في زمن تتساقط فيه الثوابت كما تتساقط أوراق الخريف لم تعد سلاسل التوريد مجرد خطوط لوجستية تربط بين الدول والأسواق ، بل أصبحت خطوطا ساخنة تتقاطع فيها المصالح الاستراتيجية وتتشابك عندها الجغرافيا بالاقتصاد والقرار السيادي بحركة السفن والطائرات والبضائع. ومن قلب هذه التغيرات تقف مصر على عتبة فرصة تاريخية ، لا كدولة تمر بها السفن فحسب بل كفاعل محوري قادر على إعادة تشكيل منظومة التوريد العالمية في حقبة ما بعد التفكك.
لقد فرضت الأزمات المتعاقبة – من الجائحة إلى الحرب ومن نقص الرقائق إلى ارتفاع أسعار الطاقة – سؤالا جوهريا على مائدة العالم: من يتحكم في حركة الموارد؟ من يؤمّن الإمدادات؟ من يملك القدرة على ضمان استمرار الإنتاج والتصدير والاستيراد وسط أمواج سياسية واقتصادية متلاطمة؟ هذا السؤال الذي ظنّ البعض أنه يخص القوى الكبرى وحدها صار اليوم يُطرح بإلحاح على الدول المتوسطة وعلى رأسها مصر التي تمتلك من المقومات ما يؤهلها للعب دور يتجاوز الجغرافيا ويصل إلى صميم الأمن الاقتصادي العالمي.
فالعالم اليوم لا يبحث فقط عن طرق مختصرة بل عن طرق آمنة. لا يبحث فقط عن مناطق عبور بل عن مراكز استقرار. لا يطلب فقط مرور السلع بل توطين التصنيع. في هذا الإطار الجديد لم تعد الميزة النسبية تقتصر على الموقع بل على القدرة على إدارة الموقع. على الجاهزية، والبنية التحتية، والسياسات المشجعة، والتشريعات المتطورة، والانفتاح الواعي على متغيرات السوق.
وهنا تبرز أهمية أن تتحول مصر من مجرد "معبر" إلى "مركز"، ومن مجرد "ممر" إلى "محور". ليس فقط بسبب موقعها عند نقطة التقاء ثلاث قارات ولا بسبب امتلاكها قناة السويس أحد أهم الشرايين البحرية العالمية بل لأن العالم بات بحاجة إلى نماذج مستقرة تجمع بين الكفاءة والمرونة، وتوفر بدائل حقيقية للتشابك المعقد الذي تعاني منه الأسواق التقليدية. هذه هي اللحظة التي تتلاقى فيها الحاجة العالمية مع الإمكانية الوطنية.
لم تعد سلاسل التوريد تُدار من غرفة واحدة بل من خريطة معقدة تبحث عن التنوع والتوازن. فالدول التي كانت تعتمد على مزوّد واحد أو طريق واحد ، أو سوق واحدة بدأت تعيد حساباتها بعد أن وجدت نفسها في مهبّ الأزمات. ومن هنا تصبح الدول التي تقدم تنوعا في الخدمات اللوجستية واستقرارا سياسيا واقتصاديا ، وقواعد قانونية شفافة هي الأكثر جذبا والأقدر على أن تصبح جزءا من الحل لا من الأزمة.
وإذا كان العالم يُعيد تشكيل سلاسله الإنتاجية والتجارية فإن على مصر أن تُعيد تعريف دورها ليس كدولة تنتظر طلبا بل كمبادر يطرح بدائل ، ويقترح حلولا ويبني شراكات على قاعدة المصالح المشتركة. فالدبلوماسية الاقتصادية لم تعد رفاهية بل أصبحت امتدادا ضروريا للسيادة ، وأداة فعالة لفرض الوجود في المشهد العالمي الجديد.
وفي الوقت الذي تُعيد فيه القوى الكبرى تموضعها تبحث الشركات العالمية عن بيئات آمنة تحتضن صناعاتها وتوفر لها استقرارا طويل الأمد وتفتح لها أبواب أسواق متعددة. هذه الشركات لا تبحث عن الأعراق ولا الأيديولوجيا بل عن الشفافية، وسرعة الإجراءات، واستقرار السياسات. ومن هنا فإن تحسين البيئة الاستثمارية وتوسيع قدرات الموانئ والمناطق الحرة وتحديث البنية الرقمية واللوجستية لم يعد مطلبًا داخليا فحسب ، بل جزءا من التنافس العالمي على موقع في خريطة التوريد.
إن مصر بما تمتلكه من طاقة بشرية ضخمة ، ومن بنية تحتية تتطور باستمرار ومن موقع استراتيجي لا ينافس قادرة على أن تتحول إلى مركز إقليمي ودولي لإعادة توزيع السلع والخدمات ولم تعد بحاجة سوى إلى خطاب اقتصادي مرن، وسياسات أكثر انفتاحا وتحفيز استباقي لصناعات المستقبل لا سيما تلك التي تُستخدم كعُقد ارتكاز في سلاسل القيمة العالمية.
هذه الفرصة لا تُمنح مرتين. والعالم الذي بدأ يعيد توزيع خرائط الاعتماد والاستيراد والإنتاج ، لن ينتظر من يتأخر عن الركب. فالدولة التي تُحسن قراءة اللحظة وتعرف كيف تُوائم بين مصالحها ومصالح الشركاء تستطيع أن تبني لنفسها مكانًا ثابتًا في قلب منظومة جديدة تُعاد صياغتها الآن لا في مؤتمرات السياسة فقط ، بل في حركة السفن، والطائرات، والطلب على الغذاء والدواء والتكنولوجيا.
الزمن القادم هو زمن من يُحسن التموضع. ومن يستطيع أن يضع قدمه حيث يتقاطع الطلب مع الأمان. ومن يملك القدرة على أن يقول للعالم: نحن جاهزون. لا لنقل السلع فقط بل لإعادة صناعتها، وتوزيعها، وتخزينها، وتطويرها. ومن يملك هذه اللغة الجديدة هو من سيملك الحضور الجديد.
وفي النهاية، فإن سؤال “هل تقود مصر دورا محوريا في زمن التفكك؟” ليس مجرد رهان نظري بل تحد عملي. والإجابة لن تأتي من الخارج بل من الداخل. من إرادة أن نكون جزءًا من مستقبل العالم لا هوامشه. من إيمان بأن الموقع وحده لا يكفي بل يجب أن نمنحه معنى وأن نُحسن إدارته وأن نجعل من كل أزمة فرصة، ومن كل تغير نافذة، ومن كل تفكك عالمي انطلاقة جديدة نحو حضور أقوى وأوسع وأكثر استدامة
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.