1- تقديم: بين تجديد التحديث وجمود التقليد
يتّسم المغرب المعاصر بنوعٍ من التوتر الوجودي منذ الاستقلال بين نزعتين متناقضتين: فمن جهة هناك رغبة متزايدة في التحديث، تحديث شجاع ومدروس، وانفتاح ذكي على العالم، وتفاعل محسوب مع العولمة، ومن جهة أخرى، هناك مقاومة صلبة من طرف بُنى مدنية وسياسية مؤسساتية وشعبية متكلسة لهذا الانفتاح على التحديث والتغيير، ولممارسات ثقافية تدبيرية وتنظيمية وتقريرية، تكرّس الرتابة والنمطية والخوف من التجديد والابتكار الجذري. وتبخيسه تحت عناوين متعددة ومتناقضة منها الحفظ على الأصالة وتمجيد السلف والخوف على الهوية ومديح الموروث… إلخ.
تنجلي مقاومات التحديث والتغيير في السياسات الثقافية وفي الممارسة الفنية وفي صناعة الكتاب وفي المسرح والسينما، بل وحتى في محاولة النهوض وتأطير وتقنين قطاع ألعاب الفيديو أخيرا، وفي دعم وتنظيم الفعاليات الثقافية بكل أشكالها وأنواعها. كل ما سبق من تجليات ثقافية بالمعنى العام للكلمة، جميعها محكومة بمنطق “إعادة التهيئة الشكلية”، بدل الجرأة على تفكيك البُنى المفاهيمية والتنظيمية التي تشكّل أساس الرتابة والتكرار وإعادة الإنتاج، حيث تسوج وتتفوق التوجهات الكمية والمبادرات التبريرية والتجزيئية، المُتسمة في نهاية المطاف بالحفاظ على القائم الدائم الموروث، رغم ما تحقق بالفعل من “تحسينات” تظل بعيدة عما هو بنيوي ونوعي.
هنا وفي هذا السياق، يُمكن لاستلهام أطروحات الفيلسوف الفرنسي فرانسوا جوليان “François Julien” المتمحورة حول مفاهيم أهمها “فك التطابق”، أن تمدّنا عبر أدوات مفاهيمية تحليلية ونقدية، بآفاق مغايرة لمفهوم النقد “غير المحبوب ولا هو مُستحب” ضمنيا وعلانيّة ببلدنا. ليس الهدف ولا المبتغى استيراد نموذجً فكري خارجي، بل إن الغرض هو الانفتاح على ما يسميه الفيلسوف فرانسوا جوليان بـ “البَوْنُ L’écart – ” والمقصود إيجاد مسافة خلّاقة بيننا وبين ما تكلس في أذهاننا، من نمطيات وأفكار وتصورات ومواقف وأحكام وآراء سلّمنا بها وسلمناها أنفسنا وعقولنا، تسمح هذه المسافة بإعادة مُساءلة البديهيات، وتفكيك العادات الذهنية الراسخة، وتجاوز الانغلاق تجاه المستقبل، وتجاه أفكار جديدة للتدبير والتسيير وتأطير السياسي والثقافي.
2- التفكير انطلاقًا من البَوْن
أسس فرانسوا جوليان، المتخصّص في الفلسفة الصينية، مُجمل مشروعه الفلسفي على مقارنة غير مُتماثلة بين الفكر الأوروبي -المستند إلى إرث يوناني “عقلاني”- والفكر الصيني الذي يبني تصوراته على السيرورة وعدم الثبات والسكون، وعلى البطء الحكيم والفعالية التغيِيريّة الصامتة.
يؤكد فرانسوا جوليان في مؤلفاته على أنه لا يهدف لاستيراد الغرابة أو تحبيب الاختلاف، بل يكمن هدفه في خلق “شَقٍّ استراتيجي” “fissure” بين الفكر ونفسه، أو ما يسميه في مفاهيم تفكيره المتميز بـ “فكّ التطابق وتعطيله”(Dé-coïncidence) . وهو لا يعني القطيعة الابيستيمولوجية لدى سابقيه، بل فتح إمكانيات جديدة بالابتعاد عن المسلّمات، فليس المقصود هو:
“ما يُبعد، بل هو ما يفتح المجال” (François Julien, L’écart et l’entre.)
لا ينمو الفكر، في نظر فرانسوا جوليان، إلا حين يفك ويتخلص من تطابقه مع ذاته (coïncidence)، وليس من خلال ثورة غير منتظرة أو مفاجأة، بل عبر إحداث شقوق تدريجية في البُنى القائمة والموروثة بالتفكير والتحليل والنقد، أو كما يعبر عن ذلك عند قوله بأن انهيار الكهوف يبدأ بالتصدعات الصغيرة: (“François Julien, Rouvrir des possibles. 2023”).
تؤكد الفلسفة على أهمية السؤال، السؤال الصحيح وليس المفتعل أو الخاطئ، فالسؤال الصحيح نصف الجواب لأنه يضع التفكير على سكة “فكِّ تطابق الذات مع نفسها، والفكر مع نمطيته ومع السائد والمألوف: تلك هي البوابة الملائمة لأي دخول لعالم التغيير والتحديث الفعال والهادئ والجذري.
3- السياسة الثقافية في المغرب.. غياب البَوْنُ “L’écart” وهيمنة التطابق
تعاني السياسات الثقافية المغربية من مشكل بنيوي أساسي وهو إعادة إنتاج الموجود المُتاح، وذلك من خلال تنظيم وتدبير وإعادة إنتاج فعاليات مناسباتية، مهرجانات موسمية، وخطابات احتفالية، دون مساءلة عمق الفعل الثقافي أو بناء استراتيجيات ذكية وإبداعية بنفَسٍ وبرؤية طويلة المدى. نقد في هذا السياق بعض الأمثلة الملموسة:
– يعاني المسرح المغربي من سطوة الإخراج الكلاسيكي المُعلّب، في ظل غياب الدعم الكافي للبحث التجريبي، وغياب لغات مسرحية بديلة، وتكوينٍ مُختلفٍ جذريا عن السائد يمكنه الكشف عن مواهب حقيقية وليس مجرد طلبة نجباء يتبعون نماذج سائدة ويلفقون منها استمرارية تدعي أكثر مما تحقق في العمق قطائع عميقة، تفتح باب تحديث مدهش لمسرح ولد في صلب الوطنية وحراك الاستقلال والهوية الوطنية.
– شبه غياب كامل لصناعة الكتاب والنشر عن المشهد الثقافي الوطني اليومي العام. فغالبًا ما تكون السيادة لسياسة تجزيئية تتجلى في معارض دورية مناسباتية، عوض السعي لتأسيس منظومةِ نشرٍ وطنية حقيقية أو مشروع وطني يربط الكتاب والنشر باستراتيجية للقراءة العمومية والتعليمية، منضبطة لتفكير مُلائم للمتغيرات الاجتماعية والتواصلية والصناعية لمفهوم القراءة والتنشئة، والتواصل والتربية على القيم التي تغيرت وغيرت معها البنيات الثقافية في العالم وفي البلاد.
– اختزال سياسات الشباب غالبًا في إدارة وقت الفراغ وتدبير المخيمات وتأطير اللعب والتقرير الجزئي في صعوبات عيشه بشكل محدود، عوض الاستثمار في التحرُّر الرمزي، والتّمكِين الفكري، وفي نشر حسٍّ نقديّ لدى الأجيال الجديدة. عبر كل المتاح من إعلام ومنصات فرجة وتواصل جماهيري… إلخ.
4- إعادة التفكير عبر “فكّ التطابق”
لا نقترح كما يقول فرانسوا جوليان، “ثورة ثقافية” بالمعنى الكلاسيكي، وهو ما لم يعد ممكنا على كل حال بالنظر للتحولات الكبرى التي عرفها ويعرفها العالم، بل نقترح فصلا تدريجيًا لتطابق الفكر والنظرة والمقاربات التقليدية مع واقعٍ جافٍ، وذلك من خلال إحداث “شقوق ممكنة في بنيات تدبير المؤسسات ذات الولاية، وفي بُنى التفكير والتأطير والتقرير في ميدان الثقافة والفنون وكل ما يتصل بها، وخاصة مساحات التكوين والتربية والترويج.
أ- في السياسة الثقافية العامة:
– إنشاء مجالات تجريبية للتباعد الثقافي والسياسي: يتعلق الأمر بإنشاء منصات أو تجارب تُدار خارج منطق سلطات الوصاية المؤسساتية الحكومية المركزية، والإدارات الكلاسيكية، يمنح فيها القرار التدبيري للمتخصصين من فنانين ومثقفين بناء على مشاريع مضبوطة في الزمان والمكان تتم الموافقة عليها وتمويلها، وذلك بغرض التمكن من تفتيق مساحات وعقول وطاقات شبابية لتجريب نماذج عمل تشاركي وثقافة جماعية محلية، تغني الوطني وتمنح المعنى للكوني وليس للعالمية بالمعنى الكمي كما هو سائد اليوم ومتفشٍّ بشكل غير منتج ولا مبدع ولا بنيوى ولا مجذر لنبل معاني الإبداع والكونية.
– نزع صفة “التنزيه” عن منطق التكنوقراط، وتجاوز الرؤية التدبيرية الإدارية الصّرفة، لصالحِ مقاربةٍ تقوم على التغيير البطيء الحكيم والعميق والمنتج والمُواكِب.
ب- في الصناعات الثقافية والإبداعية:
– دعم الإنتاجات الفنية التي تخالف وتكسر التوقع بدل تأكيده، وتشجع تشقيق التقليد الجمالي والتجريب السطحي الكاذب والأجوف والاستهلاك السّهل.
– تمويل المشاريع الغامضة والناقصة المفتوحة الأفق، التي لا تشبه المألوف ولا تتبع نمط المستهلك، بدل تلك المُكرَّسَة في السوق أو في “ذوق النخب والعامة” على حد سواء، فالحدود بين النخب والعامة في مجتمع لا يقرأ ولا يذهب للسينما والمسرح ولا يسمع من الموسيقى سوى النمطي قصيرة جدا والتماثل قوي.
ج- في التكوين والتعليم الفني:
– تفكيك الخيال والتخييل الاستعماري/الأنثروبولوجي، الذي يروج بقوة عبر سينما العولمة والثقافات العابرة، وعبر الناطقين باسمه فينا وبيننا، والذي لا يزال يعلِّم الأجيال الصاعدة الإبداع كنسخٍ لأشكال ناجحة سائدة وتمجيدية للقوى المهيمنة عالميا، ويخنق الخيال الحر والطري للثقافات المحلية، بحجج الواقعية وتكريس الوضع الموروث والقائم.
– فتح فضاءات التعليم على تخصُّصات مُركّبة وجِرّيئة: مثل تركيب الفلسفة وألعاب الفيديو، المسرح والبيئة، السينما والرياضيات، الصوتيات وتحليل السلطة… إلخ.
5- نحو حداثة مغربية غير مستوردة:
ليس المطلوب من تحليلنا هذا لا “إقناع الغرب” أو “محاكاة كوريا الجنوبية” أو “تكرار النموذج الفرنسي” أو “الأمريكي”…. بل المقصود هو فتح إمكانيات محلية حقيقية في طرق وأنظمة التفكير الممارسة، بما يجعل الحداثة المغربية نابعة من تباعدٍ كافٍ مع الذات الموروثة، المُلقَّنة عن ظهر قلب، لمزيج مما هو استعماري سالِب ومحلي متكلس ودوغمائي وكوني سطحي.
“تبدأ الفلسفة حين نكف عن التطابق مع أنفسنا” – )فرانسوا جوليان).
ليست الحداثة في فكر فرانسوا جوليان مشروعًا نهائيًا أو أنها حكر على الغرب، بل هي سيرورة غير بطولية، مرنة وعابرة للهويات وقابلة للتفكيك وإعادة البناء من جديد. إن الفلسفة منتوج فكري إنساني نقدي وتركيبي صحيح، لكنها تخضع لتطور الشرط الإنساني ولمبدأ التغيُّر والتغيير، رغم كونها من أدواته بامتياز.
6- الخاتمة: شجاعة البَوْنُ “L’écart”:
لا تكمن الشجاعة السياسية والفكرية الحقيقية في المغرب اليوم، في استعراض الخطط أو في توسيع الميزانيات، بل إنها تكمن في القدرة على فتح “شقوق ذكية” في الآفاق. شقوق في البنيات الذهنية للإدارة التدبيرية والتقريرية، في التفكير، في الفن، في التعليم وفي منظومة القيم الموروثة ومبادئ الاشتغال اليومي عمليا.
ليس ما نحتاجه إصلاحًا تقنيًا، بل تفكيكًا نقديًا لبنى العقل المدبر، يحرر الفكر من تطابقه مع مؤسساته، ومن رتابة شعاراته، ومن محدودية خياله.
إن اللحظة الحالية، بما تحمله من اختناق وتكرار، ليست سوى دعوة مستعجلة إلى “فكّ التماهي” مع الذات المؤسساتية الثقافية، والبحث عن مسارات أخرى، تُفتح من تحت، ولا تُفرض من فوق بتجزيء يفتقر لاستراتيجيات بنيوية متكاملة وشجاعة وحكيمة، تملك وسائل خططها الطموحة والذكية.