في لحظة اختلط فيها الحزن بالذهول، أُعلن، مساء أول أمس الأربعاء، عن وفاة الفنان والشاعر الأمازيغي صالح الباشا، بعدما عُثر عليه جثة هامدة داخل منزله الكائن بحي “أكيو” بجماعة الدراركة في عمالة أكادير إداوتنان بجهة سوس ماسة، ليُسدل بذلك الستار على مسيرة رجل لم يكن مجرد عمود من أعمدة الأغنية الأمازيغية الذي منح لفن “تيرويسا” نفسا جديدا؛ بل كان ذاكرة موسيقية ناطقة باسم الأرض وصوتا لأحلامها وسفيرا للشعر الأمازيغي الذي يتغنى بالإنسان والجمال.
لم يكن الراحل صالح الباشا مجرد صوت يصدح في السهرات والمهرجانات التي تجتذب الآلاف من عشاقه، وإنما كان ظاهرة فنية بامتياز، بأسلوبه المتميز الذي لا يشبهه فيه أحد، وحارسا للهوية الأمازيغية التي غنى لها على كل المسارح، من الساحات الصغيرة أو “إيسوياس” في قرى سوس إلى المنصات الكبرى في حواضرها، إذ كان لا يغني فقط أثناء اعتلائه المنصة؛ بل كان أيضا يُنصت لنبض الجماهير، يتحاور معها، يحكي لها قصته عن الحب والعشق التي أسر بها قلوب الناس.
ظهر الراحل، الذي وُلد في منطقة “إيحاحان” قرب مدينة الصويرة في أواسط ستينيات القرن الماضي، والحامل لكتاب الله، في آخر سهراته الفنية وكانت علامات التعب والمرض بادية على محياه وعينيه التي فقدت بعضا من بريقها المعتاد، حيث أدى أغنية “ورداري ماسول تينيغ د الموحبين إينو”، أي “لم يعد لدي ما أقوله لمحبي”؛ فيما كان أشبه بأغنية الوداع الأخيرة، قبل أن يتفاجأ جمهوره بإعلان وفاته، التي كانت أيضا إعلانا صامتا عن وفاة مدرسة قائمة الذات داخل المشهد الفني والشعري الأمازيغي.
عبد الله بوشطارت، ناشط أمازيغي وباحث في الثقافة والتاريخ، قال إن “وفاة الفنان صالح الباشا خسارة كبيرة للفن الأمازيغي وللثقافة الوطنية بشكل عام؛ فهو فنان وشاعر غزير الإنتاج، نجح في صناعة أسلوب فني مميز وخاص به داخل فنون “تيرويسا”، حيث أعطى لهذا الأخير نَفَسا جديدا، ودفعة قوية في وقت يعيش فيه هذا الفن تحولات عميقة بفضل ظهور أنماط موسيقية جديدة تحاول مواكبة مستجدات العصر”.
وأضاف بوشطارت، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “الراحل صالح الباشا نجح في الحفاظ على هوية “تيرويسا” في قالب متجدد؛ مما جعله يكسب قلوب عدد كبير من الجمهور، بل طافت شهرته آفاق سوس والمغرب. والدليل على ذلك هو العدد الكبير من الجمهور الذي يحج إلى سهراته، والأرقام التي تحققها أغانيه على منصات التواصل الاجتماعي، ومتابعو قناته على اليوتيوب، إلى جانب النقاشات والجدالات التي يثيرها بأسلوبه في إحياء السهرات وتواصله مع جمهوره”.
وتابع الباحث في الثقافة والتاريخ: “الفقيد فنان استثنائي كسر العديد من الطابوهات والكليشيهات التي كانت تسيّج حياة الروايس، فهو لا يجد حرجا في شرح أغانيه وقصائده والتعبير عن مواقفه داخل المجتمع. إنه الفنان الذي صنع الأسلوب، وجعل من “تيرويسا” أكثر شعبية وجماهيرية داخل أوساط الشباب والنساء”.
وأبرز المتحدث عينه أن “هذا النجاح ساهمت فيه الكثير من العوامل؛ منها أولا تكوينه الديني وحفظه للقرآن، ثم مسار حياته الذي كان دائما يتحدث عنه في أشعاره، فهو الطالب الذي تخرّج من المدارس العتيقة، وقادته موهبته في نظم الشعر إلى الغناء، وهو مسار يذكّرنا بسيدي حمو الطالب، أحد كبار شعراء الأمازيغ، وإن اختلفت السياقات”.
في المقابل، شدد بوشطارت على أن “الموت المفاجئ للفنان صالح الباشا يشبه كثيرا طريقة موت الفنان لحسن بلمودن، الذي وافته المنية هو الآخر أثناء عودته من إحياء سهرة في الدار البيضاء، وكلاهما كانا يعانيان من مرض في صمت، وهذا ما يجسد الهشاشة الاجتماعية التي يعيش فيها الفنان الأمازيغي، بالرغم من العطاء المستمر والشهرة الفائقة التي يحظى بها”.
وزاد الناشط الأمازيغي ذاته: “الظاهر أن أغلب الفنانين الأمازيغ لا يتوفرون على حماية اجتماعية، ولا يحظون بمتابعة طبية، إذ يبدعون بنوع من الإجهاد الفني ليستمروا في العيش، إلى درجة أنهم يعملون في ظروف قاهرة وقاسية داخل أستوديوهات تنعدم فيها أبسط شروط العمل. كما يتعرضون لاستغلال بشع من قبل الشركات ومن بعض الأوساط التي تمتهن السمسرة الفنية”.
وسجّل بوشطارت أن “موت صالح الباشا، وهو الذي ظهر في سهرة قبل أيام مريضا لم يقدر على إكمال سهرته، يُسائل الضمير الفني ببلادنا”، مشددا على أنه “قد حان الوقت لفتح نقاش صريح ومسؤول حول الإهمال والإقصاء اللذين يعاني منهما الفنان الأمازيغي، من حيث تعويضاته ومكانته وحقوقه ونظرة الدولة إليه؛ لأنه يعكس الصورة والوضعية التي تعيشها الأمازيغية داخل الدولة، بوصفها ثقافة ولغة من الدرجة الثانية أو الثالثة، توجد على هامش الدولة ومؤسساتها. فما دام أن اللغة الأمازيغية لا تحظى بالمساواة والعدالة اللغوية في وطنها، فإن الفنانين والمبدعين سيعيشون إلى الأبد في الإقصاء وسيعانون من الإهمال”.