الحمام حيز للامتاع والنقاهة، فضاء متعة وضرورة شبه لا غنى عنها في كل المدن والأحياء، وتقريباً في كل الحضارات والثقافات. فقد بدأت علاقة الإنسان بالاستحمام في المياه الحارة قديماً جداً، حين اكتشف الإنسان متعة الاسترخاء والطهارة الجسدية في المنابع الطبيعية الساخنة، التي بنى فوقها أو من حولها حمامات للاسترخاء والنقاهة.
ومن بين المدن التي يمثل فيها الحمام ضرورة لا غنى عنها مدينة فاس. لقد لعب الحمام دوراً كبيراً في حياة ساكنة المدينة ولا يزال، فالأرقام الكبيرة التي نلاقيها في المصادر التاريخية تبين الأهمية القصوى التي شكلها الحمام في الحياة اليومية لساكنة المدينة. يذكر الناصري في كتاب الاستقصى: “أن فاس عرفت الكثير من الحمامات، والتي يعود إنشاؤها إلى فترة حكم يحيى بن محمد بن إدريس الذي حكم من (848 ـ 864)، وهي حمامات بنيت على منوال الحمامات الأندلسية، التي اشتهرت بها مدن الأندلس”، وكانت أكثر هذه الحمامات في مدينة قرطبة حيث فاق عدد حماماتها 900، كما ذكر المقري في نفح الطيب. وذكر ابن حيان أن عدد المساجد في قرطبة وحدها في فترة حكم المنصور ابن أبي عامر (9002 ـ 1002) 1600 مسجد و900 حمام. ثم تزايد عدد حمامات فاس في فترة حكم يوسف بن تاشفين (1065ـ 1006)، ثم وصلت في عهد الدولة الموحدية إلى 93 حماماً. وقد كانت هذه الحمامات أكثر وأوفر ماء من مثيلاتها في المغرب الأوسط كما يقول الحسن الوزان، ناهيك عن الحمامات الخاصة التي كانت داخل دور العائلات الكبيرة والمخزنية.
الحمام والخرافة
تجمع أكثر المصادر التاريخية على أن إنشاء الحمامات العمومية يعود إلى القرن الثاني ق. م، حيث أنشأ الرومان حمامات في إيطاليا وفي الولايات التابعة للدولة الرومانية. حيث كانت الحمامات بسيطة الشكل للغاية، عبارة عن عدد من الأحواض الصغيرة من الماء الساخن والبارد، فيها بعض التدليك واستعمال دهانات. وكانت هذه الحمامات عمومية مجاناً لكل المواطنين كباراً وصغاراً. غير أن الأباطرة وعلية القوم كانت لهم حماماتهم الخاصة، التي كانت ضخمة ذات طراز هندسي باذخ، كما أنها كانت تحتوي على مكتبات وملاعب وحدائق، فكانت إلى جانب وظيفتها الأولى الاستحمام، تمنح إمكانية الترفيه والاستجمام.
لقد أثار وجود الحمامات في المدن انتباه الكثير من الرحالة، ومنهم من وصفها ووصف طقوس دخولها واستعمالها بدقة متناهية. كما أن الحمامات لم تغب عن الحكايات والأساطير، خاصة العربية والإسلامية منها. فنجد في كتاب ألف ليلة وليلة العديد من الحكايات التي ذكر فيها دخول الحمام وإنشاء الحمام، مثل حكاية «أبي صير وأبي قير» اللذين بعد أن ضاقت بهما سبل الرزق في الإسكندرية هاجرا عبر البحر إلى مدينة بنيا فيها حماماً فأصبحا من خلاله من الأغنياء. وهي حكاية تجسد ما يدور في الحمام من نشاط وحيوية في التطهير من الوسخ والترفيه، وما يستوجبه الحمام من كياسة في التسيير.
وغير ألف ليلة وليلة، وردت العديد من الحكايات عن الحمام، منها ما أورده تقي الدين بن حجة الحموي في كتابه “تمرات الأوراق” عن التاجر البغدادي البخيل أبي القاسم الطنبوري، والتي تدور مجرياتها في الحمام حيث لبس الطنبوري حذاء القاضي خطئاً وترك له حذائه المهترئ. كما ورد الحمام في الحكايات الشعبية المغربية مثل “تفاح الحبالة” أو “التاجر بوفولة” وفي غيرهما.
لقد استأثر الحمام وطقوسه وعالمه الخاص باهتمام الشعراء والكتاب. فمن الأدبيات العربية نجد الحديث عن إيجابياته وأيضاً عن سلبياته الصحية، كما رأى آخرون في الدخول إليه موعظة تذكر بالجنة والنار، مثل قولهم:
وما أشبه الحمام بالموت لامرئ ** تذكر ولكن أين من يتذكر؟
يجرد عز أهل ومآل وملبس ** ويصحبه من كل ذلك مئزر
الحمام قريب من المؤمنين
كما اهتم الفقهاء بالحمام وشروط دخوله وكيفية الاستحمام فيه وأيضاً واجبات مالكه حيال المستحمين به، فأوردوا في ذلك فتاوى كثيرة. فأبو حامد الغزالي يرى أن مالك الحمام عليه واجب إزالة أسباب الزلق، ويدرج ذلك في باب حديث: «من رأى منكم منكراً فليغيره». كما أن الفقهاء مثل محمد بن أبي محمد السقطي يرى ضرورة الاهتمام بكل ما من شأنه أن يوفر الراحة للمستحمين، فقال: “وكذلك الخدمة بالحمامات يبيتون محاكهم التي يحكون بها أرجل الناس في الملح والماء كل ليلة لئلا تكتسب الروائح، ويغسلون مئازرهم كل عشية بالصابون.”
ففي الوقت الذي نصح عدد من الأطباء المسلمين بدخول الحمام لأن الاستحمام قد يساعد على التخلص من بعض الأمراض، نهى آخرون عن الدخول إلى الحمام، ومنهم أبو مروان بن زهر الطبيب الأندلسي الشهير، “لأنه معفِّنٌ للأجسام ومفسد للأمزجة”.
أما ظهور الحمامات العمومية في البلدان العربية الإسلامية، فكان مع بداية العصر الإسلامي، وقد ارتبطت الحمامات بدور العبادة ارتباطاً كبيراً، فحمامات فاس نجدها هي الأخرى كغالبية حمامات العالم الإسلامي القديم، ملتصقة بمسجد أو تجاوره. ومن الأمثلة المرتبطة جد الارتباط بالجوامع، حمام كان داخل درب بن حيون (الذي لازال الدرب يحمل اسم صاحبه المحسن عبد المالك بن حيون)، وكان من أجل جعل مكان الطهارة جد قريب من جامع القرويين حتى يكون في متناول الطلبة الذين يسكنون في المدارس من حول الجامع أو أساتذتهم، أو حمام برج القرويين الذي يمتد فسيحاً فوق دكاكين الشماعين والسبطرين خاص بالمؤذنين والموقت.
ممن توسع في وصف حمامات فاس حتى أدق التفاصيل حسن الوزان (1488 ـ 1554) في فترة الحكم الوطاسي، والوظائف المرتبطة به من سخان الماء وجامع مواد إحماء الماء والغلمان الذين يقومون على خدمة المستحمين، وكيفية استحمام العامة والأمراء: “في فاس مئة حمام جيدة البناء حسنة الصيانة، بعضها صغير وبعضها كبير وكلها على شكل واحد، أي أن في كل واحد منها ثلاث حجرات أو بالأحرى ثلاث قاعات مختلفة درجات الحرارة. وفي خارج هذه القاعات غرف صغيرة مرتفعة قليلاً يصعد إليها بخمس درجات أو ستة، حيث يخلع الناس أثيابهم ويتركونها هناك. وفي وسط القاعات صهاريج على شكل أحواض، إلا أنها كبيرة جداً.”
وقد أجمع أكثر النحاة على أن اسم الحمام على وزن “جبان” و”قذاف” مشتق من “الحميم”، كما أنه عرف قديماً باسم “الدَيماس”، كما هو في لسان العرب، وقيل أيضاً “الحمام الديماس” أي المكان المظلم.
لقد تعددت في القديم أشكال الحمامات في فاس ووظائف استعمالها، فمنها من هو خاص بالرجال كحمام مولاي إدريس أو العشابين، ومنها ما هو للرجال في الصباح الباكر وفي الليل وللنساء طيلة النهار وهي معظمها، ومنها من يشتمل على حمامين أحدهما للرجال وآخر للنساء مثل ما كان عليه حمام الصفارين أو حمام بن عباد. وإلى جانب وظيفتها في الاغتسال والنظافة والاسترخاء، كانت الحمامات شبه فنادق، يقصدها الغرباء ذوو الدخل المحدود حيث كانت لها أماكن خاصة يبيتون فيها مقابل مبلغ من المال. يذكر حسن الوزان أن كل الحمامات كانت تشتمل على حلاقين يدفعون مبلغاً من المال إلى مالكه حتى يحفظ لهم أدوات عملهم التي يستعملونها في حلاقة المستحمين. كما يمكن تأجير هذه الحمامات ليلة كاملة مثل ما تقوم به العائلات المقبلة على عرس أو ختان أو عقيقة. حيث يدخله النساء والبنات والأطفال الصغار دون الحُلُم أولاً، ثم بعد انتهائهن من الغسل يدخل الرجال والطفال اليافعون.
الحمام عالم الأناة
فإذا كانت عموماً صيغة استحمام الرجال يطغى عليها الاستعجال والإسراع، فإن للنساء طقوس التروي والأناة ونبذ العجلة واصطحاب الأطفال معهن والأكل والشرب في الحمام، وأقله البرتقال حين يكون موسمه.
تسجل الكاتبة الأمريكية أناييس نين في يومياتها لسنة (1934 – 1939) في فصل طويل هذه الأناة والتروي في مشاهد دخول النساء الفاسيات إلى الحمام سنة 1936: “ألفيت النساء العربيات في طريقهن إلى الحمام الذي يقصدنه دائماً أسراباً، يحملن فوق رؤوسهن ملابس الاستبدال. وهن مارات، ملثمات، ضاحكات، لم يكن يبدو منهن غير العيون ولون حناء رؤوس أصابعهن التي شددن بها على مآزرهن… تبعتهن حتى إذا ما ولجن بناية مكسوة بالفسيفساء قرب الجامع، انضممت إليهن. كانت الغرفة الأولى رحبة، شاسعة، مربعة، مشيدة برمتها من الحجارة، وفي وسطها مصطبات حجرية وأسرة فوق الأرض، هنا يستودع النساء رزمهن ويخلعن ملابسهن في طقوس طويلة، حيث يرتدين بزات كثيرة، وقمصاناً مختلفة وأحزمة تبدو كالضمادات. كان عليهن حل ونشر وفرة أثواب بيضاء فوق المصطبات ثم إعادة طي جملة من الأنسجة والأقمشة القطنية. كان عليهن خلع الدمالج، الخلاخل، تحرير الشعور السوداء من رباطاتها الطويلة، الضفائر والجدائل. صار بلاط الأرض حديقة ملابس بيضاء، حقل زهور صفائح ناصعة، الأربطة المنفكة عن أجساد النساء اللحميات. وأنا أراقبهن أحسست أنهن لن يتعرين تماماً، وأن كل ذلك الذي يرتدينه ملتصق بأبدانهن، فقد نما وأجسادهن إلى الأبد.”
لقد عرفت فاس حتى بداية السبعينات من القرن الماضي أنواعاً من الحمامات، منها الباذخة والمتوسطة، وحتى الحمام التركي الذي بقي في ساحة بجلود يحمل اسم “حمام شبكوني”. كما تعرف اليوم حمامات موجهة بالدرجة الأولى إلى السياح الذين يرغبون في عيش هذه التجربة الذاتية بكل جزئياتها من تدليك وعناية بالجسد على الطريقة الشرقية، مثل حمام المرنيسي وحمام بن عباد. فكل الحمامات في المدينة القديمة هي تقريباً في ملك إدارة الأحباس، ودخولها مرتبط بشبكة من الحرف والتجارات التي توفر لوازم الاستحمام من الصابون، ثم الغاسول (تراب الحمم البركانية) والصابون البلدي (من فضلات عصر الزيتون)، والمشط الذي كان يصنع من قرون الثيران والكباش وأصبح اليوم بلاستيكياً، وكيس الاستحمام وهو عبارة عن قفاز دون أصابع، وقديماً استعملت الحجر الأحرش (الخشن) لإزالة الوسخ وهو لا يزال يستعمل حتى اليوم، والطاسات لصب الماء وقباب (الإناء) للتزود بالماء والقباقب الخشبية للمشي، وهاتان الأخيرتان عوضت اليوم بالسطول والمشايات البلاستيكية، والفوطات. وبالنسبة للنساء يزيد عن كل ذلك: الحناء، وسطل من النحاس الأحمر أو الأصفر، وماء الزهر وماء الورد، والدهنات المرطبات للجلد. ناهيك عما يتبع الاستحمام من تناول المشروبات مثل الشاي أو اللبن أو العصائر.
للحمام وجوه عدة
كما أن الحمام يرتبط بمهن داخلية مثل “الكلاس” الذي يتكلف بصندوق ثمن دخول الحمام وحراسة ملابس المستحمين، و”الكلاسة” عند النساء لها نفس وظيفة الكلاس عند الرجال. هناك في داخل الحمام “الكياس” أي مساعد المستحم، يجلب له الماء وتفكيك عقد جسمه من خلال حركات رياضية أشبه بالمصارعة الحرة، وفرك جسمه بالكيس اليدوي وبالصابون ثم صب الماء عليه من رأسه إلى مخمص قدميه. هذا بالنسبة للرجال، أما بالنسبة للنساء فهناك “الطيابة”، وهي امرأة تخدم المستحمات بتوفير الماء لهن وفرك ظهورهن والقيام بما يحتجن في استحمامهن وخاصة المسنات منهن. فكل من الكياس والطيابة تتم مكافئته بمبلغ مالي كل حسب إمكانياته المالية.
كما يرتبط بالحمام وظائف أخرى خارجية، أهمها “الفرناتشي” (من الفرن) وهو المكلف بموقد النار لإحماء ماء الاغتسال، وأيضاً الذي يجمع مواد إشعال النار من فضلات عصر الزيتون (الفيتور) والبقايا المتساقطة من النجارة (النشارة) وغير ذلك من مصادر المواد المستعملة لإحماء الماء.
الرحالة الألماني غيهارت غولف يصف هذه الحمامات سنة 1860 قائلاً:
“ثم ما تستحق الذكر كذلك هي الحمامات الكثيرة التي بعضها يملكه الخواص وبعضها الآخر هو ملك للحكومة أو المساجد. فهي مجهزة مثل كل الحمامات الساخنة في الشرق، في مصر أو في بقية المدن البربرية الأخرى، هكذا لا أرى ضرورة لوصفها وصفاً معيناً. فرفاه الحمامات الجزائرية أو المصرية غير معروف هنا، لا تقدم فوطات لتجفيف، مقابل ذلك فهي جد زهيدة الثمن أيضاً، بحيث حتى الفقير جداً يستطيع نفسه غير ما مرة تحمل نفقات متعة طهارة شاملة.”
الحمام بين الرغبة والرهبة
فقد بلغ عدد الحمامات في مدينة فاس القديمة قبل الحماية 21 حماماً، وفي سنة 1940، ارتفع العدد إلى 30 حماماً، منها 22 ملكاً للأحباس وثمانية للخواص و6 حمامات في فاس الجديد. فدخول الحمام يتراوح بين الرهبة والهيبة لما حول الحمام من حكايات وسرديات شعبية تصب كلها في أن الحمام هو مكان الجن والعفاريت، وذلك لعلاقته بالماء وغرفه القليلة الضوء غالباً حتى لا تبدو عورات المستحمين واضحة. وقد ارتبط بعض هذه الحمامات بمعتقدات خرافية، منها أنه بعد غسل الحمام وتنظيفه وإشعال مجمر البخور تتم إقامة ليلة موسيقية كناوية في داخلها مرة في السنة أو أكثر، من أجل إبعاد الأرواح الشريرة التي تتمثل في كثرة الناموس أو الصراصير. وبين هذه الطقوس الخرافية ما ذكره حسن الوزان حيث كتب: “ويجب أن لا نغفل ذكر عادة الغلمان المستخدمين في هذه الحمام، بإقامة حفل سنوي على الشكل التالي: يستدعون جميع أصحابهم ويذهبون إلى خارج المدينة، مصحوبين بالموسيقيين ينفخون في النفير والمزمار. وبعد ذلك يقتلعون بصلة زنبق يضعونها في إناء جميل من نحاس يغطونه بسماط صغير حديث العهد بالغسل، ثم يعودون إلى المدينة قاصدين الحمام على أصوات العزف حيث يضعون البصلة في سلة يعلقونها على باب الحمام قائلين: «سيكون هذا سبب ازدهار الحمام إذ سيقصده كثير من الناس». في نظري يبدو أن يسمى هذا قرباناً على شاكلة ما كان يفعله الأفارقة القدامى حين كانوا وثنيين، واستمرت هذه العادة حتى وقتنا هذا.”
وتأجير هذه الحمامات يتم عن طريق المزاد العلني عند الأحباس، لكن إذا رضي أهل الحي بالمكتري، كما ورد في كتاب فاس ما قبل الحماية: “طالبوا بإبقاء الكراء باسمه، فتلبى رغبتهم. وهو الذي يؤدي الكراء ويقدم السطول الضرورية للمستحمين، ويؤدي أجرة مسخن الماء والمُمَوِّن بالوقود والبواب والمنظف، ويشتري الوقود ويتحمل مصاريف الصيانة العادية، بينما كانت الأحباس تتحمل الإصلاحات الكبرى. بالمقابل كان يقبض واجبات الدخول الفردية والكراءات الجماعية.”
إن للحمام في حياة الناس أهمية خاصة، حيث كان يشكل أحد الروافد الضرورية والمكونة لبنية الحياة الاجتماعية الجماعية للحي وللمدينة على حد سواء، وجزءاً من ثقافتها في إطار الاهتمام بالنظافة الذاتية والجسدية. وأصبح يضرب به المثل في التغيير الذي يحدثه في شعور وجسم مرتاديه، فيقال: “دخول الحمام ماشي بحال خروجُ.”