
- علماء الأزهر أدركوا الخطر مبكرًا فأسسوا «دار التقريب» قبل تقسيم فلسطين
- فتاوى ومواقف سليم وشلتوت والطيب تمدّ الجسور الفقهية بين السنّة والشيعة
- شيخ الأزهر: ما يحدث ليس خيارًا فكريًا بل ضرورة استراتيجية لوحدة الأمة
- رفض تسييس الدين والتحذير من التعصّب في ظل «المشتركات الكبرى»
تظهر دعوات التقريب بين المذاهب الإسلامية كضرورة لا كخيار، في مواجهة العربدة الصهيونية المتصاعدة من فلسطين إلى لبنان وسوريا وغزة، وهو ما أدركه مبكرًا علماء الأزهر، ومفكرو مصر حين أسّسوا عام 1947 "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية"، لمواجهة الخطر الإسرائيلي الموحد في عدوانه على السنة والشيعة والدروز والمسيحيين.
استندت تلك الخطوة إلى فتاوى رائدة مثل فتوى الإمام الأكبر عبد المجيد سليم بجواز التعبد بالمذهب الشيعي، ثم فتوى الشيخ محمود شلتوت، وصولًا إلى جهود الإمام أحمد الطيب اليوم، لتأكيد أن وحدة المسلمين (خاصة الفقهية منها)، هي السدّ الأخير في وجه مشاريع التقسيم والفتن الطائفية التي تُبَثُّ على الهواء مباشرة.

وعام 1947، قرَّر وزير المعارف المصري محمد علي علوبة باشا إنشاء "جمعية إنقاذ فلسطين من الصهيونية"، التي كانت تقتل الشعب الفلسطيني في يافا والقدس وغزة وحيفا، وكان يُحذِّر من قيام إسرائيل كي لا تعربد في منطقة العرب. ثم دُعي إلى قيام أكبر تجمع سُنّي-شيعي في مصر، بحضور كبار علماء المسلمين، لمواجهة الغزو الصهيوني. كان ذلك منذ 78 عامًا.

الآن، يتكرّر المشهد بصورة أكبر: فإسرائيل تضرب سوريا، وتدمّر مقرّ رئاسة الأركان في طهران، وتجتاح غزة منذ عامين. وأمس، قتلت في السويداء وبيروت وغزة أكثر من مائتي شهيد.
نتنياهو يتطاول على المسلمين والعرب، ويُعلن عن خرائط جديدة، لتقسيم البلاد العربية طائفيًّا. الصواريخ الصهيونية الإسرائيلية تقتل الشيعي والسني والدرزي والمسيحي في أيّ مكان، بلا تفرقة.
وأصبح السؤال المهم: متى يتوحّد المسلمون والعرب في مذهب ديني واحد لوأد هذا الخطر الصهيوني الداهم؟ السؤال بصيغة أخرى: أليس كل هذا الدمار في بلادنا العربية دافعًا كافيًا للتقريب والتفاهم بين السنة والشيعة، لصدّ العدوان ومواجهة خطر التقسيم المذهبي الذي يُنفّذ الآن على الهواء مباشرة من السويداء؟
قال الدكتور محمد عبد السلام، الأمين العام لاتحاد حكماء المسلمين، في تصريح لـ"الأسبوع": إن التقريب بين المذاهب الإسلامية يمثل ضرورة دائمة لمواجهة الأخطار التي تهدد الأمة، مشيرًا إلى أنه يفضل استخدام مصطلح "التفاهم" بدلًا من "التقريب"، باعتبار أن التقارب بين المسلمين قائم بالفعل في جوهره.

وقد ردّ الأزهر الشريف، وأعلن الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، موقفه من العدوان الصهيوني على سوريا، ونبَّه الأزهر إلى أنّ الاحتلال يسعى، من خلال هذا التصعيد، إلى جرّ المنطقة بأكملها نحو حافة الانفجار، لتحقيق أهدافه التوسعية في الاستيلاء على مزيد من الأراضي، وفرض واقع احتلالي جديد.وذكَّر الأزهر السوريين بأنّ قوة بلادهم تكمن في اتحادهم على اختلاف أديانهم وطوائفهم، وقدرتهم على التعايش الإيجابي.
ودعيا الجميع إلى اليقظة لمحاولات بثّ الفرقة والفتن الطائفية، التي تهدف إلى تنفيذ أجندات صهيونية تستهدف تقسيم سوريا، وتحويل المنطقة إلى ساحة مستدامة للصراعات، وطالب السوريين إلى التمسك بوحدة أراضيهم، والحفاظ على استقرار بلادهم، متضرعًا إلى الله أن يحفظ الشعب السوري من كل مكروه، ويوحّد صفوفه، ويجنّبه الفتن والمخططات الخبيثة، ويرزق سوريا وسائر البلاد العربية والإسلامية الأمن والاستقرار والرخاء.
وعلى درب الأئمة، يواصل فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، دعوته إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية. ووفقًا لما نشره موقع "اتحاد حكماء المسلمين"، يؤكد الطيب على سماحة الإسلام وضرورة وحدة المسلمين، مشددًا على أهمية نبذ التعصّب والتطرف بين السنة والشيعة.

ويشير شيخ الأزهر إلى أن التقارب بين المذاهب أمر ضروري، وأن الخلافات بينها فرعية، لا تمس جوهر الدين، مؤكدًا أن الإسلام دين يتّسع للجميع. كما يكرر دعواته الدائمة إلى الحوار بين السنة والشيعة، ويدعو إلى وقف العنف والقتل الذي يُرتكب باسم المذهب، موضحًا أن كثيرًا من الصراعات التي تشهدها الدول الإسلامية اليوم إنما تأتي في هذا الإطار المؤسف.
وينتقد الإمام الأكبر تسييس الدين، ويرى أن ذلك يُلحق ضررًا بالغًا بالإسلام، ويجعله عرضة للاستغلال في سوق السياسة، داعيًا إلى الفصل بين الدين والسياسة حفاظًا على قدسية العقيدة.
كما يؤكد الطيب على أهمية الوحدة الإسلامية، مشيرًا إلى أن هذه الوحدة لا تعني بالضرورة التماثل في الرأي، فاختلاف الآراء أمر طبيعي ومقبول في الإسلام. ويتبنى الإمام الأكبر المنهج الأزهري الوسطي المعتدل، ويشدّد على ضرورة العودة إلى روح التراث الإسلامي الذي يدعو إلى الرحمة والتسامح.
ويعتبر أن مسؤولية التقريب مسؤولية جماعية، لا بد أن يشارك فيها العلماء والمثقفون والفقهاء والأدباء والدعاة، إلى جانب الإعلاميين والسياسيين، والمؤسسات الرسمية والشعبية، باعتباره عاملًا مهمًّا في تضييق رقعة الخلافات، والحد من انتشار ظاهرة التعصب التي تؤدي إلى الفتنة والتفرقة، فضلًا عن كونه جسرًا متينًا لترسيخ قيم الائتلاف والتسامح في الأمة الإسلامية.
خطوة رائدة
وتعد "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية"، خطوة رائدة من علماء الأزهر، وكبار مفكري مصر لمواجهة الخطر الصهيوني الذي كان يهدد فلسطين قبل قرار التقسيم، حيث أدرك هؤلاء العلماء أن وحدة المسلمين تمثل درعًا رئيسيًا في وجه المشروع الاستيطاني. وقد أنشئت الدار بمبادرة من عشرين عالمًا من كبار علماء السنة والشيعة، لتكون هيئة معنية بالتقريب بين المذاهب الإسلامية.
ترأس الجمعية عند تأسيسها محمد علي علوبة باشا، أحد أبرز المصلحين المصريين ووزير الأوقاف والمعارف في عدة حكومات، وضمت في عضويتها شخصيات دينية بارزة، منهم الشيخ عبد المجيد سليم (شيخ الأزهر لاحقًا)، والشيخ أحمد حسين (مفتي وزارة الأوقاف)، والإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (عضو هيئة كبار العلماء وقتها)، إلى جانب الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، والشيخ عيسى ممنون، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمد المدني، وجميعهم من أعلام الفقه والفكر الأزهري.
كما ضمت الجمعية قيادات شيعية بارزة مثل الشيخ محمد تقي القمي ممثل الشيعة الإمامية في إيران، والمرجع الديني محمد حسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين، بالإضافة إلى ممثل الزيدية في اليمن علي إسماعيل المؤيد، والقاضي محمد العمري، إلى جانب الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين.

وقد كان للإمام الأكبر عبد المجيد سليم دور بالغ التأثير في دعم مشروع التقريب، من خلال كتاباته وموقفه الواضح في رفع الظلم عن مدرسة أهل البيت الفقهية، وسعيه لإزالة الحواجز بين السنة والشيعة، حيث ظل مرتبطًا بدار التقريب حتى بعد توليه مشيخة الأزهر، وكان يوقّع دائمًا بلقب: "شيخ الأزهر ووكيل جماعة التقريب".
مراسلات هامة
كان الشيخ عبد المجيد سليم أول من راسل السيد حسين البروجردي، المرجع الشيعي الأعلى في قم آنذاك، في مراسلة بالغة الأهمية بين أكبر شخصيتين سنية وشيعية في ذلك الوقت، وقد استمرت هذه المراسلات عبر الشيخ محمد القمي أو من خلال المسافرين بين مصر وإيران، وكان السيد البروجردي يرد على رسائل الشيخ سليم بكل إجلال واحترام.
ثم أعلن الإمام الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم فتواه بجواز التعبد بفقه الشيعة، وقرّر، بروح سمحة وفي أجواء الأزهر، تدريس الفقه المقارن، وحين رأى أن الجو مهيأ، أصدر فتوى واضحة بجواز التعبد بالمذهب الشيعي، وكانت سابقة تاريخية صدرت قبل عشر سنوات من فتوى الشيخ محمود شلتوت بهذا الشأن. وقد مثّلت فتوى سليم خطوة جوهرية من خطوات التقريب، في سياق توالي العطاء الأزهري المصري المنفتح على التفاهم المذهبي.
لاحقًا، تولّى فضيلة الإمام محمود شلتوت مشيخة الأزهر، ولقّب بـ"إمام التقريب"، حيث أصدر الفتوى الثانية بجواز التعبد بالفقه الشيعي. وجاء في نص الفتوى التي نُشرت في مجلة الأزهر (العدد الثاني من المجلد الحادي والثلاثين، أغسطس 1959): "سُئل فضيلته: إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية أو الزيدية. فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه، فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، مثلاً؟"
فأجاب الشيخ شلتوت: إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباع مذهب معين، بل نقول: إن لكل مسلم الحق في أن يقلّد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحًا والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة. ولمن قلّد مذهبًا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره- أي مذهب كان- ولا حرج عليه في شيء من ذلك.
وأكد شلتوت أن مذهب الجعفرية، المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، مذهبٌ يجوز التعبد به شرعًا كسائر مذاهب أهل السنة، داعيًا المسلمين إلى نبذ العصبية المذهبية، والتخلّص من التحيز لمذاهب بعينها. وأوضح أن دين الله لا يتبع مذهبًا بعينه، ولا تقف شريعته على مذهب محدد، فجميع المجتهدين مقبولون عند الله، ويجوز تقليدهم والعمل بأحكامهم في العبادات والمعاملات على السواء.
وقد أحكمت هذه الفتوى أواصر الأخوة، وكرّست روح التفاهم بين الطائفتين، وتلقاها أعلام السنة والشيعة بصدر رحب، خاصة في إيران. كما أصبح الشيخ شلتوت، إلى جانب الشيخ عبد المجيد سليم، موضوعًا رئيسيًا لأطروحات الماجستير والدكتوراه في العديد من كليات العلوم والشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي، نظرًا لدورهما الكبير في محاربة العصبية بين المذاهب، وتعزيز الدراسة الدينية في مناخ يسوده الصفاء والأخوّة والبحث عن الحقيقة بالدليل والبرهان.
مشتركات دينية
نشرت مجلة "المجتمع العربي" ومجلة "الأزهر" عام 1952 لقاءً مع فضيلة الشيخ محمود شلتوت، وجاء في هذا اللقاء السؤال التالي: "هل يعني تدريس مذهب الشيعة في الأزهر أنه جائز التطبيق، أم أنه يُدرس لمجرد العلم والتحصيل وزيادة معارف رجل الدين؟"
فأجاب الشيخ شلتوت: "لسنا حريصين على أن تكون دراستنا في الأزهر لمجرد العلم والتحصيل، إنما نحن ندرس للاستيعاب والفهم، ثم التطبيق والعمل بكل ما يمكن العمل به.
وفقه الشيعة مأخوذ ببعض أحكامه في كثير من القانون عندنا، وكثير من علمائنا عمل ببعض أحكام العبادات عندهم. ونحن إنما نرجع إلى الكتاب والسنة، فمتى لم يخالف الرأي أصلاً من الأصول الإسلامية الصحيحة، ولم يتعارض مع نص شرعي، فلا بأس من تطبيقه والأخذ به، وذاك هو التقريب المنشود، والتيسير المرجو".
وأوضح فضيلته أن الأزهر الشريف قد اعترف بالمذاهب الفقهية الثمانية التي يقلدها المسلمون في العالم في عصرنا الحاضر، وهي: الأربعة السنية (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة)، واثنان من الشيعة (الجعفرية، الزيدية)، واثنان من خارج ذلك هما (الإباضية، والظاهرية).
وقد جاءت هذه الخطوة ضمن إطار الموسوعة الفقهية التي بدأ إعدادها عام 1960 في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والتي وضع برنامجها العلامة الراحل محمد فرج السنهوري، بمشاركة نخبة من كبار رجال الفقه في مصر. وكان قبل ذلك قد أصدر الإمام الأكبر الشيخ شلتوت قرارًا باعتماد المذهب الجعفري، واعتبار الأخذ منه جائزًا لأهل السنة.
ويظهر ذلك جليًا في كتب الفريقين عبر التاريخ، حيث يُعرض رأي هذا، ويُناقش رأي ذاك، مرة لمجرد المناقشة، ومرة للاعتماد، ومرة أخرى للنصرة والترجيح، مما يدل على أنهما على دين واحد، وعلى قبلة واحدة هي الكعبة المشرفة، وعلى مصدر واحد هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
اقرأ أيضاًشيخ الأزهر: لابد أن يسود الأدب والاحترام بين أتباع المذاهب الإسلامية
أمين مساعد مجمع البحوث الإسلامية يستقبل وفد جامعة الدفاع الوطني الباكستانية
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.