يشتعل حريق في غرفة بسنترال رمسيس فتصاب قطاعات كثيرة في الدولة بالشلل شبه التام! لكن ما حدث لم يكن مجرد «حريق في مبنى»، بل كان كارثة بكل المقاييس، نتيجة لانقطاع خدمة قومية، وهو ما أثبت أننا لا بد وأن نعيد التفكير في بنية الإتصالات الحرجة في مصر.
ما حدث عصر الإثنين الماضي جرس إنذار مهم لكل أجهزة الدولة ولكل المواطنين بأخذ الحيطة والحذر والاستعداد حتى لا يتكرر هذا الحادث المؤسف، ويمكن أن نمد الخيط إلى آخره ونسأل: ألا يمكن أن يفكر أعداؤنا في مثل هذا النوع من الهجمات كما فعلوا عمليًا في لبنان وغزة وإيران؟!
سنترال رمسيس يعتبر مركزًا رئيسيًا لتجميع وتوزيع خدمات الإتصالات المحلية والدولية، ويربط الكابلات الأرضية والبحرية التي تغذي الإنترنت والهاتف الأرضي في عدد كبير من مناطق الجمهورية، وبالتالي فالسنترال يعتبر أحد أعمدة البنية التحتية للإتصالات في مصر، وهو ما يفسر أن عددًا كبيرًا من المصريين اشتكى طوال مساء الإثنين وحتى العاشرة من صباح الثلاثاء من ضعف أو انقطاع الشبكة خاصة في خدمات الهاتف المحمول والخطوط الأرضية.
ما حدث يوم الإثنين يجعلنا نسأل عن خطورة أن تكون معظم حياتنا متعلقة في كابل أو سلك أو فيشة واحدة، تنقطع في حادث أو حريق، أو يخربها مخرب وعدو، فتصاب بالشلل شبه الكامل! وبالتالي فالسؤال الجوهري: أين الشبكات البديلة والاحتياطية «الباك اب»؟! وهل هناك تقصير من شركات معينة في الإنفاق على هذا الباك اب وبالتالي زادت الخسائر
والسؤال الأهم: لماذا لا تكون هناك خطة طوارئ؟ فمن المفترض أن يكون هناك مسارات بديلة تستطيع أن تتحمل كافة الاحمال المطلوبة وقت الأزمات، لكن من الواضح أنه لا توجد خطة للطوارئ! لكن الأهم أن يكون لدى الجهاز القومي لتنظيم الإتصالات شبكة تعمل من خلال عدة طرق بنفس الكفاءة عن طريق «شبكة عنكبوت»، لكن من المؤكد أن الجهاز يعمل بما يشبه «شبكة نجمية»، بمعنى أن كل الأشياء تدور حول نقطة واحدة، وفي حالة وقوع هذه النقطة الكل يقع معاها كما حدث بالفعل.
أعود إلى السؤال الجوهري وهو: كيف نؤمن شبكات الإتصالات في مصر، وإذا ثبت أن الحادث الأخير ناتج عن ماس كهربائي، فكيف نستعد لأي محاولات إرهابية أو عدوانية من الأعداء، الذين صاروا كثيرين في الداخل والخارج، في السر والعلن، وبعضهم لم يعد يخفي نواياه العدوانية ضد المنطقة بأكملها، بل يريد إعادة رسمها لتتناسب مع مقاساته ومعاييره وخرافاته.
أحد خبراء الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات، أكد لي أن الحل الهندسي والجذري يكمن في خمس نقاط أساسية وهي كالتالي: أولًا: الفصل بين وظائف «السنترالات» و«مراكز البيانات»، لأن الخطأ الأساسي أن السنترال كان يقوم بأكثر من دور في نفس الوقت: «توجيه مكالمات أرضية - ربط شركات المحمول - مركز بيانات ضخم - غرفة ربط دولي»، والحل: لا بد وأن يتم فصل الأدوار هذه في مواقع مختلفة جغرافيًا، بحيث لو حدث خلل في مكان، لم تتأثر كل المنظومة.
ثانيًا: توزيع الأحمال والشبكات، فشبكة الإتصالات لا بد أن تشتغل بمفهوم Distributed Architecture، وليس «مركزية التحميل»، ولابد أن يكون موجود Data Centers و Core Routers و Interconnect Hubs في 4 أو 5 مدن على الأقل (القاهرة – الأسكندرية – الدلتا – الصعيد – القناة)، وكل نقطة منهم تستطيع أن تحل محل الثانية أو «تشتغل أوتوماتيكيًا في حالة الطوارئ»، أي ببساطة: لو سنترال رمسيس وقع، سنترال المنصورة أو 6 أكتوبر يأخد مكانه فورًا عن طريق الـ failover routing.
ثالثًا: تحديث البنية التحتية بمعايير Tier-III أو Tier-IV ومراكز البيانات والسنترالات الكبرى لا بد أن تلتزم بمعايير Uptime Institute: نظام إطفاء حريق أوتوماتيك (FM-200 أو Inert Gas Systems)، ومصادر طاقة احتياطية مزدوجة (UPS وGenerator + Power Grid)، ونظام تبريد N+1 أو N+2 بحيث لو أي وحدة تعطلت، غيرها يشتغل فورًا، وتوزيع الكابلات في غرف منفصلة ومعزولة ضد الحرارة والرطوبة.
رابعًا: إستخدام الذكاء الاصطناعي في التوقع المبكر، ولازم يتثبت في السنترالات الكبيرة أنظمة AI-based Predictive Maintenance، التي تراقب درجات حرارة الخوادم، استهلاك الكهرباء، نسبة الرطوبة، ضغط المراوح، وتشغّل إنذار مبكر، ولو أي قيمة خرجت عن المعدلات الطبيعية، وهذه نفس التقنية التي تستخدمها أمازون ومايكروسوفت في مراكز البيانات الخاصة بهم.
خامسًا: تطوير خطط الطوارئ والتدريب الفعلي عليها مع وجود Disaster Recovery Plan مكتوب مش كفاية، ولا بد من عمل تمرين حقيقي كل 6 أشهر على سيناريوهات مثل: «حريق - انقطاع كهرباء - هجوم إلكتروني»، ويتم التأكد وقتها أن كل خدمة هتشتغل من أين، وكيف، والمطلوب الآن هو التركيز على Resilience + Segmentation + Smart Monitoring لكي تكون البنية التحتية مستعدة لأي طارئ، فما حدث في رمسيس لا بد وأن يكون Case Study حقيقية لتطوير الشبكة القومية، ولم يكن مجرد أزمة وتعدي.
وزارة الاتصالات وأجهزتها المختلفة خصوصًا الجهاز القومي لتنظيم الإتصالات بذلوا جهدًا كبيرًا في السنوات الماضية وحققوا طفرات ضخمة في هذا القطاع؛ لكن حادث سنترال رمسيس يكشف عن أننا نحتاج إلى إعادة النظر في كل ما يتعلق بتأمين وصيانة الإتصالات في مصر من الألف إلى الياء، ليس فقط من الماس الكهربائي، ولكن من التربص المعادي لنا.
الخلاصة: سنترال رمسيس لم يكن مجرد مبنى وقع به حريق، «رمسيس» كان لا بد أن يكون مؤمَّن أكثر من ذلك بكثير، وما حدث كان درسًا قاسيًا وكبيرًا يعلمنا أن البنية التحتية لأي بلد لا بد أن تكون قوية وموزعة بذكاء، فعندما تحدث كارثة وتقع معها شبكة الإتصالات فإن الخدمات جميعها تصبح في حالة شلل تام!.. وعلينا أن نفهم أولًا ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟ ومن المقصر؟ وكيف ستتم محاسبته؟ حتى نعالج الخلل.. «ورب ضارة نافعة».