وسط مطالب نقابية ضاغطة بضرورة “زيادة قيمة المعاشات” والتشديد على “تحقيق إصلاح شمولي ومنصف”، تبدّت مخرجات “اجتماع 17 يوليوز” للجنة الوطنية لمتابعة ملف التقاعد، تبعًا لخلاصات اجتماع دورة أبريل 2025 للجنة العليا للحوار الاجتماعي، الذي خُصص لمناقشة الوضعية الحالية لأنظمة التقاعد، و”الاتفاق على آليات الاشتغال والمقاربة التي سيتم اعتمادها بشكل توافقي من أجل وضع إطار ملائم لهذا الملف”، حسب بلاغ لرئاسة الحكومة.
وبينما تعبّر الحكومة عن “إرادة سياسية واضحة لمعالجة هذا الملف ذي البعد الاجتماعي، بمنهجية تشاركية مبنية على الثقة وضمن رؤية إصلاحية تراعي حقوق مختلف الفئات المعنية وتوازن مصالح الدولة والمقاولة”، تتشبث المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية برفض “الثالوث الملعون” أو “المساس بالمكتسبات”.
وبعد أن قدّمت وزيرة الاقتصاد والمالية “مبادئ ومنهجية للنقاش والعمل المشترك من أجل تصور موحّد يضمن الحقوق والاستدامة المالية”، عُهد للجنة تقنية، تضم ممثلين عن النقابات وأرباب العمل والقطاعات الحكومية والصناديق المدبرة، “إعداد مقترح وتصوّر” سيشكل قاعدة للإصلاح وضمان الديمومة.
“ضبط التوازنات والتوافق الصعب”
تعليقاً على الموضوع يرى محمد عادل إيشو، المحلل المالي المختص في الاقتصاد القياسي، أنه “يجب ألا يُنظر إلى إصلاح التقاعد فقط من زاوية التوازنات المحاسباتية، بل هو ملف حيوي يدخُل مرحلة دقيقة تفرض على الجميع قدراً عالياً من المسؤولية، في ظل مطالب نقابية متزايدة برفع المعاشات وتحقيق إصلاح شامل ومنصف”.
وأكد إيشو لجريدة هسبريس أن “هذه المطالب تأتي في وقت دقيق يتسم بضغط كبير على المالية العمومية، مما يفرض تساؤلات عميقة حول مدى القدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية دون الإخلال بالتوازنات المالية التي تمكن الدولة من مواصلة التزاماتها التنموية والاجتماعية. لكن إذا كانت الواقعية المالية تفرض الحذر، فإن ذلك لا يعني بالضرورة تجميد الحقوق أو تجاهُل معاناة المتقاعدين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن”.
واستدل الخبير ذاته بالمعطيات الرسمية لسنة 2023، التي تشير إلى أن “أنظمة التقاعد تغطي 4.8 ملايين منخرط مقابل 1.4 مليون متقاعد، توزع عليهم معاشات بلغ مجموعها 67.2 مليار درهم، بزيادة 3.5 بالمائة. بالموازاة، بلغت قيمة استثمارات الصناديق الثلاثة الكبرى (CMR، RCAR، CIMR) نحو 317.4 مليار درهم، تتوزع إلى سندات (54.6 بالمائة)، وأسهم (33.6 بالمائة)، وعقارات (10.5 بالمائة)، إضافة إلى 64.4 مليار درهم أودعها CNSS لدى صندوق الإيداع والتدبير”.
وأضاف مستدركا “لكن رغم هذه المكاسب، يستمر العجز في التفاقم. فالصندوق المغربي للتقاعد سجل عجزاً تقنياً بـ8 مليارات درهم، تقلص إلى 4.7 مليارات درهم بعد أرباح مالية استثنائية. أما RCARفسجل عجزاً تقنياً بـ4.4 مليارات درهم، خفّضه الأداء المالي إلى 317 مليون درهم فقط. بينما حقق CIMR نتائج إيجابية بفائض تقني يناهز 4.3 مليارات درهم، وإجمالي 7.9 مليارات درهم”.
كما نبّه إلى أن “الوضع أكثر هشاشة لدى متقاعدي CNSS، حيث لا يتجاوز المعاش المتوسط 2168 درهماً، أي أقل من نصف الدخل المتوسط الوطني (5.609 دراهم). والأسوأ أن مَن قضوا حياتهم المهنية بأكملها في القطاع الخاص لا يمكنهم الحصول على أكثر من 4.200 درهم شهرياً بسبب سقف الأجر المرجعي المحدد في 6.000 درهم. وأقل من 10 بالمائة فقط من المتقاعدين يصلون إلى هذا المستوى، أما الغالبية فتعيش على معاشات تقل عن 1.500 درهم، ونحو 35 بالمائة من المتقاعدين يحصلون على معاشات بين 1.000 و1.500 درهم، و20 بالمائة ما بين 500 و1.000 درهم، وغالباً ما يكونون من المستفيدين من معاشات الأرامل أو التقاعد النسبي”.
وحسب الخبير المالي ذاته، “يجب إدراج الملف ضمن رؤية استراتيجية شاملة تهدف إلى إعادة الاعتبار للفئات التي ساهمت في بناء الدولة المغربية طيلة عقود، وتكريم مَن خدم المرفق العام في ظروف صعبة وبأجور محدودة. فالمتقاعدون لا يجب أن يُنظر إليهم كعبء، بل كفئة اجتماعية تستحق الحماية، خاصة في ظل التحولات الاجتماعية والديموغرافية المتسارعة. وهذا يتطلب إصلاحاً تدريجياً وعادلاً يضمن تحسين المعاشات الدنيا، وتوسيع الوعاء المساهماتي، وخلق آليات تضامنية تُساهم فيها الدولة والقطاع الخاص على حد سواء”.
وختم قائلا إن “الدفاع عن المتقاعدين لا يتعارض مع أهداف الاستدامة، بل يشكل جزءاً من الرؤية العادلة للنموذج التنموي الجديد الذي يجعل من الإنسان محوره الأساسي. ومن هذا المنطلق، فإن إصلاح التقاعد يجب أن يكون فرصة لتعزيز الثقة بين الدولة والمواطن، وليس لحظة تحميل الفئات الضعيفة كلفة التوازنات المالية. الوقت الآن ليس للمراوحة، بل لحسم وطني يجمع مختلف الأطراف على أرضية الإنصاف والمصلحة العامة”.
“مشكل بنيوي والزيادة مطلبٌ مشروع”
ووفق عبد الرزاق الهيري، مدير مختبر تنسيق الدراسات والأبحاث في التحليلات والتوقعات الاقتصادية بفاس، فإن “عدم قبول النقابات لإصلاح أنظمة التقاعد سيستمرّ ما لم تُقترح حلول مبتكرة تتجاوز الأساليب التقليدية”.
وقال الهيري، في تصريح لهسبريس، إن “الحلول المقترحة يجب أن تُراعي المشاكل الاقتصادية الكبرى، وعلى رأسها ضعف قدرة الاقتصاد الوطني على خلق فرص شغل كافية، واستفحال القطاع غير المهيكل”.
ولفت إلى أن “خلق مناصب شغل جديدة من شأنه أن يعزز الاقتطاعات، وبالتالي سيرفع موارد الصناديق”، مؤكدا أن “تجنب “ثالوث الحلول التقليدية: رفع سن التقاعد، رفع نسبة الاقتطاعات، خفض قيمة المعاشات؛ لاسيما أن الحل الثالث مرفوض بشدة من طرف المتقاعدين والمقبلين على التقاعد، وبالتالي من طرف النقابات”.
“المشكل بنيوي بطبيعته”، يبرز الخبير الاقتصادي، ويتجلى ذلك -حسبه- في معطيَيْن: “ضعف القيمة الحقيقية للمعاشات بسبب تآكل القدرة الشرائية الناتج عن التضخم، خاصة بعد سنة 2022، مما يجعل مطلب زيادتها ذا مشروعية”، و”ارتفاع متوسط أمل الحياة، مما يزيد من الأعباء المالية لصناديق التقاعد”.
ويرى الهيري أن “الحل الأمثل يكمن في إصلاح اقتصادي شامل يمكّن من خلق مناصب شغل ومحاربة القطاع غير المهيكل”، مبرزا أن “التوصل إلى توافق بين الحكومة والنقابات سيكون صعباً، نظراً لسوابق الإصلاحات التي كانت غالباً سلبية على فئة المتقاعدين والموظفين النشطِين”.
وأضاف أن “الطبقة الشغيلة تحدد اختياراتها المهنية بناءً على توقعاتها المستقبلية بشأن التقاعد، مما يجعل جودة المعاشات قضية مركزية بالنسبة إليها. كما أن تحسين قيمة المعاشات ضرورية بالنظر إلى كثافة المصاريف في مرحلة الشيخوخة، خاصة الاستهلاك والعلاج”.
وإجمالاً، يستبعد الهيري أن “تكون هناك زيادة في قيمة المعاش حاليًا لأن الوضع المالي الحالي للصناديق لا يسمح بذلك على المدى القصير”، مستحضرا أنه “تم إعفاء بعض المعاشات من الضريبة على الدخل في مالية 2025، لكن ذلك لم يأتِ شاملا لفئات عديدة”، مما يجعل “النظر الحكومي في هذه المطالب قد يحسّن القدرة الشرائية للمتقاعدين بما يساهم في عجلة النمو الاقتصادي”.