في ظل تسارع التغيرات المناخية وتزايد الحاجة إلى خفض الانبعاثات الكربونية على المستويين المحلي والدولي، تبرز المدن القديمة بمثابة محور رئيس في معادلة الاستدامة البيئية.
وبينما تحقق المدن الذكية الناشئة قفزات ملحوظة نحو التنمية منخفضة الكربون، تظل المدن التقليدية -بتركيبتها العمرانية والبنيوية- عُرضة لتحديات مضاعفة تتطلب حلولًا مبتكرة وعملية.
انطلاقًا من هذا الواقع، أجرت أستاذة جغرافية العمران والتخطيط بجامعة عين شمس الدكتورة فيروز حسن، دراسة تحليلية -اطلعت عليها منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)- لتشخيص الوضع الراهن في المدن القديمة، وتحديد فرص التحول الذكي بصفته وسيلة رئيسة لتحقيق أهداف خفض الانبعاثات الكربونية.
وأوضحت الدراسة أنه على الرغم من التقدم الملحوظ في نماذج مثل مدينة مصدر وكوبنهاغن؛ فإن الواقع في أغلب المدن القديمة يعكس بنية تحتية تقليدية، وتخطيطًا عمرانيًا لا يستجيب للمتغيرات البيئية المستجدة، ما يفرض ضرورة إعادة النظر في نماذج الإدارة والتخطيط الحضري.
وسائل نقل تقليدية
كشفت الدراسة عن أن المدن القديمة، ولا سيما في الدول النامية، تمثل بؤرًا للانبعاثات الكربونية بسبب اعتمادها على:
- وسائل نقل تقليدية تفتقر إلى الكفاءة البيئية.
- مبانٍ ذات عزل ضعيف للطاقة.
- نظم طاقة قائمة على الوقود الأحفوري.
- ضغوط سكانية تؤدي إلى تقليص المساحات الخضراء وزيادة كثافة البناء.
وفي حالات كثيرة، تعاني تلك المدن غياب التخطيط البيئي المتجدد؛ ما يزيد من هشاشتها أمام الأزمات المناخية، كما حدث في مدينة نيو أورلينز الأميركية، التي اضطرت لإعادة بناء نظام السدود بعد إعصار كاترينا بتكلفة تجاوزت 14 مليار دولار.
التحول التدريجي نحو المدن الذكية
توصّلت الدراسة إلى أن التحول إلى مدينة ذكية لا يستدعي الإحلال الكامل للبنية التحتية، بل يمكن أن يتحقق من خلال حزمة إجراءات تدريجية، تشمل:
- تحديث البنية التحتية منخفضة الكربون من خلال كهربة وسائل النقل العام، ودمج مصادر الطاقة المتجددة في شبكات الكهرباء، وتطوير أنظمة إدارة المياه والنفايات باستعمال تقنيات الاستشعار والذكاء الاصطناعي.
- التخطيط العمراني البيئي: يتطلب إصدار قوانين ملزمة للبناء الأخضر، والتوسع في تركيب الأسطح الخضراء، وتفعيل مبادئ الإضاءة والتهوية الطبيعية في التصميمات.
- المشاركة المجتمعية الذكية من خلال:
- استعمال المنصات الرقمية لإشراك المواطنين في مراقبة الانبعاثات وتقديم المقترحات.
- إطلاق حملات توعية حول ترشيد استهلاك الطاقة وفرز النفايات والتنقل المستدام.
- التحول الرقمي في الإدارة الحضرية: الذي يستوجب رقمنة الخدمات لتقليل الازدحام والانبعاثات الناتجة عنه، وتوظيف البيانات الضخمة لرسم خرائط استهلاك الموارد وتحديد الأولويات التخطيطية.
ضرورة تبني شهادات الكربون
أبرزت الدراسة أهمية تبني المدن القديمة لنظام شهادات الكربون، الذي يُستعمل لتقييم الأداء البيئي وتوثيق جهود خفض الانبعاثات.
ولفتت إلى أنه من شأن هذه الشهادات أن تسهّل الوصول إلى تمويلات خضراء من المؤسسات الدولية، وتحفّز الجهات الحكومية والخاصة على الاستثمار في البنية التحتية المستدامة.
واستعرضت الدراسة نماذج دولية رائدة مثل مدينة كوبنهاجن، التي نجحت في تقليص انبعاثاتها بنسبة 42% منذ 2005، من خلال التحول إلى النقل الكهربائي وتوسيع الرقعة الخضراء.
وأشارت التقديرات إلى أن إدخال تقنيات ذكية في المدن يمكن أن يقلل الانبعاثات الكربونية بنسبة تصل إلى 30% على المدى البعيد.
توصيات الدراسة
تمخّض عن الدراسة، التي أجرتها الباحثة المصرية الدكتورة فيروز حسن، عدد من التوصيات؛ أبرزها:
- ضرورة وضع خريطة طريق مرحلية لتأهيل المدن القديمة بيئيًا دون اللجوء للهدم الكامل.
- نقل وتكييف التجارب الدولية الناجحة ضمن السياقات المحلية.
- الاستثمار في البنية الرقمية بصفتها ركيزة لأي تحول ذكي.
- دمج مفاهيم الاستدامة والمدن الذكية في التعليم المدرسي والجامعي.
- اعتماد نموذج "المباني المرنة" القابلة للتحديث بدلًا من الإزالة.
- تعزيز التعاون الدولي لتوفير التمويل والخبرة للدول النامية.
وأكدت الدراسة أن خفض الانبعاثات في المدن القديمة لم يعد خيارًا مؤجلًا، بل هو ضرورة عاجلة تفرضها التغيرات المناخية.
ولفتت إلى أنه يمكن لتلك المدن أن تعيد تشكيل هويتها الحضرية، وتتحول من عبء بيئي إلى نموذج رائد في الاستدامة والابتكار ومن خلال تبني أدوات التحول الذكي.
وأشارت الدراسة إلى أن هذا التحدي يحمل في طياته فرصة تاريخية لإطلاق جيل جديد من المدن القادرة على مواجهة المستقبل بذكاء ومرونة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
