أخبار عاجلة

"الحرب غير المرئية" .. كيف تتم إعادة تشكيل العالم أمام وجوه مبتسمة؟

"الحرب غير المرئية" .. كيف تتم إعادة تشكيل العالم أمام وجوه مبتسمة؟
"الحرب غير المرئية" .. كيف تتم إعادة تشكيل العالم أمام وجوه مبتسمة؟

كنت أتابع نشرات الأخبار مساءً، كما اعتدت، مأخوذًا بتلك الطقوس اليومية التي تجمع بين التلقين الإعلامي والتحليل الظاهري للأحداث، حيث يتعاقب على القنوات الإخبارية محللون سياسيون وخبراء في الاقتصاد، وأحيانًا فلاسفة يشرحون ويعلقون على ما يجري في العالم من أحداث واختلالات وتحوّلات. كان المشهد مألوفًا في صيغته، مُطَمْئِنًا في رتابته، حتى خطر ببالي سؤال ليس من فحوى النقاش، بل من هامشه الصامت: أليس ما نُسميه تحليلًا عقلانيًا للواقع ما هو في جوهره إلا حجابا جماعيا نتواطأ على نسجه، إخفاءً لعجزنا عن الاعتراف بأن ما نراه ليس سوى سطحًا هشًّا يخفي وراءه نظامًا أعمق، لا ينكشف إلا لمن يمتلك شجاعة التوقف عن الكلام، والانصات بصمت إلى ما يتجاوز ظاهر الأشياء؟

في تلك اللحظة، شعرت أن النقاشات التي يفترض أن تكون مصدر فهم وإيضاح، تتحول في أغلب الأحيان إلى أدوات تخدير للأسئلة العميقة، بدلاً من أن تكون حافزًا لإثارتها والتعمق فيها.

هكذا، انقلبت نشرة الأخبار من كونها نافذة على العالم إلى مرآة تعكس خواءً خطابيًا متكرّرًا، يُعيد إنتاجه عقل مأزوم يظن أنه يُمسك بالحقيقة، فيما هو لا يكاد يلامس حوافّها.

في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تهزّ العالم اليوم، يغدو التساؤل عما إذا كنّا نشهد ما يُسمى بـ”حرب عالمية ثالثة” مجرد تعبير عن شعور جماعي آخذ في التنامي، مفاده أن العالم لم يبرح قطّ منطق الحرب، وإن كان قد غيّر أدواتها وأقنعتها، متنقلًا من المواجهات الصريحة إلى صيغ أكثر التواءً وتعقيدًا. لم يعد مفهوم الحرب العالمية الثالثة منحصرا في النزاعات العسكرية التقليدية أو الجبهات الواضحة، لعله تحوّل إلى واقع يرتكز على “اليقين غير المرئي”، حين تُختبر الوقائع وتُعاش تأثيراتها قبل أن يتمّ الإعلان عنها رسميًا على المستويات السياسية. هكذا، يتمّ اليوم إعادة تعريف فكرة الحرب ذاتها، فهناك:

حرب اقتصادية تُدار بأدوات الأسواق والعملات والعقوبات.

حرب معلومات تُخاض بخوارزميات الذكاء الاصطناعي والمجالات السيبرانية.

حرب ثقافية تُشن عبر السيطرة على سرديات الشعوب والهويات الرمزية.

حرب بيئية يجري فيها تدمير الأرض ببطء، وكأنّ الفاعلين الكبار يُتقنون فن القتل بالتقسيط.

الحرب الشبحيّة: يقين العالم الذي يُدمَّر بأدب

بهذا المعنى، لا نحيا مُقدّمات حرب عالمية ثالثة، بل نحن في صميمها، ولكنها تتخفى وراء مصطلحات أكثر تهذيبًا: “الأزمة”، “المنافسة الجيوسياسية”، “التنافس الاقتصادي”، أو حتى “التحولات العالمية الكبرى”. ما يُدهش في هذه الحرب هو طابعها الشّبحي: لا إعلان رسمي، لا جبهة محددة، بل تعدد في الأعداء وتبدّل في المواقع، بحيث أصبح كل طرف يُقاتل الجميع تحت عناوين متناقضة في ظاهرها، بيد أنها تصب جميعًا في مشروع واحد: السّيطرة على مُستقبل الإنسان.

يقين هذه الحروب، إذن، غير مرئي لأن أدواتها تعمل في الخفاء، في البورصات، في مراكز البيانات، في القرارات السياسية المعلنة بوصفها “إصلاحات”، وفي المختبرات البيولوجية حيث يُعاد تشكيل المستقبل على نحو يتجاوز كلّ مداركنا الأخلاقية والسياسية.

السؤال الأشد قسوة والذي ينبغي أن نواجهه ليس: هل هناك حرب عالمية ثالثة؟ وإنما: ماذا لو لم يعد مفهوم “الحرب” نفسه صالحًا لفهم ما يجري؟ وماذا لو كان شكل الحرب الجديد هو ذوبان مفهومها ذاته في الحياة اليومية، بحيث نُقتل رمزيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا دون أن ندري، في حرب غير مُعلنة، وبلا نهاية مرتقبة؟ وهل نحتاج إلى انفجار ذرّي حتى نُسمّيَ الأشياء بأسمائها، أم أن الحرب الآن أكثر ذكاء من أن تحتاج إلى انفجار؟ هل أصبح الدمار الناعم أكثر فعالية من العنف الصريح؟ وهل نحن شهود على نهاية العالم القديم أم على أعتاب شكل جديد من الحروب لا يُعلن عن نفسه إلا بعد فوات الأوان؟

ما دفعني إلى طرح هذه الأسئلة ليس حدثًا بعينه، وإنما ذاك الشعور المتنامي بأن العالم يرزح تحت وطأة ازدواجية لا فكاك منها: ظاهره طمأنينة يومية، وباطنه تصدعات هائلة تتهدد وجود الإنسان نفسه. في هذه اللحظة من التأمل، تكشّف لي أن أخطر ما نعيشه اليوم ليس شبح الحرب بوصفه حدثا، وإنما غياب الشعور بالحرب، كأن الإنسانية أصبحت تمارس فن الإنكار الجماعي، تمضي في حياتها اليومية بينما الأسس التي تقوم عليها هذه الحياة تنهار بصمت. ليس ما يحدث حولنا مجرد أخبار سياسية أو اقتصادية، بل هو تحلُّل تدريجي للمعنى، وخسارة جماعية لبوْصلة الإدراك.

حين يصير العنفُ هواءً نسْتنشقهُ

لم تعد الحروب في زمننا الحديث تُخاض على تخوم الخرائط والجغرافيا وحدها، كما كان عليه الأمر في الأزمنة السابقة، لعلها انتقلت إلى تخوم أكثر خفاء وتعقيدًا: حدود الوعي ذاته. لقد تحوّلت الجبهات من خطوط واضحة تفصل بين الدول، إلى خطوط باهتة تفصل بين الحقيقة والوهم، بين الإدراك والتضليل، بين ما نراه وما يُراد لنا أن نراه. هكذا، أصبح مسرح الحرب هو العقل، وأضحت أدواتها لا تقتصر على السلاح والدمار، وإنما تمتد إلى السيطرة على الإدراك، وتوجيه الانتباه، وإعادة تشكيل العالم وفق خرائط ذهنية لا جغرافية.

إنها حرب على الوعي قبل أن تكون حربًا على الأرض: من ضياع المَعْنى، وتصدُّع الرّوابط، إلى اختفاء الأمَان الرّوحي، وتسليع كلّ شيء، حتى المشاعر؛ ها نحنُ قد أصبحنا أمام حرب خفية ومستترة تشبعت في تفاصيل الحياة إلى درجة جعلت الواقع نفسه يتماهى معها، وبات التمييز بين ما هو طبيعي وما هو مدبَّر ضربًا من الوهم. وعندما يغدو الاستثناء هو القاعدة، والمأساة مجرد إيقاع يومي مألوف، والانهيار منظومة محكمة تُدار بوعي وسبق إصرار، نكون أمام حرب بلغت ذروة براعتها وحققت أعظم أشكالها قسْوة: أن تمحُوَ أثرها في العَلن، وأن تحيا مُختبئة في اليَوْمي.

هذا شكل جديد من العداء، أكثر خطورة من الصراعات التقليدية، لأنه يفتك بنا من أكثر مناطق الذات هشاشة؛ العنفُ إرهاق مُمنهج للوعي، واستنزاف بطيء لقدرتنا على الإحساس، وعلى الفهم، وعلى الحُلم. إنها حروب تستهلك أعصابنا الأخلاقية، وتُفكك قدرتنا على التعاطف، وتُضعف ذلك الخيط الخفيّ الذي يشدّ الإنسان إلى الزمن والمستقبل، حتى نغدو في النهاية غرباء عن أنفسنا، شهودًا صامتين على تآكل ذواتنا، كما لو كنا نراقب انهيار بيتٍ نقطنهُ دون أن نحرّك ساكنًا.

في حضرة يقين الحرب القادمة

وأنا أتتبع الأخبار وتداعياتها، وأصغي لعبارات المحللين التي تغلّف الكارثة بلغة الأرقام والتحليلات الباردة، باغتني يَقينٌ خافت كمَنْ يتذكّر حُلمًا منسيًا: لا شك أن هذه هي الحرب العالمية الثالثة، لكنها لا تشبه الحروب القديمة… لأنها تُخاض بهدوء قاتل، كأن العالم يُدمَّر بصوت خفيض كي لا يوقظ أحدًا.

نعم، لعلنا نحيا حربًا عالمية ثالثة تدور رحاها على مستوى الوجود لا على رقعة الأرض كما أسلفتُ، وسلاحها الأشد فتكًا هو التفاهة المنظمة والتآكل البطيء للمعنى. ما نشهده اليوم هو حروب بطيئة لكنها منهكة، تهدف إلى تفكيك البنية الرمزية للوجود ذاته؛ إذ تُفرغ اللغة من معانيها، والكلمات من ثقلها الدلالي، فتتخذ أدواتها شكل الخطابات الناعمة، وشاشات التلفاز، وآليات التسلية المُبرمجة بعناية لإعادة تشكيل الوعي بشكل خفي، بعيدًا عن كلّ مقاومة جليّة أو مواجهة مباشرة.

حين تصير الحرب هندسةً للموْت النَّاعم

لست بطبعي من هواة التشاؤم، ولا ممن يتتبعون أخبار الحروب، فلدي من مشاغل الحياة وهواجسها ما يكفي لاستنزاف ما تبقّى من طاقتي كل يوم: هموم الوقت، وهشاشة الأحلام المؤجلة. ومع ذلك، لا أجد بُدًّا من التوقّف أمام ما يحدث من حولنا، لا بدافع فضول سياسي عابر، ولا رغبةً في تأويل مظاهر الانهيار، وإنما لأن إحساسًا خفيًّا يلحّ عليّ بأن ما يجري يتسلّل بصمت إلى تفاصيل حياتنا الصغيرة، ويعيد تشكيلها من الداخل على مهل، دون أن ننتبه. ليس الأمر نزوعًا نحو التشاؤم، ولا مجرد اتخاذ موقف إزاء الواقع، بقدر ما هو “وعي” بأننا إزاء حرب خفية وصاخبة تُدار عبر آليات ناعمة تخترق انشغالاتنا الفردية، فتُعيد توجيهها لخدمة هذا الخراب العام، بأساليب أكثر خفاءً، وأشد وطأة:

أليس الأدهى أن تكون هذه الحروب قد نجحت في نزع الشعور بالحرب ذاته من وعي الأفراد؟ ماذا لو كان أكبر انتصار تحققه القوى المهيمنة اليوم هو تحويل الإنسان إلى مشارك صامت في تحلُّل عالمه، دون مقاومة، ودون أيّ إحساس بالخسارة؟ وهل يمكن للإنسان أن يستعيد وعيه بحقيقة العنف وقد أصبح جزءًا من حياته اليومية، ومن تطلعاته، ومستقبله؟ وإذا كان العالم يحتضر فعلاً دون إعلان، فهل سيكون المستقبل للذين يرَوْن هذا الاحتضار، أم لأولئك الذين يُواصلون الرقص فوق رماده دون أن يلتفتوا للخسارة القادمة؟

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أسرع رابط للحصول على نتيجة الشهادة الاعدادية 2025 بالقليوبية
التالى حضرت احتفالية.. محامي نوال الدجوي يرد على تحدي الخصوم: "الدجوي في كامل قواها العقلية