أثار النقاش التلفزي بين عصيد والحلو، الكثير من التعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي، نبهت مرة أخرى إلى التوتر العميق الذي يعرفه المغرب الحديث، توتر تمثله مرجعيتين متباينتين، مثل عصيد فيه الصوت الحداثي النقدي، وظهر فيه محمد الحلو مدافعا عن القيم المحافظة… إنه توتر لا يعكس مجرد اختلاف بين وجهتي نظر مغايرتين، حسب الأستاذ أحمد الفرحان بل هو “مرآة لصراع أعمق يعيشه المغاربة بصمت أو بصخب، في الأسرة، في المدرسة، في الشارع، وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي. لسنا أمام صراع بين “الخير” و”الشر”، بل أمام نزاع تأويلي حول ما تعنيه القيم، وكيف تُفهم الحرية، وما حدود الفن، وما مكانة الدين في الحياة العامة”.
وإسهاما منا في تغذية هذا النقاش من منطلق المربع الذي نستطيع أن ندلي بدلونا فيه (الخبرة المختصة)، سنحاول أن نتفاعل مع تساؤل طرحه د طلال الحلو، تعليقا منه في صفحته الخاصة بعد انتهاء “المناظرة”. حيث قال: هل يمكن لأي شخص أن يتحدث في كل شيء؟ ما قيمة الدراسة والشهادات والبحث العلمي؟
أقول، إنه مما أثارني في هذا النقاش التلفزي هو السقوط الذي يمكن أن يقع فيه البعض، وتحديدا في الفخ الذي طالما يحذر منه خصومه؛ إنه فخ عدم الاختصاص.
لقد راكم بعض المثقفين رصيدا مهما من الرمزية والشهرة داخل المجتمع المغربي، نتيجة مواجهتهم ومساءلتهم النقدية الدائمة لخصومهم حول الثوابت والقيم والمرجعيات تحت مظلة العلم والكونية … وقد جعلهم ذلك، وانطلاقا من معرفتهم المقبولة لدى جمهورهم (لكنها غير مختصة) من رسم “واقع اجتماعي مفترض” تريده توجهات معينة، بل يتم التعامل مع هذا الواقع على أساس أنه واقع مادي ملموس، يمسي محط ثقة لدى جمهور المثقف والجهة التي تستأنس خطابه.
لقد بيّن جيمس ألان، كيف أن بعض صناع القرار لم يكونوا على ثقة في أمثال هؤلاء، بسبب خطورتهم وقدرتهم على تزييف الوقائع، وتوظيفهم لمعرف مختزلة من هنا وهناك، لكنهم يمتلكون مهارة تركيبها وتقديمها للجمهور على انها وقائع وحقائق، بل إنهم يشكلون حسب ألان خطرا على المؤسسات الديمقراطية، من حيث يعتقد أتباعهم أنهم من أشرس المدافعين عليها؛ ومن أخطر هذه التخوفات هي صناعة رأي عام بناء على مغالطات لا يستطيع غير المختص كشف جوانب الغموض فيها، وبالتالي قد يزج هذا المثقف الذي لا يمتلك معرفة مختصة أو الخبير “تحت الطلب”، بصانع القرار في اختيارات مجتمعية لا يتحملون عواقبها، بدعوى أنها اختيارات ترتكز على معايير “كونية”.
من هنا يصبح المثقف صانع قرار بالوساطة، من خلال توجيهه للرأي العام غير المختص، ومثيرا لقضايا وموضوعات متعددة، قد تكون مصطنعة، لكنها تحظى بالمتابعة والاهتمام الواسع لدى تياره على الأقل، مثل الدين واللغة والثقافة والرياضة والأدب، والموضة والحیاة الفنية والموسيقى. وهي خطابات حسب بيير بورديو لا يخطر على الكثيرين أنها خاطئة، وأضحت اليوم موضوعات إنشائية. لكنها موضوعات تخدم المتنفّذين، وبعض زعماء الأحزاب الذين يبحثون عن أصوات انتخابية، أضف إليهم صناع المحتوى ممن يلهثون وراء الرفع من عدد المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي… إنها ممارسة تخلق نوعا من الإلهاء عن الأسئلة الحارقة، وتحجب الحقيقة عن أنظار الجمهور في مجالات عدة.
يلتقي هذا النوع من المثقفين كما قلنا سابقا مع نوع من الخبراء، الذين ينجزون الدراسات ويصيغون تقاريرها وفق نتائج محددة سلفا، حيث يجهل الكثير من الناس آلياتها وأسرار عملها حسب بورديو دائما. إنها ممارسة تسهم حسب بعض السوسيولوجيين في بناء السخط أو الاحتقان أثناء الصراع المجتمعي، وتسييس واستثمار للقضايا، وتوجيه المظالم والشكاوى.
إن المسألة المثارة أعلاه ليست هينة كما قد يعتقد البعض، لأن الأسماء المتصلة بها لها سمعتها الواسعة وتيارها المعبأ، مما يجعل أية ممارسة نقدية تسير عكس هذا التيار، حتى ولو كانت هادئة عرضة للتهميش والإقصاء والسخرية. ضمن هذا السياق تحضرني واقعة من تاريخ العلوم يمكن عبرها إبراز الفكرة التي نود الدفاع عنها، والتي تجيب في نظرنا إلى حد ما عن تساؤلات طلال الحلو.
ما فتئ العديد من المهتمين بتاريخ العلوم يرددون على مسامع المتعلمين والطلبة المعطى “اليقيني” الذي يعتبر أن فرانسيس بيكون من أشهر من اعتبر أن المعرفة الحقة تتأتى عبر الإلتزام بالخطوات الأربع للمنهج التجريبي، ولمدة ليست بالقصيرة وأغلب هؤلاء يرددون مثل هذه العبارات دون فحص أو نقد، وحتى إذا مارس أحد ما هذا النقد فإنه يكون عرضة للتندر والسخرية بسبب مساسه بأحد أركان المنهج التجريبي والذي ساهم حسب زعمهم في تطوير المنهج ونقده للمناهج التقليدية التي تعتمد على الاستنتاج المنطقي المجرد؛ إلا أن فرانسيس بيكون هذا، سيتعرض لنقد لاذع بعد ذلك، وستكشف عنه ورقة التوت، وسيقوم العديد من العلماء المعاصرين بسحب بساط “الشرعية العلمية” من تحت أرجله التي نسبها له غير المختصين، لكن بعد مرور أزيد من ثلاثة قرون نسبيا من “القداسة” التي أضفاها عليه غير المختصون؛ لقد اعتبر واحد من أبرز الإبستمولوجيين والعلماء (ألكسندر كويري) أن فرانسيس بيكون لم يفهم المنهج التجريبي جيدا، بل إنه (كويري) سيؤاخذه على كونه “لم يفهم شيئا في العلم – N’ avoir rien compris à la science “؛ إنها صفعة في وجه شخصية تمت “أسطرتها” لفترة طويلة، ولم يجرؤ أحد على المساس بها، فكيف يعقل لرجل قانون ومدعي عام أن يتحدث في أمور العلم والطب ! وعلى نفس المنوال سيسير الحائز على جائزة نوبل في الطب “بيتر مدور”، حيث حمل في كتابه “الإستقراء والحدس في التفكير العلمي” كلا من فرانسيس بيكون وستيوارت ميل مسؤولية غياب الدقة أثناء حديثهم عن منهج علمي يتبعه العلماء، وذلك راجع في نظره إلى أنهم ليسوا علماء أصلا، “فهو تصوير خاطئ لما يفعله العلماء أو لما ينبغي أن يفعلوه” وقد قدم نموذجا من عالم الطب كمثال.
إنه استغلال للعلم من طرف أشخاص ليسوا بعلماء، جعلهم يتحدثون في كل شيء تقريبا، ونالوا بذلك شهرة وحظوة من خلال تناولهم لقضايا لا يستطيع العامة افتحاصها ونقدها، خاصة إذا كان هؤلاء العامة ممن ينتمون لنفس التيار الإيديولوجي أو السياسي أو المذهبي للشخص المعني، فيتحول عنصر الثقة بين الطرفين إلى حجاب يمنع من رؤية الوقائع كما هي…
في زمن تتجه فيه المجتمعات نحو المعرفة المختصة، ينبغي قطع الطريق على المدعين مهما كانت شهرتهم الإعلامية، والذين يتحدثون في كل شي، أو على الأقل تضييق نطاق تأثيرهم مؤسساتيا، وفسح المجال للخبرة المختصة التي بدورها لها معاييرها، والتي نعتبر في عالمنا العربي بوجه عام من المتأخرين في التعاطي معها علميا ونظريا، رغم ارتفاع الطلب عليها إجرائيا؛ ينبغي في نظرنا قطع الطريق على المتحدثين في كل شيء والمتدخلين في كل القضايا، خاصة في اللحظات التي تكون فيها المجتمعات على المحك (جائحة كورونا مثلا) حتى لا يتم التلاعب بالمجتمعات والشعوب بداعي التنمية والتقدم.