اتخذت الحكومة المصرية في الآونة الأخيرة منحى مختلفا في تعاملها مع ملف الديون الخارجية، الذي بلغ ذروته متجاوزا حاجز الـ156 مليار دولار حتى مارس 2025، وفق البيانات الرسمية المعلنة، ولم تعد الدولة تنظر إلى هذا الرقم ككتلة صلبة من الالتزامات المالية فقط، بل كأداة يمكن توظيفها بذكاء لصالح الاقتصاد الوطني.
ومن هذا المنطلق، برزت استراتيجية متقدمة تستهدف مبادلة الديون الخارجية إلى أدوات تنموية بدلا من الاعتماد الحصري على السداد النقدي المباشر، وهي استراتيجية تنطوي على مستويات معقدة من التنسيق الاقتصادي والدبلوماسي، لكنها تفتح الباب أمام مسارات أكثر استدامة للخروج من دوامة الدين.
مبادلة الديون بمشروعات تنموية
أحد أبرز أوجه هذه الرؤية يتمثل في برامج مبادلة الديون مع شركاء التنمية الدوليين، والتي تقوم على مبدأ جوهري يتمثل في تحويل الدين إلى استثمارات ملموسة على الأرض، فبدلا من سداد المبالغ المستحقة نقدا، تستخدم القيمة الاسمية للدين في تمويل مشروعات حقيقية داخل مصر.
وتحقق هذه الاستيراتيجية فوائد مزدوجة تتمثل في خفض الدين من جهة، وتعزيز البنية الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى، وبالفعل، تم تفعيل هذه المنظومة بشكل ملموس من خلال اتفاقات مع دول مثل ألمانيا وإيطاليا، بلغت قيمتها مجتمعة نحو 900 مليون دولار، جرى توجيهها إلى قطاعات حيوية تشمل التعليم والطاقة والتنمية الريفية.

الاتفاقية الأولى من نوعها مع الصين
وفي نقلة نوعية غير مسبوقة، وقعت مصر مؤخرا أول اتفاق من نوعه مع الصين، تستهدف فيه مبادلة جزء من الديون بمشروعات تنموية في مجالات تمثل أولوية قصوى على خريطة التنمية، من بينها الزراعة، والأمن الغذائي، والتعليم، والطاقة، والاستزراع السمكي.
وتمثل هذه الاتفاقية لحظة فارقة، ليس فقط لأنها الأولى مع بكين بهذا الشكل، بل لأنها تؤسس لنموذج يمكن تكراره مع قوى اقتصادية أخرى، ما يضع مصر في موقع تفاوضي أكثر توازنا أمام دائنيها.
مبادلة الدين الخارجي لمصر بأصول قائمة
في الوقت ذاته، تواصل الحكومة العمل على آلية أخرى لا تقل أهمية، وهي مبادلة الديون بأصول قائمة، وهو نهج يحمل فرصا واعدة لكنه لا يخلو من التعقيدات.
فهنا، تصبح مسألة التقييم محورا حساسا، إذ يثور الجدل حول كيفية تسعير هذه الأصول، وما إذا كانت ستحقق عائدا يتجاوز قيمتها الدفترية، فضلا عن التساؤلات المتعلقة بسيادة الدولة على ما يتم التنازل عنه، ولو جزئيا، في سياق هذه المبادلات.

أكثر من 120 مشروعا من مبادلة الدين الخارجي
خلال السنوات الماضية، استطاعت مصر تنفيذ أكثر من 120 مشروعا تنمويا في إطار آليات مبادلة الديون، في إطار شراكات ثنائية يتم تنفيذها على مراحل متعددة.
هذه المشروعات، وإن كانت موزعة زمنيا وجغرافيا، تظهر أن الدولة لا تتعامل مع ملف الدين كاستحقاق مالي فقط، بل كرافعة للتنمية من الداخل، من خلال ضخ قيمة الدين في مشروعات تولد قيمة مضافة وتشغل الأيدي العاملة وتحد من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
تحديات وشروط دولية معقدة في مواجهة الاستيراتيجية
ورغم وضوح هذا التوجه، إلا أن حجم الإنجاز ما زال محدودا عند قياسه إلى إجمالي الدين الخارجي، فعلى سبيل المثال، برنامج المبادلة مع ألمانيا لا يمثل سوى 0.1% فقط من إجمالي الدين المصري، وهي نسبة متواضعة تعكس حجم التحديات المرتبطة بهذا النوع من الآليات.
ويرجع ذلك إلى عدة اعتبارات، منها الشروط الصارمة التي تفرضها المؤسسات الدولية على تنفيذ برامج المبادلة، فضلا عن المفاوضات الطويلة والمعقدة التي تتطلب توافقا دقيقا بين الأطراف، هذا إلى جانب الظروف الجيوسياسية الحساسة في المنطقة، والتي تلقي بظلالها على القرار التمويلي لدى كثير من الدول.

إدارة لا هروب من أزمة الديون
ومع ذلك، تظل التجربة المصرية في هذا المجال نموذجا لمحاولة إدارة الأزمة بدلا من الهروب منها، فالدولة لا تنكر ضخامة الدين، لكنها تسعى لإعادة توجيهه بشكل أكثر إنتاجية من خلال سداد الدين من جهة، وتحقيق استفادة مباشرة منه في الداخل من جهة أخرى.
وهذا التحول في الفكر المالي والسيادي يعكس إدراكا عميقا بأن استمرار الاقتراض دون إعادة هيكلة الدين وآليات السداد لن يكون مجديا على المدى الطويل، في ظل ارتفاع تكاليف التمويل دوليا وتقلص شهية الأسواق تجاه الدول الناشئة.
ومع تنامي هذا التوجه، يبقى السؤال مفتوحا: هل يمكن أن يتحول نموذج مبادلة الديون إلى حل مستدام يخفف من أعباء الدين الخارجي ويقلص فاتورة الفوائد السنوية؟ أم أن الأمر سيظل في حدود التجربة الجزئية التي لا تغير الواقع الكلي؟.. الرهان الآن على قدرة مصر في توسيع هذا الإطار، وتعزيز الثقة مع الشركاء الدوليين، لفرض معادلة جديدة تجعل من الديون أداة لبناء المستقبل.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل الإخباري يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.