هذا الكتاب مترع بصدق الذاكرة وإخلاصها أكثر من الاستذكار نفسه، عندما يسمي متنه الأشياء والمواقف كما هي، بغض النظر عن قناعة الكاتب نفسه. وتلك لعمري فضيلة أخلاقية تميز بها الراحل منذر نعمان الأعظمي، الذي غادر العراق منذ ستينيات القرن الماضي، لكنه لم يغادره أبداً. لذلك نقشت على ضريحه في مقبرة الجلاز بتونس: “قلنا: يا هذا الضالع بالهجرات/ هل يوصلك البحر إلى العراق؟ قال: أحمل كل البحر وأوصلُ نفسي.”
“عراق + رياضيات = سيرة الأكاديمي منذر الأعظمي” هو عنوان ملفت وضعته زوجة الراحل، هيفاء زنكنة، في إعداد وتقديم الكتاب الذي صدر بطبعة رقمية عن دار “إي كتب” قبل أيام.
استهلت زنكنة، وهي تقدم الكتاب، بفقرة موجعة عندما يعترف الأعظمي، المولود في الأعظمية عام 1942، بأنه لا يملك شيئاً ذا قيمة مادية، مثل لوحة نادرة، كما لا يملك شيئاً ذا قيمة رمزية، مثل ساعة أو مسبحة صلاة ورثها عن والده. لذلك يفكر في ما سيحمله إذا اضطر إلى مغادرة البيت، وعدم العودة أبداً! وهذا ينتهي إلى أنه يشعر بالخفة لأنه لا يملك الكثير.
غادر الأعظمي الحياة بشكل فجائي في تونس عام 2022 ودفن هناك.
اكتشفت هيفاء، بعد لقائها الثاني مع منذر عام 1988 في لندن، أنه هو من تريد قضاء عمرها معه حبيبا وصديقا وزوجا ورفيقا، لذلك تستذكر سؤاله عن الحب في يوم ما وهما يشاهدان فيلماً رومانسياً. ولأنها كانت مشغولة بمصير البطلة، لم تجبه، لكن الموت جعلها تستعيد السؤال القديم وهي تقدم لنا كقراء هذا الكتاب، مثلما تقترح الإجابة على سؤال زوجها الراحل. كما تستشهد بإجابته على سؤال الكاتبة البريطانية إليزفالموربيدا حين سألت منذر عن هيفاء ونشرته في متن “كتاب النهايات السعيدة” الصادر في 2007، ويضم فصلاً عن علاقة الزوجين العراقيين المغتربين.
لم تكن إجابة منذر لفالموربيدا متأخرة، مثلما لم يكن استذكاره لطفولته وصباه في الأعظمية متأخراً لنا كقراء.
وجد الراحل في هيفاء بأنها من يسند رأسه على كتفها، مثلما تفعل هي، لذلك وقع في حبها دون أن ينتبه.
هذا الكتاب بعنوان أشبه بمعادلة فيثاغورسية، ليس سيرة لتلك العلاقة الأفلاطونية بين منذر وهيفاء، كما أنه ليس سيرة ذاتية لمنذر الأعظمي، بل هو رسالة لفرط صدقها تجعل القارئ يرتدي ربطة عنقه احتراما لهذا الكاتب المجدد في علوم الرياضيات عندما عمل مع البروفسورة مارغريت براون “رثته بمقال في صحيفة الغارديان” في برنامج للتقييم المتدرج في الرياضيات، الذي يجمع بين نظرية التسريع الفكري والتطبيق للإجابة عن سؤال: من يُعلِّم المعلّمين؟ هل بإمكانهم نقل قيم لم يتربّوا هم أنفسهم عليها إلى طلابهم؟
كان منذر الأعظمي شيوعياً وبقي أخلاقياً في زمن سياسي مبتذل ورخيص. غادر العراق معارضاً منذ ستينيات القرن الماضي لكنه وقف مع العراق في الحرب مع إيران ورفع صوته ضد تجويعه بطوق الحصار الأعمى عام 1990، ثم كان الصوت العراقي النقي وهو يقف ضد احتلال بلاده عام 2003 في حملة “ليس باسمنا.”
في كل ذلك، يطلعنا منذر الأعظمي على صورة مدينة صغيرة على ضفاف دجلة اسمها الأعظمية، وكيف كانت بمثابة العراق، تختلط فيها الأصوات القومية والماركسية والإسلامية منذ منتصف القرن الماضي. فهو الشيوعي الذي يرتاد باطمئنان مسجد أبي حنيفة النعمان منذ الصغر، مثل كل العراقيين، للشعور بذلك السكون الروحي، ويعيش الأجواء المتسامحة التي سرعان ما اختطفتها الأحزاب السياسية فتحولت الأعظمية إلى منطقة صراع بين القوميين والشيوعيين ثم البعثيين.
يحمل هذا الكتاب، الذي هو نتف من الذاكرة، رسالة مفعمة بالاطمئنان والاعتداد بالنفس لعراقي شغوف بالتساؤل، وُلد في الأعظمية، وعاش في موسكو ولندن، ومات بشكل مفاجئ في تونس.