تقديم
من عجائب الوظيفة العمومية المغربية أن حاضرها يكاد يكون هو ماضيها، وإن حدث أن شذت عن هذه القاعدة وقدر لها أن تكون موضوع إصلاح، تحت وطأة تحديات أو سياقات ظرفية، فإن قدرة هذا الوسط الاجتماعي والمهني المعقد على إفراغ كل إصلاح من مضمونه أو إقباره تظل مثيرة للدهشة، ولنا في هذا الأمر شواهد وسوابق كثيرة من بينها ما يتعلق بموضوع الأنظمة الأساسية للموظفين.
لم يرد أي تعريف للأنظمة الأساسية ضمن ظهير 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، غير أن مضمونها بشكل عام يتمحور حول تحديد مهام الموظفين الخاضعين لها وشروط توظيفهم وتطور مسارهم المهني من خلال نظام الترقية، والأرقام الاستدلالية المرتبطة بمختلف رتب الدرجات التي تشتمل عليها الهيئات أو الأطر، إضافة إلى التعويضات النظامية…، وتختلف من حيث أصنافها تبعا لعلاقتها بالنظام الأساسي العام، وفق ما يحدده الفصلان 4 و 5 من هذا النص التشريعي. ويثير هذا التصنيف الكثير من اللبس (لاسيما بالنسبة لتلك الواردة في الفقرة الثالثة من هذا الفصل 4) على مستوى معاييره والنتائج المترتبة عنه، خاصة في علاقته بالضمانات الأساسية التي تعتبر اختصاصا حصريا للبرلمان، وكذا منظومتي الأجور والتعويضات.
تبعا للموقع الرسمي لوزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة يبلغ عدد هذه الأنظمة الأساسية 40 نظاما أساسيا، تم تصنيفها إلى ثلاثة مجموعات هي:
– الأنظمة الأساسية الخاصة بالأطر المشتركة بين الوزارات؛
– الأنظمة الخصوصية؛
– الأنظمة الأساسية الخاصة بموظفي بعض الإدارات العمومية.
وهو تصنيف يبتعد عن ذلك الوارد في الفصلين 4 و 5 السالفي الذكر، حيث نجد أنظمة أساسية تطبيقية وأخرى مستقلة ثم مجموعة ثالثة تتضمن مخالفات للنظام الأساسي العام.
ترتبط مناسبة التطرق للأنظمة الأساسية في الوظيفة العمومية بجولة الحوار الاجتماعي الجارية حاليا، والتي صرحت بخصوصها الحكومة أنها ملتزمة بفتح النقاش حول مراجعة الأنظمة الأساسية لبعض الهيئات، وفق ما ورد في البلاغ الصحفي لرئاسة الحكومة بتاريخ 30 أبريل 2025. وضمن نفس السياق دعا منشور رئيس الحكومة رقم 2025/07 بتاريخ 09 ماي 2025 حول تفعيل الحوار الاجتماعي القطاعي وانتظامه، أعضاء الحكومة إلى استكمال دراسة بعض الملفات الفئوية.
توضيح مفاهيمي
بداية لابد من الإشارة إلى ملاحظة مهمة تتعلق باستخدامي لمفهوم الأنظمة الأساسية بدل مفهومي الهيئة والإطار، حيث الغرض هو مسايرة الشائع رسميا وإعلاميا تفاديا لإضفاء المزيد من الغموض على هذا الموضوع، كوني أعتقد أن الأنظمة الأساسية لا تعبر عن حقيقة التعدد والتنوع الفئوي الموجود في الوظيفة العمومية المغربية، بحيث إن الكثير منها تتكون من أكثر من هيئة أو أكثر من إطار أو هما معا، ولكل منها مقتضيات خاصة وإن كانت تابعة لنفس النظام الأساسي، وهذا ما ينطبق مثلا على النظام الأساسي الخاص بموظفي الوزارة المكلفة بالتربية الوطنية، كما أن هذه الأنظمة الأساسية ليست إلا تأطيرا قانونيا لاحقا لإحداث الهيئات والأطر، والتي من المفترض أنها تتم وفق معايير ومحددات تعطيها الشرعية القانونية والتدبيرية، وتضفي التجانس على المنتمين إليها وتبرر التمايزات الموجود بينها.
ملاحظة أخرى لابد من إيرادها هنا تتعلق بتسمية “النظام الأساسي” والتي تظل غير دقيقة من وجهة نظري، كونها تؤدي للخلط بينها وبين النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية الصادر بتاريخ 24 فبراير 1958، بل إن الفصل 4 السالف الذكر نص على عبارة “قوانين أساسية”، ويرتبط هذا الأمر بالأخطاء التي ارتكبت في ترجمة عدد من المفاهيم المرتبطة بالوظيفة العمومية، لذلك أعتقد أنه لتفادي هذا اللبس لا بد من اعتماد عبارة الأنظمة الخاصة كترجمة لـ « Les statuts particuliers » المنصوص عليها في النصوص القانونية للوظيفة العمومية الفرنسية، على أن يحيل “النظام الأساسي” فقط على ظهير 24 فبراير 1958، كونه يمثل الشريعة العامة.
غير إنه وإن كان استخدام مفهومي الإطار والهيئة يترجم بشكل أفضل الحقيقة العددية والنوعية للفئات المهنية بالوظيفة العمومية المغربية، فإنه من الناحية القانونية والتدبيرية تكتنفهما الكثير من مساحات الغموض، من حيث أوجه التمايز والتشابه وطبيعة العلاقة بينهما، مع الإشارة هنا إلى أسبقية التنصيص على مفهوم الإطار بمقتضى الفصل 23 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية الصادر بتاريخ 24 فبراير 1958، قبل أن يضاف إليه مفهوم الهيئة بمقتضى المادة 5 من القانون 50.05 المغير والمتمم لظهير 24 فبراير 1958 الصادر سنة 2011، والذي ظل لوقت طويل دون سند قانوني في النظام الأساسي العام مع حضوره في الأنظمة الأساسية الخاصة بعدد من الفئات المهنية.
ولا نعلم إن كان اعتماد مفهوم الهيئة كوحدة للهيكلة النظامية للوظيفة العمومية المغربية يعد اختيارا واعيا، خاصة وأنه تضمن لأول مرة إحالة على معيار “المهام” كمحدد لإحداث هذه الهيئات عكس مفهوم الإطار، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد اتباع أعمى للمشرع الفرنسي، والذي كان قد نص على مفهوم الهيئة بمقتضى قانون 4 فبراير 1959 المتعلق بالنظام العام للموظفين، لكنه بالمقابل عكس المشرع المغربي تخلى نهائيا على مفهوم الإطار (Le cadre) ، وذلك لمبررات عديدة أهمها أنه أفسح المجال أمام تكاثر الأطر لأسباب تتعلق بالمحاباة، وإن كان هذا الأمر لم يحل أزمة التعدد غير المبرر لهذه الهيئات في الوظيفة العمومية للدولة بفرنسا.
يشكل هذان المفهومان إضافة إلى الدرجة والرتبة المفاهيم المؤطرة للهيكلة النظامية للوظيفة العمومية، والتي تجد مرجعيتها في الفلسفة المؤطرة لنظام المسار المهني “le système de la carrière” القائم على قاعدة التوظيف على سبيل الدوام والاستمرار الذي تعتبر فرنسا مهده الأول، ويؤسس هذا النظام لرابط دقيق بين الموظف والدولة، بحيث يلتزم الطرف الأول باحترام الواجبات الملقاة على عاتقه والتي تضمن صدقه وحياده وكذا إخلاصه للدولة، وبالمقابل يتعهد الطرف الثاني بأن يؤمن للموظف استقرارا وظيفيا مع تطوير وضعيته تدريجيا من خلال الترقية بالخصوص.
تحيل الهيكلة النظامية على عملية تصنيف وترتيب للموظفين والوظائف، باعتبارها نهجا يقع في قلب مسلسل تدبير الموارد البشرية، يمكن كل منظمة بغض النظر عن طبيعتها من توضيح الأدوار والمسؤوليات، وموضعة المنصب داخل التنظيم، وتحديد الحاجيات على مستوى التكوين وتوضيح قرارات التوظيف والحركية، كما أنها تروم تحقيق غاية العدالة على مستوى هيكلة الموارد البشرية لأنها تمكن من تبرير سياسة الأجور وتدبير المسار المهني.
إن هذا التوضيح المفاهيمي المقتضب لا يمكن اعتباره مجرد ترف فكري، بل إنه ضروري لفهم عمق الإشكاليات المرتبطة بالأنظمة الأساسية للموظفين وتعقيداتها، وتوضيح حجم العمل الواجب القيام به من أجل الوصول لحلول يتوفر فيها الحد الأدنى من الإنصاف والاستدامة، من أجل التقليص من الأزمات المتتالية التي تفرزها، والتي تؤثر على مردودية وإنتاجية الجهاز الإداري ككل بل وتهدد استمراريته أحيانا، في ظل لجوء الكثير من الفئات المهنية للإضراب عن العمل كوسيلة للضغط على الحكومة وإثارة الانتباه لمطالبها.
محطات تاريخية بارزة
انطلق إقرار الأنظمة الأساسية في الوظيفة العمومية المغربية مع ما عرف بإصلاح هيكلة الأطر سنة 1963، والذي لم يدخل حيز التنفيذ إلا بداية من أبريل 1967، وكان من أهم أهدافه تجميع الأطر الموروثة عن حقبة ما قبل الاستقلال بهدف التخلص من الأطر الوهمية والعديدة، بحيث أن وجود أي إطار يجب أن يكون مبررا بوجود وظيفة حقيقية، ثم إضفاء الانسجام على مكونات المسار المهني.
شكل هذا الإصلاح انطلاقة لصدور العديد من الأنظمة الأساسية، بداية بالنظام الأساسي الخاص بأسلاك الإدارة المركزية والموظفين المشتركين بالإدارات العمومية، والذي يعد النص الأم لعدد من الأنظمة الأساسية الحالية، كما هو الشأن بالنسبة لتلك التي تنظم فئة المتصرفين بمختلف تسمياتهم الحالية والقطاعات التي يتبعون لها، وهي المعنية بدرجة أولى بالاختلالات العميقة للهيكلة النظامية للوظيفة العمومية المغربية، كما أحدثت في مرحلة ثانية أطر خاصة بكل قطاع وزاري عن طريق أنظمة أساسية مختلفة طبقا للفقرة الثانية من الفصل 4 والفصل 5 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.
لاحقا واستنادا لتشخيص وتقييم مماثلين تقريبا لإصلاح سنة 1963، سيتم مرة أخرى تجميع عدد من الأنظمة الأساسية وفق مقاربة قيل أنذاك أنها تندرج ضمن رؤية متكاملة لإصلاح شمولي لهذه الأنظمة الأساسية، تروم إضفاء الانسجام على هذه الأخيرة والقضاء على حالة اللاتجانس التي تطبع المشهد النظامي للوظيفة العمومية المغربية، بحث تم ضمن هذا المنظور إصدار أربع أنظمة أساسية خاصة بهيئات المتصرفين والمحررين والمساعدين الإداريين والمساعدين التقنيين بتاريخ 29 أكتوبر 2010.
بدا هذا الإصلاح في ظاهره كما لو أنه يؤسس لمقاربة جديدة تؤطر الأنظمة الأساسية بالوظيفة العمومية المغربية، بحيث تم اعتماد معيار طبيعة الوظائف لإحداث الهيئات الجديدة، وضمن هذا المنظور تضمنت هذه الأنظمة الأساسية توصيفا للمهام التي يضطلع بها موظفو هذه الهيئات، كما تم جعلها مشتركة بين الوزارات، وهو ما كان من المفترض أنه يتيح آفاقا واعدة على مستوى الحركية بين القطاعات الوزارية، كونها تخص موظفين يضطلعون بمهام أفقية لا ترتبط بخصوصية قطاع معين.
مؤشر آخر من المهم الإشارة إليه في هذا السياق، ويتمثل في كون إصلاح 29 أكتوبر 2010 جاء مسبوقا بخروج دراستين على درجة عالية من الأهمية ترتبطان بشكل مباشر بموضوع الأنظمة الأساسية، ونقصد هنا تلك المتعلقة بـ”إنجاز صنافة مشتركة لتصنيف الوظائف” والتي أعطيت انطلاقتها سنة 2007، ثم دراسة أخرى بشأن “وضع تصور لمنظومة جديدة للأجور بالوظيفة العمومية المغربية” سنة 2008.
لكن ما تأكد بعد مرور كل هذه السنوات أننا عدنا مرة أخرى للمربع الأول، بحيث ثبت أن التجميع الذي تم لم يتعدى البعد الكمي، هذا في الوقت الذي كان من المفترض أن يمكن من التدشين لإصلاح مستقبلي شامل، يعبد الطريق أمام تطوير منظومة تدبير الموارد البشرية المعطوبة، وتكفي الإشارة هنا إلى الحركية بين الإدارات العمومية التي تعد أهم حسنات هذه الأنظمة الاساسية المشتركة، والتي ظلت محدودة بالرغم من إصدار الحكومة لمرسوم في هذا الشأن تحت رقم 2.13.436 يتاريخ 5 غشت 2015 يتعلق بنقل الموظفين المنتمين إلى الهيئات المشتركة بين الإدارات، ناهيك عن استمرار معضلة التباين في منظومة الأجور والتعويضات في الوظيفة العمومية وتكريس مقاربة نظامية تهمش المهن والوظائف …
استنتاجات جوهرية
كون وظيفتنا العمومية الحديثة لم تخرج يوما من عباءة النموذج الفرنسي فإن هذا الأمر تم التطبيع معه ولا يخصها وحدها، لكن الأمر غير المستساغ هو استيراد إصلاحات بدون ربطها بعمقها النظري وخصوصية سياقها وآليات التنزيل، فالوظيفة العمومية الفرنسية وإن كانت قد احتفظت بنفس النموذج القائم على المسار المهني، فإنها أدخلت عليه الكثير من التعديلات الجوهرية التي تتجاوز العناوين التي غالبا ما نتوقف نحن عندها.
مناسبة هذه الفكرة تتعلق بكون ورش تجميع الأنظمة الأساسية المشار إليه آنفا كان مسبوقا بإصلاح مثيل له في الوظيفة العمومية للدولة بفرنسا، هدف بدوره إلى تجميع الهيئات التي يزاول موظفوها مهاما تندرج ضمن نفس الأسرة المهنية، والتي كان قد بلغ عددها 900 هيئة سنة 2005 في حين تراوح عدد المهن بين 300 و350 مهنة، حسب الدليل المنهجي للقاموس المشترك بين الوزارات الخاص بمهن الدولة، وهو ما أضفى المزيد من اللبس على مفهومي الدرجة والوظيفة، وأدى إلى جمود المسارات المهنية وعرقلة الحركية والرفع من نفقات التسيير.
كوني أميل إلى فرضية أن التقارب الزمني بين الإصلاحين لم يكن مجرد صدفة، بالنظر إلى أن الوظيفة العمومية المغربية تقاليد لا تملك تقاليد عريقة وغنية، يجعلها قادرة على إبداع حلول في استقلال عن تلك المستمدة من النموذج الفرنسي الأم، لاسيما عندما يتعلق الأمر بموضوع معقد كما هو الشأن بالنسبة للأنظمة الأساسية أو تصنيف الموظفين والوظائف بشكل أدق، فإني أعتقد أن التجميع الذي تم بموجب مراسيم 29 أكتوبر 2010 السالفة الذكر شابته الكثير من السطحية والاختزالية، بالنظر للفروقات والخصائص التي تؤطر الهيكلة النظامية في النموذجين المغربي والفرنسي.
إن الإصلاح الذي عرفته فرنسا جاء مندرجا على الأقل في جانبه النظري، ضمن تصور واضح عنوانه مقاربة المهن “démarche-métier” المستندة إلى الدلائل المرجعية للمهن، بحيث مثل التجميع خطوة أولى في أفق تسهيل عملية إنشاء شعب مهنية ضمن الوظيفة العمومية للدولة، وبالتالي تحقيق الانتقال من وظيفة عمومية تتبنى المقاربة الضيقة لنظام المسار المهني إلى وظيفة عمومية تنفتح على البعد الوظيفي، والمفضي إلى إضفاء التوازن على علاقة الدرجة والوظيفة والتأسيس لفضاءات نظامية أكثر رحابة.
ولعل هذا التصور هو ما افتقده إصلاح الوظيفة العمومية المغربية الذي اقتصر على توصيف عام وفضفاض للمهام في الأنظمة الأساسية الصادرة بتاريخ 29 أكتوبر 2010 كخطوة لتبني نفس التوجه الفرنسي، وهو مثال يؤكد ما قلته سالفا، بحيث تحضر القشور والعناوين أثناء نقل عدد من الإصلاحات إلى الوظيفة العمومية المغربية ويغيب التصور المرجعي المتكامل، لهذا فإنه ليس من المفاجئ أن تطفو مرة أخرى العديد من الإشكاليات المتعلقة بالأنظمة الأساسية السالفة الذكر بعد سنوات من دخولها حيز التنفيذ، لاسيما تلك المتعلقة بالمهام والأجور والحركية وتطور المسار المهني…
إن أبرز ما يمكن الاستدلال به هنا لإثبات غياب الرؤية الواضحة والبعيدة المدى عن إصلاح 29 أكتوبر 2010، هو ما نشهده مؤخرا من توجه يناقض مقاربة التجميع التي أرساها هذا الإصلاح، إذ يسعى كل قطاع وزاري لتأطير موظفيه بنظام أساسي أو أكثر يعزل به نفسه عن القطاعات والإدارات الأخرى، ولعل أهم دليل يمكن إيراده هنا هو المرسوم رقم 2.23.698 الصادر في 16 يوليوز 2024 في شأن النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة الاقتصاد والمالية، إضافة إلى صدور مرتقب للنظام الأساسي الخاص بموظفي التعليم العالي والأحياء الجامعية، وإن كان هذا الأمر يجد سنده في الفصل 5 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية لكنه يقيده بشرط الخصوصية، وهو على كل حال شرط فضفاض وواسع لا يمكن ضبطه، ولا يوجد له في الواقع تنزيل سليم يعين على تفسيره، بالنظر لكثرة هذه الأنظمة الخاصة بالقطاعات الوزارية دون أي تكون مؤطرة بمرجعية واضحة.
تتجلى أبرز المخلفات السلبية لهذا التوجه أنه يهمش أكثر مقاربة المهن والوظائف، كما سيزيد من تكريس المزيد من الانغلاق والانعزال والتشتت داخل الوظيفة العمومية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار محدودية الحركية بجميع أصنافها بين الإدارات العمومية والعقم الذي يعتري آلياتها، كما سينمي أكثر شعور الإقصاء والحيف لدى عدد كبير من الموظفين، الذين يعتقدون بوجود طبقية تقسمهم إلى موظفين من الدرجة الأولى وموظفين من الدرجة الثانية، وحجتهم في ذلك التفاوتات الصارخة على مستوى منظومة الأجور والتعويضات والخدمات الاجتماعية رغم التوفر على نفس الشواهد وممارسة نفس المهام أحيانا، لكنهم ينتمون لقطاعات وإدارات مختلفة، إضافة إلى أنه سيفرغ قطاعات من الكفاءات لحساب أخرى، هذا دون الحديث عن الجماعات الترابية التي يبقى وضعها أكثر قتامة ويسائل حقيقة جدية ورش الجهوية الموسعة.
المؤكد أن إصلاحا شاملا وعميقا للأنظمة الأساسية لا يحظى بالأولوية لدى الفاعل الحكومي (خاصة حاليا في ظل توجه القطاع المكلف بالوظيفة العمومية إلى إيلاء أهمية أكبر لورش التحول الرقمي، وفي هذا السياق تندرج تسمية “وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة”)، ويرتبط هذا الأمر في جانب منه بالخشية من تبعات إصلاح بهذا الحجم، وما قد يترتب عنه من خلخلة للتوازنات الحالية قد تصل حد التأثير على استمرارية مرافق الدولة، لذلك فالخيار كان دوما هو الحفاظ على الوضع القائم مع القيام بتغييرات مفروضة أكثر منها مرغوبة من حين لآخر، فدور الحكومة ينحصر في توفير حلول فئوية مؤقتة لبعض المطالب وتقديم وعود بالاستجابة لأخرى أو أحيانا عدم الاكتراث لها نهائيا.
إن الفكرة التي ترسخت حول المشهد العام للأنظمة الأساسية هي اللاعقلانية، وذلك نتيجة تغليب حسابات وعوامل خارجة عن المنطق القانوني والتدبيري السليم في إخراجها، فقرارات إصدار أنظمة أساسية جديدة أو تعديلها أو نسخها لا تندرج ضمن تصور واضح، بقدر ما تخضع لحسابات سياسية ظرفية أو ترتبط بتنزيل سياسات عمومية، كما هو الشأن بالنسبة لورش الحماية الاجتماعية وما استتبعه من إصلاح لمنظومة الموارد البشرية بقطاع الصحة، لكنها في كثير من الأحيان تكون رهينة بما تتوفر عليها هذه الفئة المهنية أو تلك من أوراق ضغط قادرة على التأثير على السير العادي لمرفق من مرافق الدولة، ناهيك عن وجود لوبيات مهنية داخل الوظيفة العمومية لا يمكن نفي الدور الذي تقوم به لصالح منتسبيها.
إن استقالة الحكومة من دورها في القيام بإصلاح حقيقي للأنظمة الأساسية كرس معطى أساسي يتمثل في كون أن الأنظمة الأساسية والإشكاليات المرتبطة بها هي انشغالات النقابات المهنية بالأساس، وفي هذا السياق يمكن فهم كونها هي صاحبة المبادرة غالبا في المطالبة بإحداث هذا النظام الأساسي أو ذاك أو مراجعته، وذلك من منطلق دورها في الدفاع عن المصالح المادية للموظفين، ويعتبر هذا الأمر من الأسباب التي جعلت موضوع الأنظمة الأساسية لا يحظى بنقاش عميق يبعده عن المقاربة التجزيئية والفئوية، طالما أن الحكومة التي يقع ضمن اختصاصاتها التصرف وفق مقاربة استباقية ومتكاملة لا تبدو متحمسة لهذا الأمر.
لازالت الحكومات المغربية تتعاطى مع الأنظمة الأساسية من منظور ضيق، يختزلها عادة في الدرجات والرتب والأرقام الاستدلالية…، بمعنى الجانب المالي، خاصة في ظل هيمنة وزارة الاقتصاد والمالية على مجال الوظيفة العمومية، وذلك على حساب دور وزارة الانتقال الرقمي والاصلاح الإداري الذي يبدو ثانويا رغم أنها المعنية الأولى بإعداد السياسة الحكومية للموارد البشرية بإدارات الدولة وتتبع تنفيذها (المرسوم رقم 2.23.404 صادر بتاريخ 8 يونيو 2023 بتحديد اختصاصات وتنظيم قطاع إصلاح الإدارة)، وهي ملاحظة سبق للمجلس الأعلى للحسابات أن أشار إليها في تقريره الصادر سنة 2017 حول تقييم نظام الوظيفة العمومية.
إن طرح المطالب المرتبطة ببعض الأنظمة الأساسية من حين لآخر في جولات الحوار الاجتماعي، كما هو الحاصل برسم هذه السنة، لن يقود لوضع حد للاختلالات العميقة التي تعتري هذه الأنظمة أو على الأقل التقليص من حدتها بقدر ما يوفر للحكومة فرصة مناسبة لإدامة مقاربتها في التعاطي مع هذه الأنظمة الأساسية، وهذا التأجيل للحلول الحقيقية يرهن مستقبل الوظيفة العمومية المغربية، بالنظر للترابط الموجود بين الموضوعين، فإصلاح الأنظمة الأساسية ليس ورشا هامشيا بل إنه يقع في قلب التحول البراديغمي المنشود لمقاربة تدبيري الموارد البشرية بالإدارات العمومية.
على سبيل الختم
قد تتعدد وتتباين المقترحات والرؤى التي يمكن أن تؤطر مستقبلا إصلاحا بنيويا للأنظمة الأساسية بالوظيفة العمومية المغربية، لكن المؤكد أن تتزيلها جميعا على أرض الواقع سيظل من وجهة نظري رهينا بتحقق أمرين أساسيين، هما:
أولا: القيام بمراجعة شاملة لظهير 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، وهو ما يتطلب فتح نقاش عمومي واسع يمكن من وضع خارطة طريق واضحة ومتوافق حولها بشأن الانتظارات المجتمعية من الوظيفة العمومية وأدوارها على المديين المتوسط والبعيد، أخذا بعين الاعتبار الاختيارات الاستراتيجية الكبرى للدولة المغربية، وستمكن هذه المراجعة وفق تصور مغاير ومتجدد من إعادة النظر في الفصول الحالية ذات العلاقة بالأنظمة الأساسية، ونقصد هنا الفصول 4 و 5 و 23؛
ثانيا: تقوية أدوار القطاع الحكومي المكلف بالوظيفة العمومية، ليس فقط من خلال إعادة النظر في المنظومة القانونية المتعلقة بالاختصاصات، كما وقع بمناسبة صدور المرسوم 2.23.404 بتاريخ 8 يونيو 2023 بتحديد اختصاصات وتنظيم قطاع إصلاح الإدارة، بل لابد من التخفيف من وضعية التبعية الذي يوجد فيه هذا القطاع في علاقته بوزارة الاقتصاد والمالية، بحيث يتم إيجاد حل يطفي طابع التكامل على العلاقة بينهما أو يدمجهما في حقيبة وزارية بهيكلة واحدة.