أخبار عاجلة

العقوبات البديلة بالمغرب .. إرادة واعية تنشد عدالة إصلاحية

العقوبات البديلة بالمغرب .. إرادة واعية تنشد عدالة إصلاحية
العقوبات البديلة بالمغرب .. إرادة واعية تنشد عدالة إصلاحية

مقدمة:

شهدت السياسة الجنائية في مختلف دول العالم تحديات كبيرة مرتبطة بفعالية العقوبات السالبة للحرية، خصوصًا في ظل تفاقم أزمة الاكتظاظ السجني وانعكاساتها السلبية على ظروف الاعتقال وعملية إعادة التأهيل؛ وفي ظل هذه التحديات برزت العقوبات البديلة كجزء أساسي من السياسة الجنائية المعاصرة.

وإذا كانت العقوبات السالبة للحرية وخاصة القصيرة المدة هي الأكثر انتشارا، فإن واقع هذه الجزاءات أضحى يعتبر عائقا وقاصرا على تحقيق الغاية من السياسة العقابية الحديثة؛ وكمحاولة للإحاطة بهذا القصور، أصبح اللجوء إلى بدائل العقوبات السالبة للحرية مطلبا تشريعيا وحقوقيا ملحا، ويمثل ترجمة لسياسة جنائية حديثة، وكذلك تستجيب لتطورات الظاهرة الإجرامية…

أضحى هذا الموضوع اليوم محورا للنقاش العمومي والمؤسساتي ببلادنا، لا سيما بعد المصادقة على القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، والذي جاء ليعكس الرغبة في تحديث السياسة الجنائية، ويرسم أفقا مغايرا، يرتكز على مبادئ الإصلاح وإعادة الإدماج، بدلًا من الاقتصار على العقوبات السالبة للحرية.

كما تُعد هذه الخطوة استجابة عملية للتحديات الكبرى التي تواجهها المنظومة السجنية المغربية، وعلى رأسها ظاهرة الاكتظاظ ومحدودية التأهيل والإدماج، في ظل مؤشرات مقلقة حول حجم الساكنة السجنية وارتفاع حالات العود إلى الجريمة، إضافة إلى مبررات أخرى اقتصادية واجتماعية وحقوقية …

ومن هنا، يطرح اعتماد العقوبات البديلة في المغرب أبعادًا متعددة ومتداخلة، يتقاطع فيها البعد القانوني بالبعد الحقوقي والاجتماعي. وفي الوقت نفسه، تفتح هذه الأبعاد آفاقًا واعدة لإعادة صياغة العدالة الجنائية، من خلال تعزيز العدالة الإصلاحية التي تركز على إصلاح المحكوم عليهم ودمجهم في المجتمع، وتطوير منظومة عقابية تراعي كرامة الإنسان وحقوقه.

انطلاقًا من هذه الأفكار التمهيدية، سنحاول معالجة هذا الموضوع عبر طرح عدة تساؤلات محورية، منها:

ما هي الدواعي والمنطلقات التي استدعت الانفتاح على العقوبات البديلة؟، وما هي الآفاق المتوقعة لتطبيق هذه العقوبات في ظل المتطلبات والشروط الضرورية لضمان فعاليتها؟

المحور الأول: منطلقات الانفتاح على العقوبات البديلة بالمغرب

من المعروف أن النظام الزجري يقوم بشكل أساسي على العقوبات السجنية. وقد أفرزت السياسة الجنائية في المغرب، وعلى غرار العديد من البلدان، تركيزًا قويًا على العقوبات السالبة للحرية، مما أدى إلى اكتظاظ متزايد في السجون وضغوط كبيرة على منظومة العدالة الجنائية.

وقد جاء تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول وضعية السجون والسجناء (2012) مؤكدا لما تعرفه السياسة العقابية في المغرب من ثغرات حقيقية. حيث رصد التقرير المذكور مشاكل وعيوب عديدة تعاني منها هذه السياسة، من بينها: قدم النظام العقابي، غياب آليات دعم للأدوات التقليدية للسياسة العقابية، تزايد النصوص القانونية العقابية، نقص التنسيق بين السياسة العقابية والسياسات العمومية الأخرى، ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي، عدم فعالية العقوبات السجنية القصيرة، تضخم عدد القضايا الجنائية، وارتفاع نسبة العود.

وإذا كان الاكتظاظ داخل السجون يعد أحد الدوافع الرئيسية لتبني خيار العقوبات البديلة فإن الموضوعية، تقتضي التأكيد على أن هذه المشكلة أضحت خلال السنوات الماضية معطًى بنيويًا يؤثر سلبًا على فعالية المؤسسة السجنية المغربية وأدوارها في التأهيل وإعادة الإدماج، في ظل مؤشرات وأرقام مقلقة تتجه نحو الارتفاع، وتوقعات تشير إلى استمرار تزايد الساكنة السجنية، حيث توقعت المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج أن يصل عدد السجناء إلى حوالي 123 ألف سجين بحلول عام 2028.

في ظل هذا الواقع، بدأت تظهر إرهاصات الانفتاح على تبني العقوبات البديلة كحلول إصلاحية، وقد لعبت منظمات المجتمع المدني دورا محوريا في هذا التحول، فخلال العقود الاخيرة كانت في طليعة الدعوة إلى نظام عدالة أكثر إنسانية وفعالية، مطالبة باستمرار باعتماد تدابير العقوبات البديلة. فمن خلال الحوارات السياسية، ومقترحات الإصلاح القانوني، وحملات التوعية العامة، وجهود بناء القدرات عملت هذه المنظمات على تسليط الضوء على محدوديات الأحكام السجنية القصيرة الأمد والفوائد الاجتماعية للبدائل غير الاحتجازية.

إن الاعتبارات سالفة الذكر كانت على المستوى الرسمي مدعاة للتفكير الجاد في بدائل للعقوبات التقليدية. وقد أسهم التراكم المستمر لدعوات المجتمع المدني الوطني والتوجيهات الأممية بشأن تبني العقوبات البديلة، إلى جانب اعتبارات موضوعية أخرى، بشكل فاعل في دفع جهود تحديث منظومة العدالة الجنائية…

وهنا لابد من التأكيد على الدور المحوري الذي اضطلعت به وزارة العدل في الجهود المبذولة لتكريس خيار العقوبات البديلة، سواء من خلال إعداد الإطار التشريعي الملائم، أو عبر التنسيق المؤسساتي بين مختلف المتدخلين، فقد جاء قانون العقوبات البديلة مؤطرًا بجملة من المرجعيات التي تعكس انسجام هذا التوجه مع الإرادة السياسية والالتزامات الحقوقية للمغرب.

فمن جهة، تنسجم مضامينه مع التوجيهات الملكية التي أرست إطارا مرجعيا لإصلاح منظومة العدالة، حيث دعا عاهل البلاد في خطاب ثورة الملك والشعب (2009) إلى نهج سياسة جنائية جديدة، تقوم على مراجعة وملاءمة القانون والمسطرة الجنائية، ومواكبتهما للتطورات، والأخذ بالعقوبات البديلة، وذلك في سياق إعداد القضاء ليكون مؤهلا لمواكبة التحولات الوطنية والدولية، والاستجابة لمتطلبات عدالة القرن الحادي والعشرين.

ومن جهة أخرى، جاء القانون ليترجم التوصيات الجوهرية التي أتى بها ميثاق إصلاح منظومة العدالة، من أبرزها الدعوة إلى اعتماد بدائل للعقوبات السالبة للحرية، في أفق إرساء سياسة عقابية ناجعة.

ففي ظل هذا السياق التراكمي، الذي جمع بين الاشكالات المتزايدة في السياسة العقابية والالتزامات الحقوقية، فلا شك أن المشرع المغربي راكم ما يكفي من المبررات والدوافع الموضوعية لإقرار بدائل العقوبات، مستلهما الغايات التي تحققها هذه البدائل من التجارب المقارنة، ولا سيما من بعض الدول التي كانت سبّاقة إلى تبني هذا التوجه، مسترشدًا بممارساتها الفضلى في إرساء عدالة إصلاحية وفعالة، وبشكل يعكس الانخراط الطوعي والمتدرج للمملكة في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان.

لذلك، يُلاحظ أن تبنّي العقوبات البديلة لم يكن معزولًا عن السياق العام لمسار ساهم فيه مجموعة من الفاعلين. فقد تميزت لحظة إخراج النص التشريعي إلى حيز الوجود بتبلور قناعات مشتركة بين مختلف الفاعلين المؤسساتيين، والحقوقيين، والقضائيين، بحيث شكل هذا التراكم أبرز المنطلقات لإدماج العقوبات البديلة في المنظومة الجنائية المغربية.

والملاحظ كذلك، أن هذا المسار تطلّب زمنًا مهمًا من التفكير والمراجعة، ولم يكن خاليًا من التردد، نظرًا لتعقيد التحديات المرتبطة بإصلاح منظومة العدالة وتبني بدائل للعقوبات السالبة للحرية.

المحور الثاني: متطلبات وآفاق تفعيل العقوبات البديلة بالمغرب

جاء الانخراط الجماعي والاستعداد لتبني قانون العقوبات البديلة واضحًا وصريحًا منذ البداية، مما يعد مؤشرا قوية على وجود إرادة مؤسساتية ورؤية مشتركة لدى مختلف الفاعلين بشأن غاياته وأهدافه الاستراتيجية.

فقد أشار الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، في سياق اليومين الدراسيين المنظمين حول هذا الموضوع (07 ماي 2025، الرباط)، إلى أن “التشريع المغربي التحق بركب التشريعات الحديثة التي تبنت نظام العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية”، مبرزًا أن هذه الأخيرة تُنفَّذ في “فضاء مفتوح، وفي أجواء تحافظ إلى حد كبير على النمط العادي للحياة للفرد المحكوم عليه “.

وفي ذات السياق، أكد المتحدث أن “نتائج تطبيق العقوبات البديلة أجود من النتائج التي حققها تطبيق العقوبات الحبسية”، مشيرًا إلى ارتفاع نسب التعافي من الإدمان ضمن الفئة الخاضعة لبرامج علاجية بديلة مقارنة بالمحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية. كما تم التأكيد على أن هذه العقوبات تُعدّ “أقل كلفة للمجتمع”، بل إنها قد تكون “مربحة”، لا سيما عندما يتعلق الأمر بعقوبات ذات طابع مالي كالغرامة اليومية.

هذه الرؤية -حسب ما ورد في كلمة رئيس النيابة العامة في ذات المناسبة- تجعل من العقوبات البديلة تمثل “تغيريا جوهريا في النظام العقابي التقليدي بالنظر لمحاسنها وآثارها الإيجابية في تيسير إعادة الاندماج الاجتماعي والمهني للأشخاص المحكوم عليهم وقيمة مضافة للسياسات العقابية التي سبق لدول أخرى أن اعتمدتها بالنظر لمزاياها الإيجابية المتعددة”.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن القناعة المعبر عنها على الصعيد الرسمي، سواء من قبل الحكومة أو من قبل أعلى مستويات المسؤولية القضائية، تؤكد تبلور إرادة تشريعية وسياسية ومؤسساتية مشتركة ومنسجمة تتجه نحو إقرار العقوبات البديلة كتوجه مهيكل في السياسة الجنائية الوطنية، يستند إلى معايير النجاعة، والتكلفة، وإعادة الإدماج.

وإذا كانت القناعة المشتركة تلعب دورًا حاسمًا في رسم معالم النجاح لأي مشروع إصلاحي، فلا شك أن نجاح العقوبات البديلة يتطلب على مستوى التفعيل تظافر جهود جميع الفاعلين في المجال الجنائي والحقوقي من قضاة، ومساعدي العدالة، والمؤسسات السجنية، والمجتمع، إلا أنه لا بد من توفر نصوص تشريعية واضحة وذات جودة تسمح بتطبيقها، غير أن نجاعة النصوص التشريعية ليست وحدها كافية من أجل ضمان تطبيق العقوبات البديلة، بل هناك حاجة ملحة من أجل مواكبة المحكوم عليه، والإشراف على عملية إعادة إدماجه وتتبع مراحلها، والتدخل الفوري في حالة عدم امتثاله لهذه البدائل .

فالملاحظ أنه في البلدان التي حققت نجاحا في مجال العقوبات البديلة هو اعتماد نظامها القانوني على بدائل متنوعة ومتعددة ولم تعط أكلها إلا بعد مرور حيز زمني واسع، مع اعتماد بعض منها على التدرج في تفعيل هذه البدائل، مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات أساسية أهمها الجمع بين نظام العقوبة، والإشراف والمساعدة والدعم، فضلا عن استفادة المحكوم عليه من التعاون الموجود بين إدارة السجون وباقي فعاليات المجتمع المدني، إلى جانب إرساء أسلوب فعال للتتبع والتدخل الفوري والسريع عند الإخلال بالالتزامات المترتبة عن تطبيق العقوبة البديلة…

ولا يمكن إغفال أمر في غاية من الأهمية وهو أن هذه البدائل تتطلب تعبئة موارد مالية وبشرية ولوجستية مهمة، ومن هنا توصي قواعد الأمم المتحدة بأنه ينبغي النظر في الموارد المطلوبة ليس فقط لبدء تنفيذ العقوبات، بل أيضًا لاستمراريتها.

وفي هذا الصدد، ولاستشراف آفاق تطبيق قانون العقوبات البديلة، دعت رئاسة الحكومة كافة أعضاء الجهاز التنفيذي، من وزراء ومسؤولين إداريين، إلى المبادرة باتخاذ خطوات عملية ملموسة، لضمان دخول القانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة حيّز التنفيذ في ظروف فعالة ومنظمة، مع اقتراب موعد سريانه في الثاني والعشرين من غشت 2025.

وتأكيدًا لهذا الالتزام السياسي والتنفيذي، تعهد رئيس الحكومة (من خلال منشوره الصادر بتاريخ 18 يوليوز 2025) بتعبئة وتسخير كافة الامكانيات والوسائل المتاحة لفائدة المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الادماج، من موارد مادية وبشرية وتدبيرية وهيكلية، مع الأخذ بعين الاعتبار الطابع الآني لدخول القانون حيز التنفيذ.

وإذا كانت الموارد المادية والبشرية واللوجستيكية من الإمكانيات التي لا غنى عنها لضمان تفعيل ناجع وفعلي لقانون العقوبات البديلة، فإن التحول من العقوبات السالبة للحرية إلى بدائل أكثر مرونة وإنسانية، يتطلب كذلك جهداً متواصلاً واقتناعا راسخا لدى الفاعلين بأن هذه البدائل ليست تخفيفًا أو تساهلًا، بل هي خيارات عقلانية وفعالة تسهم في تقليص حالات العود وتخفيف الاكتظاظ داخل السجون، وتعزيز الأمن الاجتماعي بمنظور وقائي.

وهو ما يقتضي في المقام الأول تجاوز بعض التمثلات المحافظة لدى جزء من الجسم القضائي، والتي تنظر إلى العقوبات السالبة للحرية كخيار وحيد لتحقيق الردع والزجر، وعلى اعتبار أن القضاة هم المعنيون بالدرجة الأولى ببث الروح في نصوص القانون، على نحو يُجسّد الغايات التي توخاها المشرع، ويحقق مقاصد العدالة.

إن تحقق هذه المتطلبات لا يُتصور بشكل مثالي أو فوري، مهما بلغت درجات الانخراط أو مستويات التعبئة، إلا أنها تُشكّل دعامة أساسية لرسم آفاق واقعية لتنفيذ القانون وتحقيق الغايات المنشودة منه.

خاتمة:

صفوة القول مما ذكر، إن مغزى العقوبات البديلة وفلسفة المشرع الجديدة في المغرب، كما يتجليان من خلال السير الحثيث نحو مراجعة النظام الزجري، يعكسان إرادة واضحة لفتح أفق تشريعي جديد يُضفي على المنظومة الجنائية طابعاً أكثر توافقاً مع التحولات الموضوعية والحقوقية التي تفرض نفسها بإلحاح.

غير أن التنزيل السليم للعقوبات البديلة يظل مرهونًا بمدى قدرة الدولة على بناء منظومة دعم فعالة، قادرة على احتضان هذا التحول، وضمان نجاعة آلياته، عبر توفير بنيات الاستقبال والموارد البشرية المتخصصة، وتوسيع دائرة التكوين القضائي والأمني والاجتماعي حول فلسفة هذه العقوبات ومبرراتها.

ومن هنا يستشفّ أن تفعيل هذه العقوبات يمكن أن يفتح آفاقًا واسعة أمام تحقيق إصلاحات جذرية في منظومة العدالة الجنائية الوطنية، الأمر الذي يبقى متوقفا على مدى قدرة مختلف الفاعلين المؤسساتيين على تحويل الأهداف والتصورات المعلنة إلى واقع ملموس، ومدى تشكل بيئة حاضنة تُهيئ الظروف الملائمة لتطبيق ناجع لمقتضيات القانون، إذ إن نجاح هذا الورش لا يستقيم دون انخراط فعلي لكافة مكونات المجتمع، من مؤسسات رسمية وهيئات مدنية ومواطنين ووسائل الإعلام…

فذلك، يخدم في المحصلة هدفا أسمى يتجلى في السعي نحو عدالة تُساهِم وتؤسس لاستدامة اجتماعية ومجتمعية ويتجاوز المفهوم التقليدي للعقاب، ليرتكز على رؤية إصلاحية تُراهن على الإنسان باعتباره قابلاً للتغيير والتقويم. مما يجعل من العدالة دعامة حقيقية لأمن المجتمع واستقراره.

باحث في القانون العام،
منتدب قضائي بالنيابة العامة لدى محكمة الاستئناف بالناظور

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق ماذا استفاد الأهلي وخوسيه ريبيرو من معسكر تونس؟ أحمد رضا يكشف التفاصيل
التالى ميسي مهدد بالإيقاف في الدورى الأمريكي.. تفاصيل