خلف المشهد النبيل لعقول تنكب على البحث في صمت المختبرات وقاعات الدرس تتوارى حقيقة مُرّة قوامها شبكات تعمل في الظل، حوّلت البحث العلمي إلى سلعة، والأطروحات إلى خدمات تُنجز بثمن. هذه الظاهرة التي لم تعد خافية تضرب في الصميم مصداقية البحث العلمي وتطرح سؤالاً ملحاً: ماذا تبقى من قدسية العلم وجودته؟.
سوق على “فيسبوك”.. المعرفة بثمن بخس
تبدأ القصة بإعلانات برّاقة على منصات التواصل الاجتماعي، تعد بحلول سريعة وشهادات تُحصّل دون عناء. لكن خلف هذا البريق ينشط سوق أسود منظم يعرض الأبحاث الجاهزة والأطروحات المكتوبة لمن يدفع أكثر.
في إطار هذا التحقيق تواصلنا مع أحد هذه المكاتب التي تحترف السمسرة في المعرفة، إذ تحول البحث العلمي إلى مجرد خدمة تجارية بتسعيرة محددة. مقابل إنجاز وثيقة علمية تراوح المبلغ المطلوب بين1000 و1500 درهم، وهو ثمن يرتفع أو ينقص حسب حجم وتخصص البحث، وكأن المعرفة سلعة في متجر. هذه المكاتب ليست حالات معزولة، بل عينة من عشرات، وربما مئات الصفحات التي حولت فضاء الجامعة إلى سوق مفتوح.
لمعرفة كيفية تعامل المؤسسات الرسمية مع هذه الآفة توجهنا إلى جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وهي صرح أكاديمي ضخم يضم أكثر من 145 ألف طالب، من بينهم ما يزيد عن 4000 باحث في سلك الدكتوراه ينتجون سنوياً ما يفوق 500 أطروحة.
يعترف مصطفى الخيضر، نائب رئيس الجامعة المكلف بالبحث العلمي، بأن هذه “الظاهرة المخزية” أصبحت عالمية وليست مقتصرة على المغرب؛ ولمواجهتها تعتمد الجامعة بشكل إلزامي على منصات عالمية لكشف التشابه في البحوث العلمية مثل iThenticate إذ لا يمكن مناقشة أي أطروحة قبل أن تحصل على الضوء الأخضر من هذا النظام الرقمي.
الأرقام التي قدمها المسؤول الجامعي تظهر تصاعداً صاروخياً في الرقابة، فعام 2019 تم التحقق من 310 وثائق فقط، فيما ارتفع العدد عام 2021 إلى 3029 وثيقة؛ ثم وصل عدد الوثائق التي تم فحصها عام 2023 إلى 10,245. وحتى يونيو 2024 تم التحقق من 9,297 وثيقة، ما يؤكد أن هذا الإجراء أصبح شرطاً أساسياً لقبول مناقشة الأطروحات بقرار من مجلس الجامعة.
الثغرة الكبرى.. بحوث تفلت من الرقابة
رغم هذه الإجراءات المشددة كشف نائب رئيس الجامعة نفسه عن ثغرة حقيقية في النظام، إذ أوضح أن هذه البرامج تقارن الوثيقة مع الإنتاج العلمي المتوفر على الإنترنت وقواعد البيانات المصنفة، لكن “إذا كان هناك شيء غير مدرج فلا يمكن التحقق منه”.
وهنا يكمن التحدي الأكبر، فالأطروحات التي تنتجها مكاتب الخدمات البحثية هي بطبيعتها بحوث تُكتب خصيصاً من الصفر، لم تُنشر من قبل، وبالتالي فهي “غير مدرجة” في أي قاعدة بيانات، ما يجعلها قادرة على تجاوز أنظمة كشف التشابه الرقمية.
دقت هسبريس باب المركز الوطني للبحث العلمي، مؤسسة عمومية تابعة لوزارة التعليم العالي، هي المخول لها فتح حسابات ضمن برنامج كشف التشابه المعتمد وتوفيرها لمختلف الجامعات المغربية. هناك، أكدت لنا المسؤولة عن البرنامج، ثريا السليماني، أن المواجهة مع الغش هي معركة متطورة؛ فإلى جانب الوعي بأهمية اعتماد النظام الحالي تورد أن البرنامج نفسه يتطور باستمرار ليشمل طرق احتيال جديدة، وعلى رأسها التحدي الأكبر اليوم: كشف مدى الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي في الكتابة.
وأوضحت السليماني أن هناك فرقاً جوهرياً بين وظيفة برامج كشف التشابه والحكم بالسرقة العلمية، قائلة: “تتمثل مهمة هذه البرامج في كشف التشابه بين المنتج العلمي وما يوازيه من منتجات علمية على المستوى العالمي، بما في ذلك قواعد البيانات العلمية العالمية. أما كشف السرقة العلمية فهو الحكم الذي يصدر على المقال أو البحث بعد مروره عبر برنامج كشف التشابه. فبينما يمثل كشف التشابه وظيفة تقنية للبرنامج، فإن الحكم بالسرقة العلمية هو القرار الذي يُتخذ لإثبات أن منتجاً علمياً ما لا يستوفي متطلبات النزاهة العلمية”.
وأضافت المتحدثة ذاتها أن أهم متطلبات النزاهة العلمية هي أن يكون البحث أصيلاً، لا سرقة فكرية لمنتج آخر، وأن يتسم بالشفافية في ذكر المصادر المستخدمة عبر الاقتباس أو الاستشهاد، وشددت على أن “العلم هو حركة تراكبية وتراكمية لمجموعة من الأعمال، ولذلك وجب الاعتراف بما خلفه السابقون”.
وعلى صعيد الأرقام كشفت السليماني عن تطور كبير في استخدام هذه الآليات، موردة: “لقد رصدنا على مستوى المركز تطوراً في عدد المقالات والإنتاجات العلمية المقدمة للكشف عن التشابه، إذ انتقل العدد من 61 ألفاً في بداية استخدام البرنامج الأول إلى أكثر من 268 ألفاً سنة 2004. وقد واكب هذا التطور زيادة في عدد الحسابات المنشأة للجامعات، التي ارتفعت من حوالي 29,700 حساب في البرنامج الأول إلى أكثر من 50,000 في البرنامج الثاني”.
وتابعت المسؤولة ذاتها: “مع النسخة الجديدة من البرنامج، التي بدأنا استخدامها منذ مدة لا تتجاوز ستة أشهر، وصلنا إلى إنشاء ما يقارب 29,000 حساب. كما أن كمية التحليلات المنجزة على هذا البرنامج الجديد تجاوزت 100 ألف تحليل، وهو رقم لا يقارن بما تم إنجازه في فترة سنتين ونصف السنة مع البرنامج السابق. وإذا أكملنا السنة فمن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد عدة مرات”.
أزمة بنيوية تغذي الغش
إن ظاهرة الغش الأكاديمي لا تنمو في فراغ، بل تجد تربة خصبة في واقع البحث العلمي المغربي الذي تصفه المؤشرات الدولية بالضعيف جداً. يقدم إدريس الكراوي، عضو أكاديمية المملكة، لوحة فحص دقيقة وصادمة لهذا الواقع، قائلا إن هناك باحثين قلائل: فلا يتجاوز عدد الباحثين 1708 لكل مليون نسمة، مع إنتاج علمي متواضع: فحصة المغرب من الإنتاج العلمي العالمي تقل عن 0.20%؛ وغياب عن التصنيفات العالمية: فلا توجد أي جامعة مغربية ضمن تصنيف شنغهاي لأفضل 1000 جامعة في العالم.
ويربط الكراوي هذه الظاهرة بأسباب أعمق، على رأسها “أزمة المدرسة” المغربية التي أصبحت عاجزة عن إنتاج نخب علمية وكفاءات قادرة على مواكبة التحديات الكبرى.
ووفقًا لعضو أكاديمية المملكة فإن تفشي ظاهرة الغش في البحث العلمي ليس معزولًا عن السياق العام، بل هو نتيجة مباشرة لهشاشة المنظومة العلمية والتعليمية في المغرب، وتغذيه أزمات بنيوية متعددة تقوّض إمكانيات إنتاج معرفة أصيلة وذات جودة.
في مقدمة هذه الأزمات يضع الكراوي أزمة المدرسة المغربية، التي يرى أنها فقدت قدرتها على تكوين نخب علمية مؤهلة، ويصف وضعها بـ”الاستحالة الموضوعية” في مواكبة تحديات البلاد وتلبية حاجيات الأوراش المهيكلة الكبرى، بعدما فقدت دورها كرافعة للارتقاء الاجتماعي كما كانت في الستينيات والسبعينيات؛ وهذا التراجع، حسبه، “يزرع الإحباط في نفوس الطلبة، ويدفعهم إلى التساؤل: لماذا أبذل مجهوداً في ظل مستقبل محفوف بالبطالة وانسداد الأفق؟”.
ويضيف المتحدث أن “الغش في البحث العلمي لا يمكن فصله عن الغش العام الذي بات سلوكًا منتشرًا في المجتمع، والمدرسة باعتبارها جزءاً من هذا المجتمع لا يمكن أن تنجو من هذا التأثير”.
من جهة أخرى يؤكد الأكاديمي ذاته أن “البحث العلمي في المغرب يعاني من ضعف بنيوي على مستوى التمويل والإرادة السياسية؛ فالموارد المرصودة لهذا القطاع تُوصف بالضعيفة جدًا، ومساطر الولوج إليها معقدة، ما لا يشجع الطلبة الباحثين على الاجتهاد أو سلك مسارات قائمة على الإنتاج الحقيقي للمعرفة”.
ويُحمّل الكراوي جزءًا من المسؤولية لضعف الشراكة بين الجامعة ومحيطها الاقتصادي، مقابل ما تشهده دول كالصين والولايات المتحدة وتركيا من دينامية ناجحة بفضل التكامل بين الجامعة والمقاولة والدولة؛ كما أشار إلى “وجود تشتت مؤسسي في تدبير البحث العلمي، سواء في القطاع العام أو الخاص، في ظل غياب قيادة موحدة، ما يعيق أي تدبير عقلاني للموارد ويُضعف نجاعة الابتكار”.
واختتم المتحدث تصريحه بالتنبيه إلى أن “المغرب لم يُحسن بعد توظيف كفاءاته بالخارج، إذ تغيب سياسة عمومية فعالة لاستقطاب علماء ومفكرين مغاربة يمكن أن يكونوا رافعة حقيقية للبحث العلمي الوطني”.
مبادرات لمعالجة الجذور
لكن الصورة ليست قاتمة بالكامل، ففي قلب هذه التحديات تبرز مبادرات جادة. في جامعة الحسن الثاني يتم العمل على معالجة الجذور.
يؤكد مصطفى الخيضر، نائب رئيس جامعة الحسن الثاني المكلف بالبحث العلمي والتعاون والشراكة، أن الجامعة اختارت مقاربة هيكلية جديدة لإصلاح منظومة البحث العلمي، انطلاقًا من إعادة تنظيم المختبرات وبناء مراكز موضوعاتية للبحث والابتكار، على أساس معايير الجودة والإنتاج العلمي.
ويشرح الخيضر أن لجنة البحث العلمي المنبثقة عن مجلس الجامعة تُعدّ الأداة الأساسية لتدبير هذا الورش، وقد أشرفت مؤخرًا على إنهاء عملية إعادة هيكلة المختبرات. وقد اعتمدت الجامعة، في هذا السياق، معايير دقيقة ترتكز على جودة الإنتاج العلمي وليس فقط على عدد الباحثين، بهدف تحفيز الباحثين على التجمع حول مشاريع ذات قيمة معرفية مضافة.
المرحلة المقبلة، كما أوضح المتحدث، تشمل اعتماد مراكز موضوعاتية للبحث والابتكار، إذ تم اختيار 10 مراكز تمحورت حول أولويات وطنية، على أن تستفيد في البداية من تمويل داخلي، وتُؤهل لاحقًا للمشاركة في طلبات عروض دولية ومشاريع كبرى.
ويضيف الخيضر أن الجامعة لا تكتفي بإعادة الهيكلة، بل وضعت أيضًا إستراتيجية شاملة لدعم الإنتاج العلمي، من خلال مجموعة من الآليات الموجهة لتحفيز الأساتذة الباحثين، أبرزها منحة “بريم دياكسيلونس” للنشر العلمي، إلى جانب آلية جديدة لتثمين مسار الأستاذ الجامعي عبر نظام “البروفيسور إيميريت”، الذي يُمكّن من الاعتراف بأدوار الأساتذة المتميزين وتوسيع نطاق تأثيرهم الأكاديمي.
ويبرز من هذا التصور أن جامعة الحسن الثاني تسعى ليس فقط إلى مواجهة ظواهر مثل الغش الأكاديمي، بل إلى معالجة جذور الأزمة عبر بناء بيئة علمية قائمة على الجودة، التحفيز، والهيكلة الذكية.
من جانبها تؤكد السليماني أن المعركة ضد الغش تتطلب رؤية متكاملة تتجاوز البرامج التقنية، وتشمل تكثيف التكوينات والمواكبة والتوعية بمعايير النزاهة العلمية؛ وتختتم بالتأكيد على أن أهم خطوة للرقي بالبحث العلمي هي وضع إستراتيجية وطنية للنزاهة العلمية.
" frameborder="0">