تسائل دراسة لسعيد شبار، الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى، شيوع تداول مفردة “الوسطية” في الحديث عن الدين إلى درجة “حجبها مفردات أخرى أكثر دلالة منها على مراد الدين ومقصده في هذا الباب”.
الدراسة الصادرة عن مركز دراسات المعرفة والحضارة، ذكرت أن هذا الشيوع قد شاع معه “استعمال المفهوم الحسي البيني لمعنى الوسط والتوسط فيما هو معنوي كذلك”، علما أن الأصل في المعنوي أنه “يستند إلى منهج في حسن الاختيار والنظر والتقدير، لا إلى موقع تحده أطراف”.
وذكر شبار أنه “إذا تتبعنا الاستعمال القرآني للمفردات التي تدل على المعنى المراد من الوسطية، سنجده قد استعمل غيرها أكثر منها، وبوضوح ودلالة أعمق منها كذلك، وعلى رأسها: الاعتدال والتوازن والسواء والاستقامة والرشد… وغيرها”.
وتابع: “الاعتدال من العدل، ومن العدالة المأمور بها في معاملة كل شيء، بدءا من النفس وانتهاء بالناس وسائر المخلوقات”، كما أن “التوازن من الميزان، وما أكثر الآيات في إقامة الميزان، ليس الحسي فقط المتعلق بالموزونات، وإنما المعنوي المتعلق بالقيم والمعرفة كذلك، وخاصة حينما يقترن ذكر الميزان بالكتاب”، و”السواء من التسوية، وما أكثر الآيات في تسوية الأنفس والموجودات”، و”الاستقامة من (قَوَمَ)”، و”الرشد من (رَشَد”)”. بالتالي “هذه المفردات يحيل بعضها على بعض وكأنها مترادفات؛ فالعدل توازن، والتوازن تسوية، والتسوية استقامة، والاستقامة رشد (….) علما أن بينها اختلافا لا يخفى من جهة اختصاص كل منها بمعنى أدق في سياقه الخاص”.
وقدّر شبار أن “عدم استثمار المفردات المذكورة وعدم تداولها، على الأقل مثل تداول (مفردة) الوسطية”، قد فوّت “فوائد ومقاصد جمة في موضوعات المعرفة والعلوم، وفي مجالات الحياة والسلوك؛ لأنها خطاب مباشر في هذا السياق، تُؤسس له من منطلقات قيمية تخليقية، وتضبط فيه النسب والمقادير، وتُحدّد له الوجهة والمقصد، وتُجنبه الآفات المهلكة؛ وغير ذلك مما لا نكاد نجد له أثرا في نماذج المعرفة والسلوك المهيمنة اليوم، والتي يقودها منطق العولمة بالاستغلال الفاحش لكل شيء، والهيمنة على كل شيء، بل وتدمير قيم الاعتدال والتوازن في الإنسان بدفعه إلى الخروج عن الحالة الآدمية السوية، بتمجيد النزعات الفردانية والحريات المطلقة في الذات، وسائر المتع والملذات باعتبارها غايات ونهايات في الحياة والوجود”.
وأردف شبار: “إذا تتبعنا البناء القرآني للمعاني والدلالات المرادة بالتوسط، دون أن يحضر فيها لفظ التوسط ولا حتى الألفاظ السابقة؛ من خلال دمج وتركيب ما يبدو للبعض في ظاهره متعارضا أو على الأقل مختلفا، من قبيل ثنائيات: الخالق والمخلوق، الغيب والشهادة، الإنسان والطبيعة، الدين والدنيا، الدنيا والآخرة، المادة والروح، المطلق والنسبي… وكذلك: الرأي والأثر، العقل والنقل، الحكمة والشريعة، القديم والحديث، العلم والدين، الدين والدولة، الأصيل والمعاصر، الأنا والآخر… وغيرها من الثنائيات التي لا تزال تصوغ أنماطا من التدين والفهم للدين، وأخرى من السلوك والعلاقات، وثالثة من الأفكار والعلوم والمعارف؛ كلها، أو معظمها على الأقل، مفتقر إلى روح الاعتدال والتوازن والرشد والسواء؛ حيث سنجد هذا الأمر في القرآن من خلال آلية الدمج والتركيب النسقي، منسجما متكاملا ومعتدلا متوازنا”.
وزاد: “ولو أخضعنا أي ثنائية مما تقدم ذكره لمنهجية البناء والتفسير القرآني، لاكتشفنا فيها تلك المعاني والدلالات واضحة عبر طبقات من الوعي مكنونة، كلما تجلت إحداها أحالت على مستوى أعمق منها، يستلزم دقة من النظر أحدّ من سابقتها”.
ثم كتب: “إن فلسفة التكامل دمجا وتركيبا، بين العناصر المختلفة في القرآن الكريم، ومراعاة الاعتدال والتوازن المقررين فيها، أمر يكاد لا يُلتفت إليه للأسف إلا قليلا، وإنما يُصار إلى الظاهر المنصوص من الألفاظ المفردة في سياقات محدودة؛ حيث تكون الإفادة المستخلصة محدودة وقاصرة عن النهوض بواقع المعرفة والعلوم المتعلقة بها، وبواقع الحياة وأنماط السلوك السائدة فيها”.
ورجّح سعيد شبار أن “هذا الأمر، أو نصيبا وافرا منه على الأقل، هو ما جعل خطاب كثير من الدعاة والباحثين يدور حول مفهوم التوسط شعارا أكثر منه مضمونا معرفيا، أي مؤسَّسا من خلال نسقه المفهومي إمدادا واستمدادا في المجالات كلها”.
ومع تفهُّم الدراسة “الصورة التي يقدمها البعض، على أن القيمة أو الخلق الوسط الحميد إذا خرج عن حده هذا واتجه إلى أحد الأطياف يمينا أو شمالا، فإنه ينقلب إلى ضده، أي إلى خلق ذميم؛ فتكون الأطراف بذلك كأنها أسوار وقاية له وضبط للاعتدال فيه، وكأنه يستمد اعتداله منها”، وهي صورة يقدّر المصدر أنها “لا تصمد حينما نستحضر المعنى الأصلي للتوسط والاعتدال والتوازن، الذي يبنيه القرآن الكريم باعتباره منهجا في التدين، وفي الفكر والمعرفة، وفي التقدير والاختيار؛ توزن به الأقوال والأفعال، حتى يتبين أرجحها وأصلحها وأصوبها، بغض النظر عن موقعها، فضلا عن استقلالها بقيمتها الذاتية، وتفاعلها مع نسقها القيمي المماثل لها وليس المختلف عنها”.
وتقدّم الدراسة مثالا: “قد يكون وسطا وعدلا في بعض الأحيان الإنفاق الكثير، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لما جاء بماله كله؛ وكما فعل عثمان رضي الله عنه لما جهز جيشا بكامله، ولا يقال إن ذلك إسراف. وقد يكون توغلا واقتحاما في القتال، طلبا للشهادة ودفاعا عن الدين وجماعة المسلمين كما فعل جِلة من الصحافة، ولا يقال إن ذلك تهور. ويمكن استحضار الصورة المقابلة، وهي الإمساك حين لا يُرى نفع في العطاء، أو الإدبار حين لا يُرى توازن في القتال، ولا يسمى ذلك شحا ولا جبنا”.
وتأسفت دراسة سعيد شبار لما “يسود اليوم” من “ذهول كبير عن عالم الغيب ودوره في تقويم عالم الشهادة”؛ “فمظاهر الحروب التي تباد فيها شعوب، وأشكال الظلم والعدوان الممتدة من الوحدات الصغرى في المجتمع إلى الوحدات الإنسانية الكبرى، والإسراف والتبذير في الخيرات والمقدرات الطبيعية، والتلوث البيئي الخطير، والتحكم الجيني والتدخل الكيماوي في المأكولات والمشروبات… كل ذلك ناجم عن الجشع والطمع، والرغبة في السيطرة والتحكم، وامتلاك وسائل القوة والاستعلاء؛ وهذا بالضبط ما عبر عنه القرآن الكريم بالطغيان الناجم عن توهم الاستغناء: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)، أي الطغيان في عالم الدنيا المتنكر لعالم الآخرة ولدوره في الترشيد والتسديد، فحين يتم الاستغناء عن القيم الضرورية للحياة التي يوفرها الدين، والتي تحفظ للوجود الإنساني اعتداله وتوازنه، وتهذب سلوكه وطباعه النازعة إلى السيطرة والتملك، لن تكون نتيجة ذلك إلا الطغيان الذي من مظاهره الآفات المذكورة”.