وفي خضم هذه التحديات المستمرة التي أدت إلى تباطؤ ملحوظ في الأنشطة الإنشائية وتكدس المخزون من الوحدات غير المباعة، هل تشكل هذه الزيادة في الطلب على المعدات الثقيلة، التي تُعتبر مقياساً رئيسياً لنشاط البناء، مؤشراً حقيقياً على تحول وشيك؟
هل تبدد مبيعات معدات البناء ضبابية الأزمة العقارية الصينية التي طال أمدها؟ وهل تبشر هذه الأرقام، التي تأتي بعد فترة طويلة من الركود، بنهاية كابوس العقارات الصيني الذي استنزف الاقتصاد والمجتمع على حد سواء؟
وسجلت مبيعات الحفارات المحلية قفزة بلغت نحو 23 بالمئة خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وفقاً للبيانات الصادرة عن جمعية آلات البناء الصينية، حيث تُعد هذه الزيادة في مبيعات المعدات الثقيلة، مؤشراً لافتاً في المشهد الاقتصادي الصيني، بحسب تقرير نشرته وكالة "بلومبرغ" واطلعت عليه سكاي نيوز عربية،
وأوضح التقرير أن هذا الارتفاع دلالة على بدء قطاع البناء الصيني في الاستقرار تدريجياً، مدعوماً بإجراءات التحفيز الحكومية التي تم إقرارها في أعقاب سنوات طويلة من الاضطراب الناجم عن أزمة العقارات المطولة التي أثرت بشكل عميق على البلاد.
وأشار إلى أن التراجع الحاد في مشاريع بناء المساكن كان القوة الضاغطة الرئيسية على قطاع الحفارات، وكذلك على الطلب في صناعات رئيسية مثل الصلب والصناعات المرتبطة به. ومع ذلك، شهدت العقود الآجلة لقضبان التسليح واللفائف المدرفلة على الساخن في بورصة شنغهاي تقدماً ملحوظاً.
بينما ارتفع خام الحديد، المكون الأساسي في صناعة الصلب، بنسبة وصلت إلى 2.3 بالمئة ليصل إلى 98.25 دولاراً للطن. كما اتجهت عقود خام الحديد المقومة باليوان في بورصة داليان نحو تحقيق أعلى إغلاق لها منذ شهر أبريل، مما يعكس بعض التفاؤل الحذر في الأسواق المرتبطة بالقطاع.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية الجزئية، يوضح التقرير أن الاقتصاد الصيني لا يزال يرسل إشارات متباينة، وهو ما أكده محللون من شركة "إكس بي ريسيرش". ففي مذكرة بحثية لهم، أشاروا إلى أنه "بينما كان الاستثمار في قطاعي التصنيع والبنية التحتية قوياً، ضعفت بيانات القطاع العقاري مجدداً، مع تراجع في أعداد المشاريع التي بدأ العمل بها، وكذلك في المبيعات وعمليات الإنجاز"، وذلك بالإشارة إلى بيانات حكومية لشهر مايو الماضي. هذا التناقض يؤكد استمرار الضبابية المحيطة بالصحة العامة للقطاع العقاري.
ولفت التقرير إلى أن مصنعي الصلب يواجهون تحديات جمة، حيث لا تزال أسعار حديد التسليح (الحديد المستخدم في التسليح) قريبة من أدنى مستوياتها منذ عام 2017، وهي دلالة واضحة على استمرار معاناتهم من تراجع الطلب المحلي.
تفاؤل حذر
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد جميل الشبشيري: "عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد الصيني، فإن الأرقام غالباً ما تقدم رؤى متعددة الأوجه. للوهلة الأولى، يمكن اعتبار نمو مبيعات معدات البناء خلال النصف الأول من عام 2025 بمثابة بصيص أمل، وربما مؤشر على أن قطاع العقارات، الذي كان محركاً رئيسياً للنمو وواجه تحديات كبيرة، قد بدأ يسير على طريق الاستقرار".
ففي النهاية، مبيعات الحفارات ليست مجرد بيانات في تقرير اقتصادي، بل هي انعكاس للنشاط على أرض الواقع. زيادة الطلب عليها تعني أن هناك مشاريع جديدة قيد الإعداد، وأن عجلة البناء والتشييد بدأت تكتسب زخماً. وهذا يتماشى مع الجهود الحكومية المستمرة لدعم القطاع، من خلال حزم التحفيز وتوجيه البنوك لتسهيل الإقراض، بحسب تعبيره.
وتشير بيانات "جمعية آلات البناء الصينية" إلى أن هذا النمو يأتي في أعقاب شهور من الانكماش في الاستثمار العقاري، وهو ما يضفي أهمية خاصة على هذه القفزة المفاجئة.
قطاع ضخم يمر بمرحلة تحول
وأضاف الدكتور الشبشيري: "لفهم أبعاد المشهد الحالي، من الضروري إدراك الحجم الهائل لقطاع البناء والتشييد في الصين. هذا القطاع، الذي يُعد الأكبر في العالم، قُدرت قيمته السوقية بحوالي 4.74 تريليون دولار في عام 2023. لسنوات طويلة، كان هذا القطاع هو القاطرة التي تجر الاقتصاد الصيني، حيث يساهم بشكل مباشر وغير مباشر بما يقارب ربع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد".
لكن هذا العملاق الاقتصادي يمر الآن بمرحلة تصحيح دقيقة. فبعد طفرة عقارية غير مسبوقة بدأت في عام 2017 وشهدت ارتفاعاً كبيراً في أسعار المنازل، وصل السوق إلى نقطة الذروة في عام 2021. منذ ذلك الحين، بدأت مبيعات العقارات السكنية رحلة من التباطؤ، حيث انخفضت بنسبة تصل إلى 47 بالمئة من ذروتها. ورغم أن وتيرة هذا الانخفاض قد خفت حدتها مؤخراً، إلا أن الطلب لم يستعد كامل قوته بعد، ولا يزال حجم المخزون العقاري غير المباع عند أعلى مستوياته منذ عام 2018، مما يضع ضغطاً مستمراً على المطورين، طبقاً لما قاله الشبشيري.
وفي هذا السياق، يشير تقرير صادر عن وكالة "بلومبرغ" إلى أن بعض شركات التطوير العقاري الكبرى لا تزال تواجه خطر التخلف عن السداد، مما يُبقي على مخاوف المستثمرين حية. إذن، هل يمكننا القول إن الأزمة في طريقها للحل؟
يجيب الخبير الاقتصادي الشبشيري على التساؤل بقوله: "من المبكر تأكيد ذلك بشكل قاطع. صحيح أن هناك نشاطاً ملحوظاً في قطاعات البنية التحتية والتصنيع، وهو تطور إيجابي بلا شك. لكن إذا نظرنا إلى قلب التحدي – وهو قطاع العقارات السكنية – نجد أن النتائج ليست مرضية بالكامل بعد".
وأضاف: "البيانات الحكومية لشهر مايو الماضي تشير إلى أن وتيرة بدء المشاريع السكنية الجديدة والمبيعات لم تصل بعد إلى المستويات المأمولة. هذا يوحي بأن السوق لا يزال في مرحلة انتقالية، وأن الثقة بين المطورين والمشترين تحتاج المزيد من الوقت لتتعزز. كما أن ارتفاع مبيعات الحفارات قد يرتبط بمشاريع بنية تحتية أو صناعية لا ترتبط مباشرة بسوق الإسكان، وهو ما يستدعي الحذر في تفسير الأرقام بمعزل عن بقية المؤشرات.
وأشار إلى أن هذه المرحلة ألقت بظلالها على قطاعات أخرى مرتبطة بالبناء، مثل صناعة الفولاذ التي شهدت طلباً أقل من المعتاد. ورغم بعض التحسن في الأسعار، إلا أنها لم تستعد مستوياتها السابقة بالكامل.
علامة مشجعة
ويرى الدكتور الشبشيري أن نمو مبيعات معدات البناء هو علامة مشجعة، وتدل على أن سياسات التحفيز الحكومية بدأت تؤتي ثمارها في بعض جوانب قطاع الإنشاءات. لكنها قد لا تمثل بالضرورة تعافياً شاملاً للسوق العقاري بأكمله. ما نشهده قد يكون “تعافياً انتقائياً”، حيث تنشط بعض القطاعات الفرعية بينما لا يزال قطاع الإسكان السكني يبحث عن نقطة توازن جديدة. وبالتالي، فإن التعافي الحالي – رغم إشاراته الإيجابية – لا يزال هشاً ومعرضاً لتقلبات مفاجئة في حال استمرار ضعف الطلب على الإسكان أو ظهور أزمات سيولة جديدة بين المطورين.
وختم بقوله: "في نهاية المطاف، ربما لا يكون السؤال هو “متى ستنتهي الأزمة؟” بل “كيف سيتغير شكل قطاع العقارات الصيني؟”. يبدو أن بكين لم تعد تسعى فقط لإعادة إحياء النموذج القديم القائم على التوسع العقاري السريع، بل تهدف إلى بناء نموذج جديد أكثر استدامة وتوازناً. قد تكون زيادة الإنفاق على البنية التحتية والمشاريع الصناعية جزءاً من هذه الاستراتيجية لإعادة توجيه محركات النمو بعيداً عن الاعتماد المفرط على سوق الإسكان".
استجابة واضحة لحزم التحفيز الحكومية
من جانبه، أشار الخبير الاقتصادي حسين القمزي في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إلى أنه عادة ما ينظر إلى بيع أو إيجار الحفارات كمؤشر مبكر على نشاط البناء، كما تمثل مؤشراً غير مباشر للطلب على الصلب، نظراً لارتباطها الوثيق بأعمال البنية التحتية والإنشاءات الكبرى، موضحاً أن هذه القفزة في المبيعات ربما تعكس استجابة واضحة لحزم التحفيز الحكومية التي ضخت استثمارات إضافية في مشاريع البنية التحتية والتصنيع، لتعويض التباطؤ الحاد في سوق الإسكان.
فمنذ بداية أزمة العقارات قبل نحو ثلاث سنوات، شكّل تراجع بناء المساكن عبئاً كبيراًعلى قطاع معدات البناء، وأدى إلى انخفاض في الطلب على الصلب والحديد الخام وسلع صناعية أخرى، بحسب القمزي، الذي لفت إلى أن الأسواق تفاعلت سريعاً مع البيانات الإيجابية للعقود الآجلة لخام الحديد وعقود حديد التسليح.
وأضاف الخبير الاقتصادي القمزي: "رغم هذه المؤشرات الإيجابية في قطاع البناء، لا تزال بيانات سوق العقارات ترسم صورة بها بعض التشاؤم، ففي سوق الصلب، يواصل حديد التسليح تداوله عند مستويات قريبة من أدنى مستوياته منذ عام 2017، ما يعكس استمرار ضعف الطلب المحلي. وتشير التوقعات إلى انخفاض استهلاك الصلب في الصين بنسبة 2 بالمئة خلال عام 2025، ليصل إلى 839 مليون طن، في خامس عام على التوالي من التراجع".
ويرى أنه انتعاش جزئي بسبب الدعم الحكومي ولكنه ليس تحسناً شاملاً يحرك الطلب الفعلي على المساكن او الاستثمارات العقارية.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"