ينتمي فيلم “The Hate U Give” إلى سينما المقاومة الاجتماعية والهوية العرقية، وهي سينما تُعنى بكشف البنية العنيفة الكامنة في المؤسسات التي تدّعي الحياد كالقانون والتعليم والشرطة، كما تنتمي إلى سينما القضايا المعاصرة التي تشتبك مع الحركات الحقوقية الراهنة مثل “Black Lives Matter”، ولا يهدف هذا النمط من السينما فقط إلى تصوير الظلم، بل يسعى إلى زعزعته من الداخل والتساؤل حول مبرراته التاريخية والثقافية والسياسية. ويطرح الفيلم مقولات وجودية وشخصية في قلب عالم متخم بالمراقبة والتحكم والاستلاب. ويقدم الفيلم نفسه كصرخة سياسية من فم مراهقة، وهو ما يمنحه طابعًا خاصًا؛ إذ لا يتكئ على البطولة الخارقة أو المفاهيم الكبرى، بل يصوغ مقاومته من تجربة ذاتية فردية محفوفة بالشك والخذلان والصراعات الداخلية. والسؤال كيف تتقدم مسارات الفيلم في أكثر من منحى؟
“الكراهية التي نمنحها”: شبهة الصمت والتواطؤ
تدور قصة فيلم “الكراهية التي نمنحها” أو “الكراهية التي تمنحها” (2018/المدة 133 دقيقة)، للمخرج جورج تيلمان جونيور، حول ستار كارتر، مراهقة أمريكية من أصول افريقية تعيش في حي فقير اسمه غاردن هايتس، في الوقت الذي تدرس فيه في مدرسة خاصة بيضاء نخبوية تقع في منطقة غنية. يعكس هذا الانقسام المكاني انقسامًا هوياتيًا أشد تعقيدًا تعاني منه ستار، فهي تعيش في عالمين متناقضين وتحاول أن تُخفي جانبًا من هويتها كي تتماهى مع الوسط الأبيض الذي لا يفهم خلفياتها الثقافية والاجتماعية. وتبدأ الدراما الفعلية حين تشهد ستار مقتل صديق طفولتها خليل على يد شرطي أبيض خلال توقيف بسيط، دون أن يشكل خليل أي خطر. وتضع هذه الحادثة ستار في مفترق طرق حاد بين الصمت والخوف أو النطق بالحقيقة والمواجهة. ويصبح صوتها مطلوبًا لا باعتبارها شاهدة فقط، بل كرمز لحق الجماعة السوداء في أن تُروى قصتها من داخلها لا من خلال تقارير الشرطة أو الإعلام المنحاز.
يطرح الفيلم إشكالية التمثلات، من يملك الحق في سرد الحقيقة ومن يُسمح له بأن يكون صوتًا مسموعًا؛ إذ نجد أن الشرطة تهيمن على الرواية الرسمية، وتحاول تشويه صورة خليل بجعله تاجر مخدرات أو تهديدًا للنظام، في حين تكافح ستار من أجل أن تُظهِر إنسانيته وتاريخه وظروفه ومحبته للحياة. وترتبط هذه الإشكالية بمسألة الإعلام وكيف يُستعمل في إعادة إنتاج الصور النمطية عن السود باعتبارهم عنيفين وخطرين، وهو ما يُعمّق فجوة انعدام الثقة بين السود ومؤسسات الدولة. كما يناقش الفيلم فكرة الصمت، ذلك الصمت الذي يُفرض على الضحايا باسم الحذر أو الخوف أو “عدم تعكير الجو”، ويُظهر كيف أن هذا الصمت يتحول إلى شكل من أشكال التواطؤ غير المرئي مع الظلم. وتجد ستار نفسها ممزقة بين خوفها من الانتقام ومطالبة مجتمعها بأن تتكلم، بين رغبتها في حماية عائلتها وبين حاجة الجماعة إلى شهادة تُفكك الأكاذيب الرسمية. هنا تُطرح الإشكالية الأخلاقية حول ثمن المقاومة والضغط الذي يتحمّله الأفراد حين يتحولون إلى رموز عامة.
إحدى أهم الأفكار التي يناقشها الفيلم، الفكرة التي تلخصها العبارة المركزية المأخوذة من مغني الراب توباك شاكور التي تقول “الكراهية التي نغرسها في الأطفال الصغار تدمر الجميع”. وهذا الشعار هو بمثابة الأطروحة الكبرى للفيلم، ويعني أن الكراهية التي تُزرع في قلوب الأطفال عبر الفقر والعنصرية والتهميش والتمييز، تعود لتؤذي الجميع، بما في ذلك النظام نفسه. وبهذا المعنى لا يُصوِّر الفيلم خليل كضحية فقط، بل كنتاج نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي يخلق الجريمة ثم يُدينها. ولا يعتبر الفيلم الفقر والعنف والمخدرات خيارات فردية، بل نتائج لسياسات ممنهجة هدفها إبقاء السود في هامش التاريخ. كما يطرح الفيلم أطروحة مضادة للبنية الطبقية التي توهم بالاندماج الاجتماعي، ففي المدرسة التي تدرس فيها ستار، يظهر بوضوح كيف أن اندماجها لا يعني قبولها الحقيقي، بل يُشترط عليها أن تُخفي جزءًا من لغتها ومزاجها وتاريخها كي لا تُزعج البيض. ويعكس هذا نقدًا ثقافيًا لأوهام “النجاح الفردي” الذي يُقدَّم كبديل زائف للعدالة الجماعية.
سينما القصص المنسية والمهملة
مخرج الفيلم هو جورج تيلمان جونيور، وهو مخرج ومنتج أمريكي من أصول إفريقية، ينتمي إلى تيار السينما الواقعية الاجتماعية، التي تُعنى بتفكيك الهويات المهمشة وسرد القصص المنسية داخل المجتمعات السوداء في الولايات المتحدة. وتشتغل سينماه على تقاطع الذاتي والسياسي حيث تبرز القضايا الكبرى من خلال دراما شخصية أو عائلية حميمية، ويظهر ذلك في أغلب أفلامه التي تتناول العلاقات الأسرية، صراعات الانتماء، الطفولة الضائعة، ونقد أنظمة السلطة الخفية التي تُقوّض حياة الأفراد دون أن تظهر كعدو مباشر. ومن أهم أفلامه “Soul Food” (1997) (الطعام الروحي)، الذي استعرض فيه تفتت الروابط العائلية في ظل تحولات اقتصادية وثقافية، وفيلم “Men of Honor” (2000) (رجال الشرف)، الذي تناول فيه قصة أول غواص أسود في البحرية الأمريكية، حيث تصطدم الإرادة الفردية بجدار التمييز البنيوي، وكذلك فيلم “Notorious” (2009) (سيء السمعة)، الذي يروي سيرة مغني الراب الشهير The Notorious B.I.G ويسلط الضوء على العنف المجتمعي وتأثير الموسيقى كسلاح ثقافي في مواجهة التهميش.
تعتمد سينما تيلمان على ميزان دقيق بين السرد الكلاسيكي والعاطفة المنضبطة؛ إذ لا ينزلق إلى الميلودراما رغم أن موضوعاته غالبًا إنسانية موجعة. كما يوظف أدوات بصرية هادئة تقرّب الكاميرا من وجوه الشخصيات لتسجل انفعالاتها لا كاستعراض بل كوسيلة للغوص في دواخلها. ويُفضّل اللقطات المتوسطة والقريبة ويترك مساحة للصمت والسكون ليتكلم الجرح من دون حاجة لخطابة أو موسيقى مضخمة. ويقوم التكوين البصري عنده على الثنائية بين الداخل والخارج، بين البيت والشارع، بين المدرسة والحي. وتعكس هذه الثنائيات دائمًا الفارق الطبقي والعرقي، كما تعكس الصراع النفسي للشخصيات التي تجد نفسها ممزقة بين عالمين متضادين. ويشتغل المخرج سرديا على فكرة التحول التدريجي للشخصيات الرئيسية حيث تبدأ غالبًا في موقع الضحية أو المراقب وتنتهي في موقع الفاعل أو المقاوم، لكنه لا يمنحها هذا التحول دفعة واحدة بل يجعله ناتجًا عن سلسلة من الصدمات والمواجهات التي تحفر في الشخصية وتكشف عمق هشاشتها ثم صلابتها. كما أن أفلامه كثيرًا ما تحمل نقدًا مزدوجًا للسلطة الخارجية وللذات الجماعية نفسها؛ إذ لا يُقدّم العالم الأسود كضحية نقية بل كعالم معقد مليء بالتناقضات الداخلية التي تحتاج إلى إصلاح ذاتي أيضًا.
يعتمد المخرج كذلك توظيف السارد الداخلي أو البطل الراوي، حيث نسمع غالبًا صوت الشخصية وهي تفكر أو تسرد الحدث، مما يخلق نوعًا من الحميمية ويمنح المتلقي موقعًا داخليًا في التجربة. كما يُراهن على إيقاع سردي تصاعدي متدرج لا يهتم بالإثارة بل ببناء التوتر من داخل العلاقات اليومية والمواقف الصغيرة. ولا يمكن اعتبار سينما تيلمان بصرية فقط بل صوتية أيضًا؛ إذ يستخدم موسيقى الراب والأصوات البيئية كأدوات جمالية تعزز الإحساس بالزمان والمكان والهوية، وهو ما يتجلى بوضوح في فيلم “الكراهية التي نمنحها”، حيث يتحوّل الصوت إلى حامل سياسي ووجودي في آن واحد. وتحمل هذه المزاوجة بين القصة الفردية والموقف الجماعي، وهي ما يجعل من سينما تيلمان تجربة صادقة وحساسة مفعمة بجماليات الهدوء وتوترات الحياة في مجتمعات لا تنال حقها من السرد العادل.
“الكراهية التي نمنحها”: ضد ثقافة الصمت
يستخدم الفيلم أسلوبًا يجمع بين الواقعية الاجتماعية والتكثيف الرمزي؛ إذ يظهر حي غاردن هايتس كفضاء حي مليء بالتناقضات، بالألفة والخطر، بالحب والعنف، في حين تُصوّر المدرسة البيضاء كمساحة باهتة ومنمقة، تخلو من العمق العاطفي. كما أن الفيلم لا يستخدم العنف بشكل استعراضي، بل يختار لحظات محددة ومؤثرة ليُظهر القسوة الباردة للنظام، وهو ما يجعل المشاهد أكثر تأثيرًا وألمًا. ويُقدَّم مشهد مقتل خليل، مثلًا، ببساطة صادمة، دون موسيقى، دون حركة درامية مفتعلة، بل بلقطة حقيقية تنقل لنا عنف الشرطة العشوائي كما هو. كما يعتمد الفيلم على بناء داخلي متماسك للشخصيات، خاصة ستار التي نراها تتطور من فتاة خائفة لا تعرف أين تقف إلى شابة واعية بخياراتها وبوزن صوتها، لكنها لا تتحول إلى بطلة مثالية بل تظل إنسانة مترددة، حائرة، تشكّك في جدوى مقاومتها، وهذا ما يقرّبها من الجمهور ويجعلها تمثل كثيرًا من الأصوات الصامتة.
يبرز الفيلم أن ثقافة الصمت لا تحمي أحدًا، وأن المقاومة ليست ترفًا ولا قرارًا سياسيًا مجردًا، بل هي مسألة حياة أو موت، وحق شخصي وجماعي في أن تُروى الحقيقة كما هي، لا كما يُعاد تشكيلها في مؤتمرات الشرطة ونشرات الأخبار. ولا يقدّم الفيلم في الوقت ذاته رؤية تبسيطية أو خطابيّة، بل يُظهر التعقيد الذي تعيشه الشخصيات في كل قرار، ويكشف أن العنف البنيوي لا يُمارس فقط من قبل رجال الشرطة، بل من خلال القانون، والمدرسة، والإعلام، وحتى داخل الأسرة أحيانًا، حين يُطلب من الأبناء السكوت باسم الحذر. ولا ينتهي الفيلم بانتصار واضح، بل بصرخة، بفتح باب الأسئلة، وكأن لسان حاله يقول: لم ننتهِ بعد، لقد بدأنا فقط في نزع القناع عن هذا النظام.
ينمتي فيلم “الكراهية التي نمنحها” إلى السينما السياسية بامتياز، لكنه سياسي من الداخل، من الجرح، من الطفولة، من تفاصيل الحياة اليومية التي تتحول إلى ميدان صراع غير مرئي. إنه ليس عن السياسة بوصفها مؤسسات بل عن السياسة بوصفها شروط حياة، وأدوات تحكم، وآثار عنف متوارث. ويقدم لنا هذا الفيلم درسًا سينمائيًا وإنسانيًا مفاده أن القصة التي تُروى بصوت الضحية تحمل إمكانية التغيير أكثر من كل الخطابات الرسمية، وأن السينما حين تصغي بصدق للشارع، للمراهقة، للأسى، تستطيع أن تخلق لحظة صدق تهزّ ضمير المشاهد وتجعله يعيد التفكير في موقعه من الحكاية.
“الكراهية التي نمنحها”: صوتي سلاحي
يتمركز فيلم “The Hate U Give” حول شخصية ستار كارتر (أماندا ستينا)، البطلة التي تتحول من مراهقة حائرة إلى صوت سياسي مقاوم في مواجهة نظام عنصري ممنهج. ولا تمثل ستار بطلة خارقة ولا مثالية، بل شخصية نابضة بالقلق والتردد والخوف. وتنتمي إلى عالمين متناقضين، فهي تعيش في حي غاردن هايتس الفقير والغارق في التوتر، بينما تدرس في مدرسة بيضاء نخبوية تفرض عليها نوعًا من التقمّص الاجتماعي والتنازل عن هويتها الأصلية. وتصوغ هذه الازدواجية الاضطراب العميق في ذات ستار، وتمنح الفيلم محورًا نفسيًا وإنسانيًا نادرًا في الأفلام السياسية. وتتسم مواقفها في البداية بالصمت والتجنب، لكنها تتعرض لشرخ وجودي حين تشهد مقتل صديقها خليل على يد شرطي أبيض، فتصبح شهادتها مطلوبة لا كشاهد عيان فقط، بل كممثلة لحق مجتمع بأكمله في أن يُسمع صوته. وتتردد ستار طويلًا قبل أن تتحدث، ينهشها الخوف والغضب والشك، لكنها تقول في أحد أكثر اقتباساتها عمقًا: “أنا تلك الفتاة التي خافت أن تقول الحقيقة، والآن أخاف أكثر أن أصمت”. ويعكس هذا التحول في موقفها من الخوف إلى التحدي، القلب النابض للفيلم، ويجعل من شخصية ستار أيقونة مقاومة لا لأنها تصرخ أو تقاتل بل لأنها تواجه هشاشتها وتقرر أن تفعل الشيء الصحيح رغم كل التهديدات.
وتمثل شخصية خليل (ألجي توريس)، صديق الطفولة الذي يُقتل في المشهد المحوري للفيلم، لا يبنى فقط كضحية، بل يتم تقديمه كإنسان له أحلامه وهمومه وحبه لستار، ووعيه المسبق بأن النظام لا يحميه. يقول خليل في لحظة مؤثرة قبل مقتله: “يرى الناس فينا تهديدًا من لحظة ولادتنا”، وهي عبارة تلخّص شعور الأجيال السوداء بالعداء المزمن الذي تواجهه منذ الطفولة. ولا يظهر الفيلم خليل بالمجرم بل شاب أجبره الواقع على خيارات صعبة. ويُوظف قتله كنقطة ارتكاز للسرد لكن الفيلم لا يسمح بأن يتحوّل إلى رقم أو رمز فقط، بل يمنحه صوتًا وتاريخًا وكرامة، وهو ما يعزز شعور الغضب والظلم لدى المشاهد.
وتمثل شخصية مافريك كارتر (راسل هورنسبي)، والد ستار، جانبًا آخر من المقاومة، هو رجل له ماضٍ في العصابات، لكنه اليوم صاحب متجر صغير يحاول حماية أسرته وتربية أبنائه على الوعي بالكرامة والهوية. وهو الذي علّم ستار منذ الطفولة قانون الشرف الخاص بهم، ويقول لها في أحد المشاهد: “الذي لا يعرف قيمته، من السهل أن يضيّع نفسه”، وتكشف هذه العبارة البعد الفلسفي لتربيتهم كنوع من المقاومة اليومية في عالم لا يمنحهم الاعتراف. ويعارض الأب السلطة لكنه لا يدعو إلى العنف، بل يسعى إلى بناء بديل قيمي داخل الأسرة والمجتمع، ورغم غضبه المستمر من الشرطة، إلا أنه يرفض أن يتحوّل إلى نسخة مضادة من الكراهية، ويعلّم ابنته أن قول الحقيقة هو أعظم أشكال الشجاعة.
وتمثل ليزا كارتر (رجينا هيل)، والدة ستار، الضمير الحذر، حيث تسعى إلى حماية العائلة وتحافظ على التماسك رغم كل الانفجارات التي تحيط بهم. وهي شخصية عقلانية، تخشى أن تُفقد ستار مستقبلها إذا تحدّثت، لكنها في النهاية تحترم قرار ابنتها وتدعمها. وهذا التوتر بين الحماية والمواجهة هو جزء من واقع الأسر السوداء في أمريكا، حيث يجب أن يكون القرار السياسي أيضًا قرارًا عائليًا محفوفًا بالمخاطر، تقول ليزا لابنتها: “أريدك أن تعيشي، لا أن تصبحي شهيدة”، وهي عبارة صادقة ومؤلمة تكشف حجم العبء الذي يُلقى على كاهل الشباب الأسود حين يُطلب منهم أن يكونوا رموزًا للتغيير في مجتمع لا يرحم رموزه.
وتكشف شخصية هيلي (ريان ديستيني)، الصديقة البيضاء في المدرسة، البنية العنصرية المستترة خلف العلاقات اليومية، فهي تمثل اللامبالاة البيضاء التي لا ترى الظلم طالما أنه لا يطالها. وتنكر هيلي أن الشرطة عنصرية وتبرر قتل خليل، مما يدفع ستار إلى قطع علاقتها بها. وهذا المشهد ليس فقط عن خسارة صداقة بل عن قطع مع تواطؤ كان مريحًا، وتقول ستار في أحد حواراتها: “ليس كافيًا أن لا تكون عنصريًا، يجب أن تكون ضد العنصرية”، وهي مقولة تلخص الموقف الأخلاقي الذي يدعو إليه الفيلم.
هناك أيضًا شخصية كريس (كيلسي أسبيل)، حبيب ستار الأبيض، الذي يحاول فهم عالمها رغم فارق السياقات بينهما. ويمثل كريس محاولة للتواصل بين العوالم، لكنه لا يُقدّم كبطل منقذ، بل كصديق يتعلم من ستار، ويعترف في لحظة صدق: “لن أفهم أبدًا ما تمرين به، لكني سأكون هنا لأجلك”. وتكشف هذه العبارة التفاوت بين التعاطف والفهم، وتضع العلاقة بينهما في حدودها الواقعية بعيدًا عن الرومانسية المبالغ فيها.
ولا تُمنح شخصية الشرطي القاتل عمقًا نفسيًا، لأن الفيلم لا يريد تبرير العنف، بل يقدمه كجزء من آلة قمعية لا تحتاج إلى دوافع شخصية كي تقتل، ويُظهر كيف أن النظام بأكمله يتآزر لحمايته حتى حين يكون مذنبًا. ويُظهر الفيلم في المقابل كيف أن بعض رجال الشرطة السود أنفسهم يعانون من الانقسام بين الواجب والهوية، كما في مشهد حوار ستار مع عمها الشرطي، الذي رغم حبه لها يحاول أن يبرر تصرف زميله، فترد عليه بحدة: “لماذا يُفترض بي أن أظل هادئة حين تُسلب حياتنا؟”، وهي لحظة مواجهة تكشف مدى التمزق داخل الأجهزة والمؤسسات.
تتحرك جميع شخصيات الفيلم ضمن شبكة من التوترات الطبقية والسياسية والعرقية والوجدانية، لا أحد فيها مُبسّط أو نمطي، بل يتم التعامل معهم ككائنات بشرية تتعقّد خياراتها تحت ضغط الواقع، وكل منها يحمل صوته الداخلي وصراعه الخاص، وهذا ما يمنح الفيلم طاقته الأخلاقية والسياسية. إنه فيلم عن الوجوه التي تعاني بصمت، عن الكلمات التي تُقال تحت التهديد، عن الصداقات التي تنهار بسبب الحقيقة، وعن الصمت الذي يصبح خيانة، إنه فيلم لا يقدم بطلاً خارقًا، بل بطلة تصرخ في وجه الخوف والخذلان وتقول ببساطة: “صوتي هو سلاحي”. عبارة تختصر جوهر هذا العمل السينمائي كله.
“الكراهية التي نمنحها”: سينما المقاومة والهويات المهمّشة
يحمل فيلم “The Hate U Give” هوية سردية وبصرية تنتمي بوضوح إلى سينما المقاومة والهويات المهمّشة، حيث يتمّ تشييد العالم الروائي من خلال عين شابة سوداء تعيش تمزقًا طبقيًا وهوياتيًا يوميًا بين حي فقير يتعرض للتمييز والعنف المؤسسي، وبين مدرسة بيضاء راقية تُخفي تحت واجهتها المدنية أحكامًا عنصرية ضمنية. وتختار هذه الهوية السردية أن تمنح صوتًا للضحية لا باعتبارها كائنًا هامشيًا يُعاد تمثيله، بل كراوٍ للحكاية من داخل التجربة، ومن قلب الصدمة، وهو ما يمنح السرد بعدًا شخصيًا ووجوديًا في آن واحد. ولا تعتمد الحبكة على الإثارة أو المفاجآت بقدر ما تتكئ على التوتر الداخلي المتصاعد في بطلتها ستار، التي تبدأ قصتها وهي تخفي جزءًا من ذاتها كي تتأقلم مع عالمين متصادمين، لكنها تنتهي باعتراف جريء ومواجهة شرسة مع بنية الظلم الممتدة في كل تفاصيل حياتها اليومية.
تقوم الهوية البصرية للفيلم على التباين بين فضاءين متناقضين، حي غاردن هايتس الذي يصوّر بألوان دافئة وضوء طبيعي وتكوين بصري مشبع بالحياة رغم الفقر، وهو فضاء مليء بالحركة والأصوات والتاريخ العائلي، أما المدرسة والمجال الأبيض المحيط بها، فيُقدَّم بلقطات باردة وهادئة ومضيئة بشكل مفرط، توحي بالنظافة الظاهرية، لكنها تحمل إحساسًا بالخواء والانفصال. وتتنقّل الكاميرا مع ستار بين هذين العالمين، وتسجّل اضطرابها البصري كما النفسي؛ إذ تتغير لغة الجسد والصوت والنظرات وفقًا للمكان. ولا يُستخدم هذا الانقسام البصري كزخرفة، بل كأداة للتعبير عن التوتر العرقي والطبقي الذي يُشكّل بنية السرد الداخلي للفيلم. وتُظهر مشاهد المنزل والمتجر والحي مجتمعًا حيًّا ينبض بالحب والخوف والتناقضات، بينما تُظهر المشاهد في المدرسة والمؤتمرات الصحافية والمؤسسات الوجه الرسمي البارد للنظام الذي يدّعي الحياد بينما يمارس العنف غير المرئي.
“الكراهية التي نمنحها”: باسم الألم الجمعي
يمثل البعد الاجتماعي جوهر الفيلم؛ إذ يتعامل مع مسألة العنف الممارس ضد السود في الولايات المتحدة، ليس فقط كأفعال عنصرية فردية، بل كبنية اجتماعية متجذرة في الاقتصاد والتعليم والإعلام والسياسة. ويسلّط الفيلم الضوء على آليات الإقصاء اليومي التي تعاني منها الشخصيات، مثل الخوف الدائم من الشرطة، والتعليم القائم على محو الهوية، وتهميش الحي اقتصاديا، مما يدفع شبابه نحو المخدرات أو العصابات، لا لأنهم منحرفون، بل لأن الخيارات أمامهم معدومة. ويشرح مشهد مافريك الأب لابنته كيف تتصرّف إذا أوقفها شرطي؛ لحظة مكثفة تختصر شعور السود بأنهم مستهدفون منذ الطفولة حيث يقول الأب لستار: “ارفعي يديك لا تتحركي لا تجادلي، لا تنسي أنك طفلة، أنت سوداء”، وتتقاطع في هذا الاقتباس التربية مع الخوف، والهوية مع النجاة، ويكشف حجم التوتر الدائم الذي يعيشه السود في أمريكا.
ويشتغل الفيلم رمزيا على طبقات متعددة، أولها الرمزية الكامنة في عبارة مغني الراب توباك شاكور التي يُبنى عليها عنوان الفيلم “The Hate U Give” والتي تفكك الشعار المختصر “THUG LIFE” لتكشف أن الكراهية التي تُمنح للأطفال ستعود لتؤذي الجميع. وتمثل هذه العبارة البنيةَ الرمزية الكبرى للفيلم، وتقول إن ما يُزرع من قهر في الطفولة لا يختفي بل يتحوّل إلى غضب مجتمعي حيث الطفل الأسود الذي يُقصى ويُخيف ويُتهم منذ الصغر، لا يستطيع أن ينتج حياة طبيعية، ومن ثم فإن المجتمع الذي خلق هذا التهميش سيدفع ثمنه لاحقًا. كما ترمز شخصية ستار نفسها إلى التوتر بين التكيّف والمواجهة، بين الرغبة في الاندماج والخوف من ضياع الجذور، بين الأمان الشخصي والواجب الأخلاقي تجاه المجتمع. وتمتد هذه الرمزية إلى المشهد الذي تقف فيه ستار في وجه الشرطة حاملة مكبّر الصوت، في لحظة صامتة لكنها كثيفة، تتحول فيها المراهقة إلى صوت جماعي، تمثّل الغضب الجمعي، وتمنح ذاك الصراخ المكبوت مخرجًا جماليًا ودراميًا معًا.
وليست الجماليات التي يعتمدها الفيلم استعراضية، بل واقعية وشاعرية في الوقت ذاته. وتمزج الموسيقى التصويرية بين نغمات الراب والأصوات الحيّة للشارع، ما يمنح الفيلم طابعًا نابضًا بالواقع دون أن يفقد حساسيته الفنية. ولا يعتمد المونتاج على التسارع بل على التمهّل، فيرصد التحولات النفسية في وجه ستار، ويمنح المساحة الكافية للسكوت والصمت والدموع والنظرات التي تعبّر أكثر من الكلمات. وتُبنى المشاهد الفيلمية: مشهد الجنازة ومشهد المؤتمر الصحافي ومشهد الانفجار العاطفي في البيت، كلها بلغة إخراجية دقيقة توازن بين الانفعال والسيطرة، مما يجعل الفيلم أكثر تأثيرًا وعمقًا.
ويُعد الفيلم بيانًا على المستوى السياسي، ضد عنف الشرطة، لكنه يتجاوز الإدانة المباشرة إلى طرح أسئلة أعمق حول بنية الدولة ذاتها، التي تشرعن هذا العنف وتُبرره عبر الإعلام والقانون والمحاكم.
ولا يقدّم الفيلم الشرطة كأفراد شاذين، بل كجزء من مؤسسة تُعيد إنتاج التمييز كل يوم، سواء بالصمت أو التواطؤ. كما ينتقد النخبة البيضاء التي تدّعي الحياد بينما ترفض الاستماع إلى روايات الضحايا الحقيقيين، يقول أحد أصدقاء ستار البيض في لحظة دفاع عن الشرطة: “لكنهم يفعلون عملهم فقط”، فترد ستار: “لا يشمل عملهم قتلنا”، ويتجلى في هذا الحوار البسيط البنية السياسية للصراع، بين من يراها واقعة عرضية، ومن يعيشها ككابوس يومي.
ولا يُطرح البعد الاقتصادي نظريًا، بل من خلال المعيش اليومي، فالحي الذي تنتمي إليه الشخصيات لا يفتقر فقط إلى الموارد، بل إلى الحماية القانونية، إلى الفرص، إلى الرؤية. ويُجبر خليل على بيع المخدرات لإعالة أمه المريضة، ليس لأنه منحرف بل لأنه بلا بدائل. ويفتح الأب متجرًا صغيرًا كمقاومة اقتصادية رمزية، في حين يعيش الآخرون تحت رحمة عصابة محلية تمثل بديلًا سلطويًا حين تغيب الدولة. ولا يعتبر الاقتصاد في الفيلم مجرد خلفية بل محفّز درامي للانحراف والمأساة.
أما البعد النفسي، فهو يتجلى بقوة في شخصية ستار، التي تتحمل عبء أن تكون الشاهدة، الصديقة، البنت، الطالبة، المقاتلة، دون أن يمنحها أحد حق أن تكون فقط إنسانة. وتتعرض ستار لنوبات غضب وارتباك داخلي وانهيار عاطفي متكرّر، ويُظهر الفيلم ذلك بدقة دون تهويل، مما يجعل رحلتها ليست فقط مقاومة خارجية، بل معالجة داخلية للجراح النفسية التي خلّفها القمع والخيانة والخوف. وتقول ستار في لحظة انهيار: “كل شيء يؤلم، حتى صوتي يؤلمني”، في عبارة تختصر ضغط التمثيل حين يُطلب من الضحية أن تكون المتحدثة باسم الألم الجمعي، بينما لا أحد يُنصت لألمها الشخصي.
ولا يمثل فيلم “الكراهية التي نمنحها” مجرد سرد لقضية، بل تجربة شعورية وفكرية مكتملة، تنبني على سرد حميمي وبصري متماسك. وترتكز على أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية متشابكة، ويقدّم الفيلم حكاية ذاتية تصير مرآة لهوية جماعية تبحث عن العدالة والاعتراف. ولا ينتهي الفيلم بحل، بل بسؤال مفتوح، وكأن صوت ستار في المشهد الأخير ليس فقط إعلانًا للحقيقة، بل استدعاء لكل من يشاهد ليحدد موقفه من هذه الحكاية، من هذه البلاد، ومن هذه الكراهية والعنصرية التي ما تزال تُمنح للأطفال في كل شارع ومؤسسة وصمت.
تتكتف الإشكاليات التي تطارد الفيلم منذ بدايته، في مقدمتها صراع الهوية والانتماء، وتمزق الفرد بين الحذر والخوف من جهة، وواجب المقاومة والبوح من جهة أخرى، إضافة إلى إشكالية التمثيل الصوتي: من يملك الحق في رواية الحكاية، ومن يُسمع له، ومن يُسكت عمداً. كما يطرح الفيلم مأزق العدالة التي لا تتحقق في المحاكم بل في الشوارع، في الذاكرة، وفي الصراخ الذي يواجه الصمت الممنهج. فقد بدأت البطلة خائفة وتنتهي واقفة، لا لأنها أصبحت بطلة مثالية، بل لأنها قررت أن تقول الحقيقة مهما كان الثمن، وفي لحظة ذروة إنسانية، تقول ستار: “صوتي كان سلاحي… والآن أعلم أنه أقوى مما كنت أظن”. وتختصر البطلة في هذا القول المضيء رسالة الفيلم كلها، فالمقاومة ليست فقط في الشوارع، بل في اختيار ألا نختبئ، ألا نصمت، وأن نحمل صوتنا كراية لمن لا صوت لهم.