
في ظل توجهات الدولة المصرية لتعزيز مفهوم الوقاية الصحية، وتمكين الأسر من التعامل المبكر مع الأمراض الجينية، تأتي المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية لدى الأطفال حديثي الولادة، لتُحدث فارقًا حقيقيًا في حياة الآلاف من الأسر المصرية. المبادرة لا تستهدف فقط اكتشاف 19 مرضًا وراثيًا لدى المواليد، بل تسعى إلى بناء قاعدة بيانات صحية دقيقة، تُساعد في تقديم رعاية صحية نوعية للأجيال القادمة.
ولفهم أعمق لأهمية هذه المبادرة، وسبل تشخيص الأمراض الوراثية مبكرًا، والتحديات التي تواجه الأسرة المصرية في هذا الملف الحساس، كان لنا هذا الحوار مع الدكتورة عبير محمد نور الدين، عميد معهد البحوث الطبية والدراسات الإكلينيكية بالمركز القومي للبحوث، والتي تحدثت باستفاضة حول الأبعاد العلمية والصحية والاجتماعية للمبادرة، ودور المركز القومي في دعمها.
بدايةً دكتورة عبير، كيف ترون أهمية المبادرة الرئاسية الخاصة بالكشف الأمراض الوراثية؟
المبادرة الرئاسية للكشف الأمراض الوراثية للأطفال حديثي الولادة هي خطوة تاريخية في المجال الصحي بمصر. التشخيص المبكر (Early Diagnosis) يمثل عنصرًا أساسيًا في منع المضاعفات وتوفير مستقبل صحي شبه طبيعي للأطفال المصابين بأمراض وراثية. فبدلًا من أن نصل إلى مرحلة العلاج المتأخر أو مواجهة الإعاقات الدائمة، نحن نبدأ من حيث يجب أن نبدأ: من لحظة الولادة، بل أحيانًا قبلها.
ما أبرز الأمراض التي تستهدفها المبادرة حاليًا؟ وهل العدد كافٍ من وجهة نظركم؟
المبادرة تستهدف حتى الآن نحو 19 مرضًا وراثيًا، من بينها أمراض استقلابية (Metabolic Disorders) وأمراض الغدة الدرقية الخلقية (Congenital Hypothyroidism)، والفينيل كيتونيوريا (Phenylketonuria)، وغيرها. وهذه الأمراض تم اختيارها لأنها قابلة للتشخيص المبكر، ويتبعها Intervention Protocol واضح يمكن أن يغيّر مجرى حياة الطفل بالكامل.
لكن الحقيقة أن الأمراض الوراثية كثيرة جدًا، وزي ما بنقول "19 هو مجرد البداية". نأمل أن تتوسع المبادرة تدريجيًا لتشمل عددًا أكبر، خاصة مع التقدم في أدوات الـ Genetic Screening.
هل هناك علاقة بين انتشار الأمراض الوراثية وزواج الأقارب؟
نعم، علاقة واضحة جدًا. Consanguineous Marriage أو زواج الأقارب من الأسباب الرئيسية لزيادة معدلات الإصابة بالأمراض الوراثية في مصر. حين يتكرر هذا النمط من الزواج عبر الأجيال، تتراكم الطفرات الجينية (Genetic Mutations)، ما يؤدي إلى ارتفاع نسب الإصابة بأمراض نادرة وخطيرة. للأسف في بعض المناطق الريفية والصعيد، زواج الأقارب لا يزال عرفًا مجتمعيًا يصعب تجاوزه، ولهذا التوعية هي الحل الجذري.
كيف ترون الوعي المجتمعي حاليًا بشأن خطورة الأمراض الوراثية؟
الوعي لا يزال في بدايته، رغم الجهود المبذولة. زمان، الأمراض الوراثية كانت تُعتبر "تابو" أو من المحظورات، لا أحد يتحدث عنها أو يعترف بوجودها. لكن الآن، بفضل الإعلام والمبادرات الحكومية، أصبح هناك انفتاح نسبي، والأمهات أصبحن أكثر استعدادًا للفحص والتشخيص المبكر. نحن نحتاج إلى مزيد من التثقيف الصحي، ودمج هذا الملف في برامج الصحة المدرسية، والعيادات العامة، وحتى الإعلام المرئي والمسموع.
بعض الأمراض الوراثية تصيب الجهاز العصبي تحديدًا، لماذا تعتبر هذه الفئة الأخطر؟
بالفعل، أمراض الجهاز العصبي (Neurological Genetic Disorders) هي الأخطر لأنها غالبًا ما تؤدي إلى إعاقات دائمة، مثل التخلف العقلي أو الشلل أو ضعف النمو. الجهاز العصبي لا يتجدد بنفس كفاءة أجهزة الجسم الأخرى، وبالتالي أي تلف به يكون شبه دائم. أحد الأمثلة البارزة هو مرض Congenital Hypothyroidism، والذي إذا لم يُكتشف خلال الأسابيع الأولى بعد الولادة يؤدي إلى تأخر ذهني دائم.
لكن الجميل أن هذا المرض تحديدًا يمكن تشخيصه بسهولة من خلال اختبار بسيط يُجرى على نقطة دم من كعب المولود، وهي الخدمة التي أصبحت إجبارية تقريبًا الآن في كل وحدات الصحة.
هل هذه الفحوصات تتم بشكل روتيني في المستشفيات الحكومية؟
نعم، حاليًا هناك Newborn Screening Protocol معمول به في معظم مستشفيات وزارة الصحة، حيث يتم أخذ عينة دم من كعب الطفل خلال أول أسبوع من الولادة، ويتم تحليلها لاكتشاف الأمراض الوراثية المستهدفة. وفي حالة وجود شك في نتيجة معينة، يتم إجراء Confirmatory Test للتشخيص الدقيق، ثم بدء العلاج حسب البروتوكول المعتمد.
الحمد لله هذه الإجراءات أصبحت مؤسسية، ولم تعد مقتصرة على القطاع الخاص كما كان الحال سابقًا.
هل التطعيمات الروتينية مرتبطة بالأمراض الوراثية أيضًا؟
لا، هناك خلط شائع هنا. التطعيمات الموجودة في شهادة الميلاد (مثل شلل الأطفال والحصبة والدرن) تستهدف Infectious Diseases وليس الأمراض الوراثية. الأمراض الوراثية ناتجة عن خلل جيني داخلي، لا علاقة له بالعدوى أو الميكروبات. لذا فإن التطعيم لا يقي منها، لكن الفحص المبكر هو ما ينقذ الطفل من تداعياتها.
متى يجب أن تبدأ الأسرة في التفكير في الفحوصات الوراثية؟
يُفضل أن تبدأ عملية الفحص حتى قبل الزواج. ما يُعرف باسم Premarital Genetic Counseling، وهي خدمة يقدمها المركز القومي للبحوث حاليًا. من خلال تحاليل متخصصة، يمكننا اكتشاف إن كان هناك خطر على النسل في حال تم الزواج. وإذا وُجدت احتمالات إصابة، يمكن تقديم نصائح طبية دقيقة أو استخدام تقنيات الإنجاب المساعدة مع فحص الأجنة (Preimplantation Genetic Diagnosis).
أيضًا، أثناء الحمل، يمكن إجراء فحوصات على الجنين من خلال تحليل السائل الأمينوسي، أو استخدام اختبارات الدم المتقدمة للكشف تشوهات الكروموسومات.
ما النصائح التي توجهينها للأمهات بشأن هذا الموضوع؟
أهم نصيحة: المعرفة قوة. يجب على كل أم أن تمتلك الحد الأدنى من الثقافة الصحية، خاصة في ما يتعلق بزواج الأقارب، وأهمية المتابعة أثناء الحمل، والولادة في مؤسسات صحية موثوقة. كما أنصح بضرورة التوجه فورًا إلى الوحدات الصحية بعد الولادة لإجراء فحوصات الكشف المبكر، وعدم التهاون في نتائج التحاليل.
وأناشد كل أم، إذا كان لديها طفل ظهرت عليه أعراض غير طبيعية، أن تتوجه مباشرة إلى المراكز المتخصصة مثل المركز القومي للبحوث، فلدينا وحدة متقدمة لفحص الأمراض الوراثية، ونقدم الدعم الكامل.
في ختام هذا اللقاء، ما الرسالة التي توجهينها للأسر المصرية؟
رسالتي بسيطة لكنها حاسمة: الوقاية خير من العلاج. والتشخيص المبكر هو مفتاح الوقاية. المبادرة الرئاسية فرصة ذهبية علينا استغلالها لإنقاذ أبنائنا من أمراض قد تبدو صامتة لكنها مدمرة. نحن في المركز القومي للبحوث على استعداد تام لدعم كل أسرة مصرية في هذا الطريق، ونضع العلم في خدمة الإنسان، فالأمل موجود ما دام هناك وعي ومتابعة واستجابة للبرامج الصحية.
يؤكد هذا الحوار أن قضية الأمراض الوراثية لم تعد رفاهية علمية، بل قضية أمن صحي قومي. المبادرة الرئاسية فتحت الباب لمرحلة جديدة من الرعاية الاستباقية، والمراكز البحثية الوطنية مثل المركز القومي للبحوث تلعب دورًا محوريًا في تحويل المعرفة العلمية إلى خدمات صحية تنقذ حياة الأطفال. يبقى الرهان على وعي الأسرة، ودور الإعلام، ومواصلة الدعم المؤسسي لتحقيق الهدف الأكبر: طفل مصري يتمتع بصحة جيدة وحق مكتمل في الحياة.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل الإخباري يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.