أخبار عاجلة
توقيع اتفاقية التحليل الكمي للجريمة -
اعتصام حملة شهادات بالرباط -
الطير يطالب لاعبي اتحاد طنجة بالقتال -

هل تحتاج الفلسفة إلى تلقي "دروس تقوية" من اللاعب لامين يامال؟

هل تحتاج الفلسفة إلى تلقي "دروس تقوية" من اللاعب لامين يامال؟
هل تحتاج الفلسفة إلى تلقي "دروس تقوية" من اللاعب لامين يامال؟

احْتفلَ “لامين يامال” مؤخّرا بعيد ميلاده الثامن عشر، ومعه احْتفلَ كلُّ المُدافعين الذين انتظروا هذا اليوم ليتنفَّسُوا الصُّعداء قائلين: “عَلى الأقلّ الآن نُعَاملُه باعْتباره رَاشدًا حين يُراوغنا ويحرجنا علنًا!”

بدون بكالوريا وبلا فلسفة: “يامال” يكفي

يخرج “لامين يامال” من بيت الطفولة، في زمنٍ تُقاس فيه القيمة بتنوّع الشهادات، حاملاً قدمًا يسارية تُزعزع أركان الكُراسات المدرسية، ويُعلن بمنتهى البساطة: لا حاجة لي بالبكالوريا، ولا بالفلسفة، فأنا أُجيب عن أسئلتهما معًا في تسعين دقيقة. لا يعرف أفلاطون، لكنه ينفذ فكرته عن المدينة الفاضلة مع كل تمْريرة. لم يُمتحن في الحرية، لكنه يُمارسها دُون إذْن تربوي. لا يكتب مقالات عن الزمن، بيد أنه يوقفه حين يراوغ. هو حجّة ضد أولئك الذين يظنون أن النضج يُقاس بالعمر، أو أن العبقرية لا تأتي إلا بعد قراءة “نقد العقل الخالص”. “يامال” لا يحتاج امتحانًا يثبت به وعيه، ذلك أننا نحن من يحتاج امتحانًا لنفهم كيف لطفلٍ لم يقرأ بعد فلسفة ديكارت أن يُعيد ترتيب مبادئها بكعْب قدمه.

لم يقرأ “لامين يامال” سبينوزا، ولا يعرف الفرق بين الأنطولوجيا والإبستمولوجيا، لكنه يُحطّم المسلّمات برِجل واحدة، ويجعلنا نعيد النظر في تعريف العقل العملي. لا يحتاج هذا الفتى إلى مقولات سقراط لأنه ببساطة يعيشها دون أن يتفلسف بشأنها: يعرف نفسه، يسائل العالم، ويُجبر الخصم على الاعتراف بالجهل… خلال شوط واحد فقط. لو دخل يومًا امتحان الفلسفة وكتب على الورقة: “أنا ألعب، إذن أنتم تُحلّلون”، لحصل على أعلى نقطة، لأن جوابه صحيح، ولأن لجنة الامتحان ستكتشف فجأة أنها تجلس في مدرجات الملعب بدل قاعة التصحيح.

حين تُصبح التمريرة المفاجئة أطروحة وجودية

من قال إن العبقرية تحتاج إلى شارب كثيف يشبه شارب نيتشه وشهادة جامعية؟ كيف يُمكن لمراهق لم يُكمِل بعد تمارين الفلسفة أن يُربك دفاعات تُدرَّس في دورات تدريبية متقدمة؟ وهل يُعقل أن يصبح تلميذ في الثانوية مرجعًا كرويًّا قبل أن يحلّل مقولة “الحرية شرط للمسؤولية”؟ أيّ نوع من البشر هذا الذي لم يتعلم بعد مفاهيم سقراط، لكنه يُمارسها ببراعة على العشب الأخضر؟ ولماذا يبدو “لامين يامال” وكأنه يكتب نصًا فلسفيًّا كلما لمس الكرة؟

نعمْ، تفتح الملاعب هوامشها العشبية على مصراعيها لاستقبال فتى في السادسة عشرة، يركل الكرة كما لو كان يركل باب الوُجُود، ليقول: أنا أفكر، إذن أنا أُسجّل، كأنما يقول: تحتاج الفلسفة أيضًا إلى مهارة قدمٍ وجرأة مراوغة.

ومن قال إن المرجعية تُكتسب بعد النضج؟ “لامين يامال” يُربك تسلسل العلل والمعلولات، ويضعنا أمام معضلة فلسفية من طراز كُرَوي: هَلْ يُمكن لصاحب السجل المدني الطّري أن يصبح قُدوة لأصحاب اللحى والحصص التدريبية الثقيلة؟ يلعب “يامال” على الجناح، وهو في الحَقيقة يتمركز في قلب المتفرج، يُراوغ الأظهِرة، والبداهات العقلية معا. كيف يمكن لمراهق لم يُنْهِ بعد تمارين البكالوريا في الفلسفة أن يُحرج حرّاس مرمى تمرنوا على الوجود والعدمية؟

كل المذاهب سقطت في الاختبار… ما عدا مراوغة “يامال”

لا يملك هذا الفتى الحق في شراء مشروب طاقي في بعض البلدان، لكنه يَمنحُ الطاقة لجمهور بأكمله عبر تمريرة واحدة. لم يدرس بعد مبحث القيم، ورغم ذلك فهو يُعيد ترتيبها كلما لمَس الكرة. أي فلسفة تُجاري لمستُه الأولى؟

عادة ما تستخلص الأفكار من بطون الكتب، إلاّ أن “لامين يامال” يخرجُ ليُلقننا درسًا مختلفًا: التفكير لا يحتاج إلى رأس أصلع ولا إلى سبورة، وإنما إلى رِجل يُمنى تعرف متى تُمرّر، ومتى تتوقف لتُعيد تعريف الحُرية. من هنا يتحوّل الملعب، في لحظة مُراوغة حاسمة، إلى فضاءٍ فلسفي مفتوح، تتحرك فيه المفاهيم كما تتحرك الأقدام. ما الفارق بين تمريرة ذكية وموقف وجودي؟ من يراقب “يامال” وهو يختار الزاوية الضيقة ليهرب من خصمين، يدرك أن الحرية مهارة تكتيكية. لم يجلس في ندوة عن الفكر، بيدَ أنه جعل من كل حركة على العشب درسًا عمليًّا في تحرير الذات.

يطرح نيتشه في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” تصورًا رمزيًّا لتحوّلات الروح، مُجسِّدًا إياها في ثلاث مراحل: الجَمل، الذي يتحمّل الأثقال؛ ثم الأسد، الذي يثور على الأوامر والقيم السائدة؛ وأخيرًا الطفل، الذي يُجسد البراءة والخلق الجديد للعالم؛ غير أن نيتشه لم يشاهد “لامين يامال”، ولو رآه لأضاف تحولًا رابعًا إلى تلك السلسلة: “الفتى الذي يُحاور كرة القدم” عبر الإيماءة الصامتة، واللمسة البسيطة، والمراوغة التي تُربك الخصم وتُدهش الوجود.

ليس “لامين يامال” مجرّد لاعب، إنّه سؤال فلسفي يمشي، يُراوغ، ويُحرج المسلمات. هل النضج تجربة بيولوجية تُقاس بالسنوات، أم تمرين تكتيكي تُنجزه بالحدس والجرأة في مساحة ضيّقة؟ “يامال” لا يجيب بالكلام، وإنّما بالفعل. إنهُ البرهان الحيّ على أن العبقرية قد تظهر قبل أن تنبت أول شعرة في الذقن، وأن بعض المراهقين لا ينتظرون النُّضج… لأنهم ببساطة سَبَقُوهُ.

أما حين يسجل “يامال” فإنه لا يصرخ مثلما يفعل أقْرانه… يبتسم، كأنه قرأ “نقد العقل الخالص” وأدرك أن التواضع هو سمة الكبار، أو ربما اكتشف ببساطة أن الهدف لا يحتاج للشرح، لأنه لحظة “حدس نقي”، كما يقول كانط.

التمريرات الحاسمة بوصفها أطروحات فلسفية

يُحكى أن سقراط (الفيلسوف طبعا، وليس اللاعب البرازيلي الشهير) سُئل ذات يوم: “من هو الإنسان الكامل؟”، فأجاب: “هو من يُحسن طرح الأسئلة”. لكن “يامال” لا يسأل، لأنه يجيب مباشرة بكعب القدم، فيربك المدافع، ويجعل الفلسفة في موقع التّسلل. لقد قلب الفتى نظرية النضج رأسًا على عقب: بالكاد بلغ سنّ التصويت، لكنه انتُخب ضمن التشكيلة المثالية للأمم الأوروبية. أي مفارقة أكثر فلسفية من هذه؟ هل يحق لأستاذ الفلسفة أن يمنحه نقطة متوسطة في الامتحان، بينما الآلاف من المحللين يمنحونه أعلى التنقيط أسبوعًا بعد أسبوع؟ هل من الإنصاف أن يُعامل كطفل في قاعة الامتحان، وكأسطورة في استوديوهات التحليل؟

وحده “يامال”، دون غيره، يستطيع أن يزاوج بين “الذات المفكرة” و”الذات المراوغة”، أن يُعيد صوغ ثنائية الجسد والعقل، وهو يخترق الدفاعات كما يخترق السؤال الفلسفي المُسَلمات.

هل نُعلّق صورته في قاعات الفلسفة بدل نيتشه وديكارت؟ ليس لأنّه أعمق منهم، وإنما لأنه اختصر مساراتهم في ربع ساعة لعب. إنه يلعب، وهذا كافٍ ليجعلنا نعيد التفكير في مفاهيم كنا نعتقدها محكمة: النضج، البطولة، الوعي، وحتى الزمن. الزمن عنده يُقاس باللحظات التي يصمت فيها الجمهور، ثم ينفجر. وهنا يبلغ السؤال ذروته: هل اللحظة الجمالية أسبق من البرهان المنطقي؟

حين يراوغ “يامال” فإنه يُحدث اضطرابًا في مبادئ السَّببية. لماذا تراجع المدافع؟ لماذا سقط؟ لا جواب إلا في منطق يشبه منطق الأحلام. كل تمريرة منه تحمل بعدًا أنطولوجيًّا: هل نحن هنا لنُفكر؟ أم لنَفرح؟ أم أن الاثنين قابلان للاندماج في حركة واحدة ساحرة؟ يعلّمنا “لامين يامال” أن العبقرية ليست ثمرة ناضجة تأتي بعد سنوات من الاجتهاد، بيد أنها قد تُطلّ فجأة مثل ومضة، أو كزهرة تنبت بعناد في شقّ صخري؛ لذلك نراهُ يقتحم المستقبل بخطوة طفل واثق، يراوغ التوقعات كما يراوغ المدافعين. ففي حضرته، تتلعثم مفاهيم النضج، وتضطرب مقاييس التطور؛ إذ كيف يمكن لعقلٍ لم يجتز بعد امتحان الفلسفة أن يُربك كبار المدافعين، ويعيد تعريف معنى “الخبرة” على أرض الملعب؟ ليس “لامين يامال” مجرد موهبة مُبكّرة، إنه مفارقة حيّة تُجبرنا على إعادة النظر في فكرة الزمن، وفيما إذا كانت العبقرية فعْلَ تراكم… أم شرارة تُشعل اللعبة منذ اللمسة الأولى.

درس في الميتافيزيقا عبر الجناح الأيسر

من الناحية النظرية، يبدو من غير المعقول أن يستطيع طفلٌ لا يزال يُحضِّر عرضًا مدرسيًّا عن “الاحتباس الحراري” أن يُوزّع الكرات بـ”تبصّرٍ سوسيولوجي” في الثلث الأخير من الملعب. غير أن “لامين يامال” المولود سنة 2007 (بعد صدور أول آيفون)، خرق هذه المعادلة بنحو جعل التحليل الرياضي نفسه يعيد النظر في أدواته: كيف يستطيع هذا الفتى أن يُحرج منتخبات بنَت خططها على بحوث الفيزياء الكمية؟ ربما لهذا السبب تمثل تجربة “لامين يامال” نموذجًا حيًا للتوَتر بين الزمن والعقلانية في سياق الإبداع الرياضي، حيث تبرز الموهبة من غير أن تخضع لمنطق السنّ ولا لضرورات الخبرة المسبقة. فبينما تُعد الأعمار جداول زمنية مفروضة تقيس نضج الأداء وتتوقع تطور المهارات، يفاجئنا “يامال” بقدرة على الأداء تفوق كل حسابات العقلانية المتعارف عليها، مما يجعل منه ظاهرة تعيد طرح السؤال الفلسفي القديم: هل للنضج حقًا أن يُقاس بالزمن؟ أم أن الموهبة، في جوهرها، نزوع متحرر من القيد الزمني، تنبثق كحالة استثنائية من اللامنطق حين ترفض التصنيفات الجامدة؟

هذا الفائض اللاعقلاني، الذي يتجسد في أداء “يامال” يعيد تشكيل مفهوم الكفاءة ذاتها، إذ يبدو وكأن الموهبة تُستمد من زمنها الخاص الذي يقاس بعمق الحساسية الفنية وجرأة القرار اللَّحْظي. من هنا، تكشف هذه الحالة الاستثنائية عن بُعد جديد للإبداع الرياضي، لمّا تتحولُ المَوْهبة إلى كائن حُرّ يتجاوز خطابات العقل والتجربة ليغدُوَ صرخة إبداعية في وجه معايير الزمان المألوفة.

عنصرية مُغلَّفة بالذُّهول

ليس “لامين يامال” مجرد فتى معجزة؛ إنه أيضًا امتحان أخلاقي حادّ للمخيال الأوروبي حول مفهوم الهوية والانتماء. فبحكم أصوله المغربية-الغينية الإسبانية، صار جسده الموهوب ساحة لتصارع خطابات متضاربة عن الأصل والهوية، بين من يعتبره ثمرة لأكاديمية برشلونة، وبين من يرى فيه نموذجًا معقدًا للهجرة والتعدد الثقافي الذي لا تزال أوروبا تتردد في احتضانه؛ تكشف هذه الثنائية بعمق عن هشاشة خطاب الانتماء الرسمي، وكيف يمكن للاعب صغير أن يتحول إلى رمز سياسي وثقافي يتجاوز حدودَ ما هو رياضي.

تساهم الصحافة الإسبانية في نسْج هذا التوتر المعرفي؛ فهي تحتفي بأهداف “يامال” بفرح يبدو طفوليًا وبريئًا، قبل أن تسوّقه سريعًا ضمن خانة “الاندماج الناجح” بإثارتها لسؤال وُجُودي: هل هو حقًا فردٌ يحتفل به لذاته، أم مجرد آلية لإعادة بناء سرديات إيديولوجية تبرر حضورهُ في المجتمع؟ في هذا التحول المفاجئ، يعكس “لامين يامال” حالة الموهبة باعتبارها مساحة مفتوحة للتجديد والتحدي، وللأسئلة الكبرى حول معنى الانتماء والهوية في عالم متداخل ومتغير:

فهل يمكن للموهبة أن تكون أفقًا يتجاوز كل تصنيفات الهوية الوطنية أو الثقافية؟ هل يعقل أن يكون “لامين يامال”، في سنواته الأولى، سفيرًا لصراع الحضارات أو حوارها؟ وإذا كانت الموهبة قادرة على قلب المعايير وتفكيك الأساطير التي نعيشها عن السنّ والهوية، فما الجديد الذي تعلمناه من تجربة هذا الفتى؟ وهل لا تزال أطرنا الفكرية والاجتماعية قادرة على احتواء مثل هذه الظواهر التي تكسّر القوالب وتجبرنا على إعادة التفكير في الذات والآخر؟

“لامين يامال” موهبة تهرب من زمنها

موهبة مبكرة تعكس تسارع الحياة في عصرنا: من نضج الجسد إلى صخب الشهرة، يصبح “يامال” صورة لطفل يقطع المسافات بين البراءة والاحتراف بوَميض خاطف، وكأن الزمن قد تعثّر أمامه، فتوقف عن كونه خطًا مستقيماً وانقلب إلى مشهد متداخل من طفولة تتزامن مع نجومية فورية. إنه بذلك شاهد حي على اعتبار النجومية طفرة بيولوجية تفاجئ الجميع قبل أن تُكمل أجسادنا مراحل النمو المعتادة. في هذا السياق لم يعد صبي في السادسة أو الثامنة عشرة مجرد طفل يتعلم ويكبر، وإنما صار كائنًا يعبث بالمعايير ويعيد تشكيلها، محققًا انتصارًا سريعًا على قوانين الزمن التي كانت تحكم مصير الطفولة والتّطور.

“لامين يامال” لاعب كرة قدم، وهو أيضا اختبار مستمر لقدرة مجتمعاتنا على استيعاب تلك الظواهر الاستثنائية التي تقاوم أطر الزمن والتصنيفات التقليدية، فهل نحن مستعدون لفهم موهبة لا تلتزم بقوانين الأعمار؟

هل تحتاج الفلسفة إلى دروس تقوية من “لامين”؟

وهل يحقّ لمصحح ورقة الفلسفة أن يمنح هذا الفتى علامة متوسطة، وهو الذي أهدى البشرية تمريرة لا تُنسى في نصف نهائي اليُورُو؟ وهل من العدل أن يُسأل عن أطروحة ديكارت، بينما جسده يجيب يوميًا بلغة أكثر وضوحًا من “الكوجيطو” ذاته؟ أليس من العبث أن يُطلب منه تحليل مفهوم “العبقرية”، بينما تحلل الدفاعات عبقريته كل ثلاثة أيام؟ وهل يحتاج فعلًا إلى اجتياز امتحان الفلسفة، أم يكفي أن تُعلَّق صورته على غلاف كتابها المدرسي؟ ثم منْ نكون أمامه: مشجعون، أم مجرّد هواة أمام طفل يتقن “فن التساؤل” بقدمه أكثر مما نُتْقنه نحنُ بأقلامنا؟

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق تقديم مباراة تشيلسي وبالميراس في ربع نهائي كأس العالم للأندية 2025
التالى بعد رحيله عن أرسنال.. إتهامات الاغتصاب تضرب توماس بارتي