عالجت دراسة حديثة الإصدار، نشرها ثلاثة أساتذة باحثين مغاربة من جامعتيْ ابن طفيل والحسن الأول في دورية عالمية محكّمة، “كيفية تأثير تغير المناخ على الإنتاجية الزراعية والأمنيْن الغذائي والصحي في البلدان النامية”، ضمنها المغرب.
النتائج المتوصل إليها جاءت داعمةً لـ”ضرورة اعتماد سياسات متكاملة تجمع بين التخفيف من آثار التغير المناخي، وتعزيز الإنتاجية، وتقوية النظُم الصحية من أجل بناء نظم غذائية قادرة على الصمود”، حسبما طالعته هسبريس في ثنايا الدراسة وملخصها.
ولفت مُنجزو الدراسة، وهم أساتذة باحثون من مختبر الاقتصاد والسياسات العامة (LSEPP) بكلية الاقتصاد والتسيير بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، ومختبر البحث في الاقتصاد النظري والتطبيقي (LARETA) بكلية الاقتصاد والتسيير بجامعة الحسن الأول بسطات، إلى أن “معظم الدراسات السابقة ركزت على بلدان منفردة أو فترات زمنية قصيرة، مما يحدّ من فهم الديناميات طويلة المدى والعلاقات المعقدة بين المناخ والزراعة والصحة عبر سياقات تنموية متنوعة”.
واستخدم الباحثون منهجية “Panel-ARDL” أو “نموذج الانحدار الذاتي ذي الفجوات الزمنية الموزعة للبيانات المقطعية الزمنية” بغرض تحليل بيانات 20 دولة نامية على امتداد 21 عاماً من الفترة 2000-2020 موزعة على أربع قارات بهدف تحديد العلاقات قصيرة وطويلة المدى بين المتغيرات المناخية ومؤشرات الأمن الغذائي والصحي.
“مؤشرات مقلقة”
وكشفت النتائج عن “علاقات مفاجئة” أعطت “مؤشرات مقلقة” بشأن “تأثيرات التغير المناخي على الإنتاجية الزراعية وصحة الإنسان” ما بين عاميْ 2000 و2020 بعدد من الدول النامية موضوع الدراسة.
وأظهرت النتائج ذاتها، حسبما أفاد به الباحثون جريدةَ هسبريس (فاطمة أزدگاز، عمر الزيراري ومريم لواء الدين) أن “انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لها علاقة سلبية قوية مع الإنتاج الغذائي بمُعامل بلغ ناقص 0.472 و”علاقة إيجابية قوية مع تأخر نمو الأطفال بمعامل زائد 0.386″، مما يتحدى النظريات السائدة حول فوائد “تسميد الكربون” للنباتات.
في المقابل أظهرت الأراضي المخصصة للحبوب “ارتباطاً إيجابياً بالإنتاج الغذائي” بمعامل +0.112 وارتباطاً سلبياً بتأخر نمو الأطفال بمعامل ناقص 0.096، وهي مؤشرات تؤكد “أهمية الاستثمار في الإنتاجية الزراعية”.
وفيما يتعلق بالديناميات الزمنية، تبيَّن من خلال الدراسة المنشورة باللغة الإنجليزية في مجلة علمية مختصة “Global Transitions” (المجلد 7، 2025، الصفحات 430-440) أن “الإنتاج الغذائي يتعافى من الصدمات بسرعة تعديل 29,1 بالمائة سنوياً، بينما تقزُّم الأطفال يتعافى بسرعة أبطأ تبلغ 25.2 بالمائة سنوياً”، مما يؤشر على أن “التأثيرات الصحية أكثر استمرارية من التأثيرات الإنتاجية”.
أما “تأثيرات قصيرة المدى” لظاهرة ارتفاع درجة الحرارة فجاءت “معنوية إيجابية على كل من الإنتاج الغذائي بمعامل +0.374 وعلى تأخر نمو الأطفال بمعامل +0.416”. بينما كانت التأثيرات طويلة المدى غير معنوية، مما يشير إلى “قدرة محدودة على التكيف مع التغيرات التدريجية، لكن مع بقاء الضعف أمام الصدمات المناخية قصيرة المدى”، حسب المصدر نفسه.
كما أكدت النتائج عينها أن “الأراضي الزراعية تحقق تأثيرات إيجابية قصيرة المدى على الإنتاج الغذائي بمعامل +0.183 وتأثيرات سلبية على تأخر نمو الأطفال بمعامل ناقص 0.142، مما يعزز أهمية الاستثمار في القطاع الزراعي”.
ومنهجيًا تُستخدم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (CO₂) الوطنية كـ”مؤشرات تمثيلية لمسارات مناخية متعددة، بما في ذلك تغيرات درجات الحرارة وأنماط التنمية الاقتصادية التي تؤثر على النظم الغذائية”.
وتكشف النتائج وجود علاقات سلبية قوية وطويلة الأمد بين انبعاثات CO₂ وإنتاج الغذاء، إلى جانب ارتباطات إيجابية مع “التقزّم لدى الأطفال”.
تحدّي نظرية “تسميد الكربون”
ومن أهم ما خلص إليه الباحثون المغاربة أن الدراسة تحدّت نظرية “تسميد الكربون”، التي تفترض فوائد ثاني أكسيد الكربون على النباتات.
وقال الباحثون إن “النتائج أبانت عن تأثيرات سلبية قوية على كل من الإنتاج والصحة، كما تُبين أن النتائج الصحية أكثر حساسية للمتغيرات المناخية من مؤشرات الإنتاج نفسها، وأن الاستثمار في إنتاجية الحبوب يحقق مكاسب مضاعفة للأمن الغذائي والصحة، بالإضافة إلى وجود ديناميات زمنية مختلفة حيث التأثيرات قصيرة المدى للحرارة معنوية، بينما التأثيرات طويلة المدى غير معنوية”.
توصيات
بناء على هذه النتائج، أوصت الدراسة بـ”تطوير استراتيجيات شاملة تجمع بين تخفيف الانبعاثات، وتعزيز الإنتاجية الزراعية وتقوية أنظمة الصحة، مع تجنب النهج القطاعي المنعزِل والتركيز على الحلول متعددة الأبعاد”.
كما ألحّت على “أولوية الاستثمار في تحسين إنتاجية الحبوب لكل هكتار بدلاً من التوسع الأفقي وتطوير تقنيات الزراعة الذكية مناخياً المقاومة للتقلبات المناخية”.
وتشمل التوصيات أيضاً “بناء أنظمة إنذار مبكر للصدمات المناخية قصيرة المدى، وتعزيز قدرة الأنظمة الصحية على الاستجابة لتأثيرات تغير المناخ، مع ضمان وصول الفئات الأكثر ضعفاً لفوائد تحسن الإنتاجية الزراعية، وتطوير شبكات أمان اجتماعي قوية لحماية الفئات المهمشة من الصدمات المناخية”.
كما دعت الدراسة، ضمن أبرز التوصيات، إلى “تطوير أنظمة مراقبة شاملة تتابع النتائج الصحية والغذائية المرتبطة بالمناخ، وإنشاء آليات تقييم دورية لفعالية السياسات والتدخلات”، مُبرزة أن “مواجهة تحديات تغير المناخ على الأمن الغذائي والصحة تتطلب نهجاً متكاملاً يتجاوز الحلول التقليدية المنعزلة، مع التركيز على الاستثمار في الإنتاجية الزراعية المستدامة، وتخفيض الانبعاثات لتحقيق مكاسب متعددة الأبعاد للتنمية المستدامة”.
جدير بالإشارة أن هذه الدراسة استخدمت مجموعة متوازنة من 20 بلدًا ناميًا تم اختيارها بشكل استراتيجي لتغطية مختلف الظروف الجغرافية والمناخية والاجتماعية والاقتصادية، التي تؤثر على العلاقات بين المناخ والصحة الغذائية. وتشمل العينة خمسة بلدان من كل منطقة نامية رئيسية: آسيا (الصين والهند وإندونيسيا والأردن وماليزيا)، وإفريقيا (مصر والمغرب ونيجيريا وتونس وجنوب أفريقيا)، وأوروبا (البوسنة والهرسك وبلغاريا وكرواتيا ورومانيا وتركيا)، وأمريكا اللاتينية (الأرجنتين والبرازيل وكولومبيا والإكوادور والمكسيك).