أخبار عاجلة

حكايات تلميذ بمدرسة التهذيب

حكايات تلميذ بمدرسة التهذيب
حكايات تلميذ بمدرسة التهذيب

مرّ الآن نصف قرن على هذه الحكايات التي عشتها أو كنت بطلها بمدرسة التهذيب الابتدائية الحرة بمدينة الجديدة. يتعلق الأمر بمؤسسة تعليمية أنشأتها الحركة الوطنية وزعماء حزب الاستقلال لفتح أبواب التعليم أمام الفئات الشعبية، وفي الوقت نفسه، لتعليم اللغة العربية إلى جانب الفرنسية، ونشر القيم المغربية الأصيلة. وهي “مدرسة لها تاريخ” طويل ومجيد كما جاء في كتاب صدر بنفس العنوان سنة 1999، من تأليف السفير قاسم الزهيري، مديرها السابق إبان فترة الحماية.

تحمل المؤسسة اسم “مدرسة التهذيب الابتدائية الحرة”. وكان أبناء جيلي قد التحقوا بها حينما استقرت برقم 6، زنقة لبنان بحي درب غلف بالجديدة. وعند قراءة التسمية لا بد من الانتباه إلى كلمة “حرة” لأنها لا تعني “الخاصة”. فهي أولا حرة بمعنى مستقلة عن التعليم الفرنسي حيث أسست في فترة الحماية (سنة 1945-46) بعد تجاوز عراقيل كثيرة وضعتها أمامها الإدارة الفرنسية، وهي ثانيا لم تكن تدخل في خانة تعليم القطاع الخاص بمفهومه الحالي، بحكم أن الواجب الشهري الذي كان يؤديه أولياء التلاميذ كان بسيطا وجد رمزي.

التحقتُ بالقسم التحضيري بمدرسة التهذيب الابتدائية الحرة في السنة الدراسية 1959-1960 عند المعلم الفقيه سي علي المسناوي، صاحب اللباس التقليدي المغربي. قبل أن أنتقل بعد ذلك في الأقسام الموالية عند الأساتذة عبد الله شعيرة، التباري قحطان، محمد المريني، فاطمة رحمون، محمد البركاوي، أحمد الجاحظي، ولبابة القادري. وطيلة الفترة التي قضيتها إلى حين حصولي على الشهادة الابتدائية كان مدير المؤسسة هو الحاج محمد التازي، وهو شخصية استقلالية مرموقة بمدينة الجديدة، معروفة بوطنيتها وبأخلاقها العالية.

أتذكر أن والدي حينما سجّلني بهذه المدرسة، وكانت بعيدة عن مقر سكنى العائلة، بنى اختياره لها على كونها “مدرسة أولاد لبلاد”. هذا ما كنت أسمعه وهو يتكلم عنها بكثير من الفخر والاعتزاز، على اعتبار أنها كانت تستقطب أبناء العائلات الجديدية. والمصطلح هذا قد يشير إلى المنطقة كما قد يشير إلى الوطن ككل.

1

في قسم التحضيري كنا 52 تلميذا موزعين على 29 تلميذة و25 تلميذا. وهو عدد كبير بالنسبة لقسم الصغار، لكن يجب وضعه في السياق الزمني والسياسي لتلك المرحلة، أي أربع سنوات على استقلال المغرب، وكانت الغالبية الساحقة من المغاربة الذين حرموا من حقهم في التعليم الحديث، متعطشين لتسجيل أبنائهم بالمدرسة العصرية التي ظهرت مع بزوغ الاستقلال، كأنما أرادوا أن يستدركوا ما فاتهم من فرصة للتكوين.

كان رفاقي ورفيقاتي بالمدرسة يقطنون، في معظمهم، بالأحياء القريبة للمؤسسة مثل حي درب غلف وسيدي الضاوي ودرب الحجار والسوق القديم وبوشريط وللّا زهرة وساحة عبد الكريم الخطابي وارجيلة والحي البرتغالي. وهي أحياء تقع في مدار لا يتعدى كيلومترا واحدا أو اثنين على أكثر تقدير بالنسبة للذين كانوا يقطنون بحي القلعة أو حي الصفاء البعيد نسبيا. ولربما كنت الوحيد الذي يقطن، وقتها، خارج المدار الحضري للمدينة، مقابل المركز التربوي الجهوي الحالي، أي على بعد أربعة أو خمسة كيلومترات، وهو ما عانيت منه كثيرا، في تلك السن، ذهابا وإيابا نحو المدرسة.

كان والدي يملك سكنا ثانيا غير بعيد عن مدرسة التهذيب، في زنقة 20 غشت، لن يكلف الوصول إليه أكثر من عشر دقائق. لكن هذا المسكن كان مكترى للغير، وبالتالي يستفيد منه والدي في التغلب على مصاريف العيش. وهكذا اختار، بسبب الظروف الاجتماعية، الإقامة في سانية ورثها من والديه وتحمل اسم العائلة “سانية اجماهري”. تقع هذه الضيعة الصغيرة على الطريق المعبدة الوحيدة في المنطقة المسماة “طريق المطار”. اختفت اليوم هذه المنطقة القروية من الوجود بعدما امتد إليها العمران بشكل لا يُتصور فشمل الحقول وغطى جميع المساحة الشاسعة التي كان يُشكلها مهبط الطائرات السياحية والرياضية. كان الدوار الصغير الذي نسكنه مُكونا من حوالي عشرين منزلا تقريبا ويُعرف إداريا بسانية اجماهري. وقد ظل هذا الاسم واردا في الأوراق الثبوتية لساكنة المنطقة إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي قبل أن يزحف المدار الحضري نحو مصطاف سيدي بوزيد ويلتهم كل المجال القروي.

فكّر والدي في بعض الحلول للتخفيف عليّ من عناء التنقل إلى المدرسة، خاصة بعد انتهاء الفترة الصباحية وحلول وقت الغداء. فكان يأتي على دراجته العادية ليصطحبني معه إلى المنزل أو يحضر لي بعض الأكل أو، أحيانا، يبعث خالي مكانه. ثم في وقت لاحق، طلب من والد صديق لي في المدرسة يقطن مقابل المحكمة الابتدائية القريبة أن يستضيفني للغداء في منزلهم. ولم تستمر استضافتي طويلا. وفي محاولة رابعة امتدت ثلاث سنوات، شعرت ببعض الراحة بعدما قبلت السيدة خناثة، زوجة خال والدي، القاطنة بدرب الهلالي، غير بعيد عن المدرسة، إيوائي عندها في منتصف النهار. فكنتُ أشاركها الأكل وأستريح في بيتها حتى يقترب وقت الدراسة في الساعة الثانية بعد الزوال.

كان بعض رفاقي ورفيقاتي في المدرسة يقطنون بجوار مسكن قريبة والدي. كمثل رفيقتي فوزية (توفيت رحمها الله منذ سنين)، التي كانت تدرس معي بالقسم، بينما كان أخوها الأصغر منها في التحضيري. كان منزل عائلتها يقع في الطابق الأول بزقاق صغير لا منفذ له، في درب الحجار، مقابل المدخل القديم لمدرسة للا أمينة. فكنت بعد أن أتغذى لدى قريبة والدي بدرب الهلالي أعرج على زقاق طويل لأصل أمام منزل رفيقتي وأقف في انتظارها لنذهب سويا إلى المدرسة مرورا أمام مسجد البوكيلي. وغالبا ما كنا نلتقي، أمام باب المسجد، برفيقتنا الأخرى فريحة التي كانت تقطن جوار إعدادية محمد الرافعي، وتمُر أمام مستوصف درب الحجار لتلتحق بنا، فنصبح ثلاثة.

أصبحت مواظبا وأنا في حوالي الحادية عشرة من عمري، في السنة الدراسية 1962-63، على أن أعرج على رفيقتي في طريقي إلى المدرسة. وكنت حالما أصل أمام منزلها يراني أخوها الصغير وهو يلعب لعبة الجري مع أقرانه في الزقاق. فيصيح بأعلى صوته:

“- فوزية، فوزية.

ومن خلال النافذة المفتوحة في الطابق الأول يصلني صوتها:

– شكون؟

فيرد عليها أخوها من الشارع العمومي دائما بأعلى صوته:

– صاحْبك جا”.

بعد ثوان أسمعها وهي تنزل الدرج لتلتحق بي ونسير سوية نحو المدرسة.

2

كانت أستاذة اللغة الفرنسية، في القسم الرابع، شابة في مقتبل العمر تنتمي إلى عائلة جديدية، هي الآنسة فاطمة رحمون. التحقت بمدرسة التهذيب لتدريسنا الفرنسية بعدما استكملت دراستها في الرباط. وكانت رغم صغر سنها ذات شخصية قوية حيث لا مجال للتشويش في القسم. فكانت الحصة تمر في أحسن الظروف، وكنا نستوعب الدرس بسهولة رغم صعوبة اللغة الفرنسية، بالنسبة لسننا، على مستوى النحو والكتابة والنطق. وذات يوم في حصة التعبير والقراءة، طلبتْ منا الأستاذة ترديد جملة واردة في كتاب اللغة الفرنسية تقول:

– كسوة كاترين جميلة..

كان القسم منظما في ثلاثة صفوف، وكانت البداية من التلميذ الأول في الصف الأول. وحسب تقديري وأنا جالس في طاولة بوسط الصف الثاني خمنت بأن دوري في ترديد الجملة سيأتي بعد دقائق.. ثم لم أفهم كيف أن كسوة كاترين بالضبط هي الجميلة وليس كسوة فوزية أو فريحة مثلا؟

وفي انتظار أن يأتي دوري لترديد الجملة شرعت في ممارسة شغب بريء إزاء تلميذة في الطاولة أمامي.. وبسبب انشغالي تشتّت انتباهي، فنزل أمر الأستاذة عليّ كالصاعقة:

– مصطفى أعد الجُملة.

تساءلتُ في خلدي: وأي جملة يا ترى؟

لم أتذكر من الجملة سوى كلمة “جميلة”، دون أن أعرف تماما من المقصود بها، هل “الكسوة” أم “كاترين”.

لاحظت الأستاذة ترددي في الكلام وبعض الارتباك وقد علا وجهي، بينما كان رفاقي فرحين بالورطة التي وقعت فيها. فقالت بلهجة الأمر:

– هل سننتظرك شهرا لتعيد جملة صغيرة..

ضاق أمامي مجال المناورة، ولم يبق لي وقت للمداهنة، ولسان حالي يقول مع الشاعر المتنبي: إذا لم يكن من الموت بُد فمن العجز أن تموت جبانا. أعدت الجملة ناقصة من كلمة:

– كاترين جميلة..

– وأنت أيضا جميل يا مصطفى أليس كذلك.. لماذا لم تنتبه إلى التركيبة الصحيحة؟

قالتها بغضب. وكانت العقوبة بضع ضربات على اليد بالمسطرة الحديدية.

3

كان رفاقي من التلاميذ كثر من بينهم عبد الرحيم بنصر الذي سيصبح عضوا بالمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، ومولاي أحمد حراري الذي سيشغل منصبا مرموقا في إدارة الأمن الوطني، والدكتور عبد اللطيف كيسمي، الاختصاصي في أمراض النساء بالجديدة، وعبد الكريم اللبار الذي سيلتحق بالتعليم، ومصطفى الشوفاري، المحامي، وآخرون مثل بوشعيب الناهي، وإدريس التواتي، وفاطمة عفاف، وفاطمة الشرفي، وفوزية يحياوي ومليكة الهواري والبحبوحي. لكن علاقة متينة ستربطني بزميلي المرحوم إدريس عامر، الذي سيشتغل بإدارة المحافظة العقارية بالجديدة. كان معروفا في الجديدة باسم السباعي نسبة إلى خاله السيد عبد الرحمان السباعي. في طفولتنا كان يقطن بزنقة الدكتور بلان في مرشان على بعد بضع دقائق قليلة من المدرسة فكان أحيانا يصطحبني معه إلى المنزل حيث تقدم لنا والدته غداء. لا أنسى مرة سمكا مقليا ظل مذاقه في فمي طويلا. وأحيانا كنت أرافق إدريس إلى المون لنتفرج على تجمعات الشبان يسبحون داخل المرسى ويقفزون من أعلى حائط المون. وأحيانا أخرى كنا نذهب إلى سينما ديفور فنلتقي هناك بفؤاد العروي الذي كان أصغر منا سنا ويدرس في مدرسة شاركو التابعة للبعثة الفرنسية.

في السنة الدراسية 1963-64 سوف ينتقل صديقي إدريس عامر من حي مرشان إلى فيلا بحي البلاطو، للعيش مع خاله السيد عبد الرحمان السباعي، رئيس المصلحة الطبوغرافية والمسح الخرائطي بالجديدة. والذي سيتقلد في ما بعد مناصب مرموقة في الحكومة المغربية. كانت فيلا خاله تقع في بداية حي البلاطو تماما في امتداد طريق المطار، تطل حديقتها على شارع إبراهيم الروداني. فكنت أسرع الخطى صباحا لأصل عند إدريس وأنتظر خروجه مع خاله حتى يأخذنا إلى المدرسة في سيارته من نوع “جيب”.

والذي كان يحدث أنه أحيانا ونحن نتوجه رفقته إلى مدرستنا، نرى أستاذتنا فاطمة رحمون في شارع أبي شعيب الدكالي متوجهة إلى المدرسة، فنصيح بتلقائية:

– مادموازيل رحمون، مادموازيل رحمون.

يقف سي عبد الرحمان السباعي ويحمل الأستاذة لتجلس إلى جانبنا. يتبادلان معا كلمات بالفرنسية، حيث تسأله عن علاقتي بإدريس. فيجيبها بكوني صديقه، وأننا نلتقي غالبا سواء بالمدرسة أو خارجها.

أما عندما نصل إلى باب المدرسة وننزل من السيارة صحبة الأستاذة فكان ذلك مثار دهشة كبيرة لدى باقي التلاميذ الذين ينهالون علينا بالأسئلة. لا تستوعبُ ذاكرتهم البريئة سبب وجودنا في نفس السيارة مع أستاذة الفرنسية وعمّا تكون قد قالته لنا خلال الرحلة.. وتلك حكاية أخرى.

توفي صديقي إدريس عامر يوم 29 دجنبر 2009، بعد مرض لم ينفع معه علاج. وكانت وفاة هذا الصديق دائم الابتسامة مأساة حقيقية لأسرته الصغيرة والكبيرة.

4

في الصف الثالث بمدرسة التهذيب، الذي وافق السنة الدراسية 1962-63 كان معلم اللغة الفرنسية هو الأستاذ سي محمد لحلو. معلم أنيق جدي وبالغ الصرامة. لم يكن لي مشكل معه في مادته حيث كنت دائما من بين العشرة الأوائل في القسم.

بعد اختبارات نهاية السنة الدراسية، جمع الأستاذ دفاتر الامتحان، وزّعها على التلاميذ وطلب من كل واحد قراءة رتبته حتى يسجلها في لائحة النتائج.

كانت رتبتي السادسة من مجموع أربعين تلميذا. وحين جاء دوري وطلب مني الأستاذ قراءة النتيجة المسطرة في الدفتر.

قلت له بالدارجة:

– أنا “السات” (بمعنى السادس).

ثم جاء يوم إعلان النتائج وتوزيع الجوائز على الستة الأوائل في كل صف. لكنني سأفاجأ بأنه لم تخصص لي جائزة. وبحكم صغر سني لم تكن لي قدرة على استفسار المُعلمين. بل إنه حين تسلمتُ ورقة النتائج النهائية وجدتني في الرتبة السابعة.

فكيف حصل ذلك؟

لم أفطن إلى أنني أنا من ارتكبتُ الخطأ دون قصد. فحينما قلتُ للأستاذ لحلو عند تسجيل الرتب: (أنا السات)، فهم هذا الأخير أنني أعني الرقم 7 بالفرنسية. وكان عليّ أن أستعمل لغة واضحة، وأقول بالعربية الفصحى: أنا السادس، حتى لا أخلق اللبس. لكني لم أفطن إلى شيء في تلك السن وفي تلك الظروف.

ذهبت إلى والدي حزينا وشكوت له سبب حزني من كوني لم أحصل على جائزة مثل بعض أصدقائي. وبعدما حكيت له ما وقع، قرر، من باب الدعم النفسي، الاتصال بمدير المؤسسة لتوضيح اللبس.

في اليوم التالي أركبني والدي على دراجته وانتقلنا من طريق المطار عبر حي للا زهرة مرورا أمام مدرسة التهذيب إلى دار المسفرين بزنقة عبد الله الفضيلي، حيث يقطن الحاج محمد التازي، مدير المدرسة.

دق والدي الباب، وبعد برهة خرج سي التازي. سلم عليه والدي ومدّ إليه ورقة نتائجي بعدما فسر له سبب الزيارة. قرأ سي التازي الورقة بتمعن كبير، ولاحظ بأن نتائجي كانت جيدة في مادتي التاريخ والجغرافيا بالإضافة إلى اللغة الفرنسية. أحضر ورقة وقلما وكتب فيها توصية للمرحوم حسن هيكل الذي كان مشرفا على “مكتبة النجاح” الكائنة، وقتها، بجوار السوق القديم. كانت هذه المكتبة معلمة معروفة بالجديدة لدى الخاصة والعامة، أسسها فرع حزب الاستقلال بالمدينة في فترة الحماية الفرنسية. وكان مفاد التوصية أن تسلمني المكتبة مجانا مقرر مادة التاريخ والجغرافيا بالعربية للسنة الدراسية المقبلة.

شكر والدي سي محمد التازي، وانطلقنا بدراجته عبر زنقة 20 غشت ثم ساحة عبد الكريم الخطابي نحو “مكتبة النجاح”. سلم والدي التوصية لحسن هيكل. اطلع عليها وأعطانا الكتاب المقرّر، دون المطالبة بأي مقابل أو أداء.

قال لوالدي: إن الكتاب هدية، بمثابة جائزة من الحاج محمد التازي مدير مدرسة التهذيب الابتدائية الحرة.

احتفظت بالكتاب سنوات طويلة بعد ذلك إلى يوم لم أعد أعثر فيه عليه.

مضت محطات في العمر.. وبقيت شذرات منه لامعة في الذهن والوجدان.. عصية على المحو والنسيان.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أمطار رعدية في عز الحر.. الأرصاد تحذر من تقلبات جوية حادة
التالى خاص | تمرد واضح.. تطور جديد في أزمة وسام أبو علي مع الأهلي