًا، فإنه في جوهره خصومة مؤجّلة، ورفض خفي للواضح، ودفاع مستمر عن النفس لا عن الحقيقة. فالعقل لا يُستخدم دائمًا للفهم، بل يُسخَّر أحيانًا لتبرير الموقف القائم، ولصنع شبكة من التأويلات تحمي الذات من الاهتزاز أمام الحجة.
وفي عصر باتت فيه المنصات الرقمية ساحات يومية للكلام المتدفّق، أصبحت ملامح الجدل أكثر حدّة ووضوحًا. صارت المسائل تُطرح لا طلبًا للفهم، بل استدراجًا للانقسام، والآراء لا تُناقش لتحسينها، بل لتسجيل المواقف، وتكريس الرأي الشخصي كعلامة وجود.
تُطرح قضية فكرية أو دينية أو ثقافية، فتأتي التعليقات على صورة خصومات متنقّلة، لا ينتظر أصحابها جوابًا بقدر ما ينتظرون فرصة للرّد. وكل اعتراض يجرّ اعتراضًا آخر، ليس لأن المسألة تحتمل النظر، بل لأن النفوس تتوجّس من الاعتراف، وتجد في الجدل مساحة للانتصار الشكلي، وإن كان على حساب الفهم.
وهكذا تدور الحوارات حول الذات لا حول المعنى؛ فمَن يعلو صوته أكثر، يبدو أقرب إلى “الحق” في أعين المتابعين. ومَن يُظهر تمسّكه بموقفه، يُكافأ بإعجابات وتفاعل، ولو لم يقدّم برهانًا واحدًا. فتحوّلت المنصات من فضاء تفاعلي إلى حلقة مفرغة من إعادة تدوير المواقف والانفعالات.
والأخطر من ذلك أن هذا النمط من الجدل لا يقتصر على السجالات العابرة، بل يمتد إلى نقاشات كبرى في العقيدة والهوية والتاريخ. فترى مَن يشكّك في كل مقدّس، لا بدافع البحث، بل برغبة في إزاحة المرجعية. ومَن يتبنّى خطابًا “ناقدًا”، لا ليميّز الحق من الباطل، بل ليتفلّت من أي التزام معرفي أو أخلاقي.
حتى التربية لم تسلم من هذه الروح الجدلية؛ تُزرع في الأذهان الصغيرة فكرة أن الاعتراض قيمة في ذاته، وأن النقاش لا يكون حيًّا إلا إذا كان صاخبًا. فينشأ جيل يُتقن الشك، ولا يُحسن الإصغاء؛ جيل يطرح السؤال لا ليستكشف، بل ليُربك، وينظر إلى كل حوار كفرصة لإثبات الذات، لا لبناء الفهم.
لكن الحقيقة أن الجدل لا يكون علامة وعي إلا إذا قاده التواضع، وسكنه الإخلاص، وتحرّر من عبء إثبات الذات. أما إذا تحوّل إلى سلوك دفاعي، يُستعمل لمقاومة كل جديد، وردّ كل مختلف، فقد صار دائرة مغلقة يدور فيها الإنسان حول نفسه، دون أن يقترب خطوة من الحقيقة.
وما أشبه ذلك بما عبّر عنه القرآن حين وصف طبيعة الإنسان الرافض للبيان، فقال في خلاصة موجعة: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: 54].