كانت إسرائيل تعرف ماذا يقع بغزة منذ أن اختار أهلُها “حماس” في آخر انتخابات. “حماس” التي كانت تتوقع عودة الإسرائيليين إلى القطاع، فأعدت العدة بشكل كامل، سلح الفلسطينيون أنفسهم عاما بعد عام، وحفروا الخنادق والأنفاق، وفتحوا الأرض من أسفل مع سيناء، دونك التكوين والتدريب على الحرب والمقاومة. لكن كيف تستطيع إسرائيل منع تعاظم قوتهم؟ وهي تتابع ما يقع هناك بالنقطة والفاصلة؟ لا يمكنها أن تجتاح قطاع غزة هكذا دون عذر أو مبرر. طوفان الأقصى هو أحسن ما تتذرع به لإعادة التحكم في عش الزنابير هذا، وكان لها ما كان.
ليس هناك عاقل فلسطيني يفكر في الهجوم على الإسرائيليين انطلاقا من غلاف غزة ومحيطه، فيقتل ويأسر ثم ينتظر. ماذا يمكن أن يتحقق بهذا الطوفان؟ استرجاع الكرامة؟ تحقيق الشهامة؟ النفخ في نار القومية المنطفئة؟ وقف التطبيع؟ الانتقام من اليهود؟ الانتقام بأي ثمن؟ 50000 جثة أو 60000 أو 100000؟ لا يهم، القطاع غاص بالبشر، ولن ينقرض الشهداء غدا.
من شجع الفلسطينيين على هذه العملية الانتحارية الواسعة؟ من غرر بهم؟ مِن المؤكد أن القرار لم يكن فلسطينيا وإلا كانت الضفة الغربية تدعمه وتنخرط فيه.
ثم توالت الأحداث، فبدأت رؤوس الفلسطينيين تسقط، وتبعتها رؤوس حزب الله، وإيران تتفرج، حتى كلت أدرع الشيعة في غزة ولبنان، وكان قد وقع ما وقع بسوريا، التي هرب منها رأس الشيعة العلويين لاجئا إلى روسيا. لماذا تحولت خارطة الشرق الأوسط بهذه السرعة؟ ماذا دار بين إيران وأمريكا وإسرائيل؟
بدأت حرب الصواريخ بين إيران وإسرائيل، والتي كانت عبارة عن شهب اصطناعية متعة للناظرين، ثم بعد مدة، انطلقت حرب أخرى حقيقية، أكثر قساوة على الجانب الإيراني، لأن إسرائيل دمرت الكثير من البنيات الصناعية النووية والمعاقل العسكرية، كما قطفت رؤوس علماء وقواد كبار في الحرس الثوري.
وفجأة جاء ترامب بقنابله المخترقة للتحصينات، ففجر ثلاثة مواقع للتخصيب ثم تراجع إلى الظل. ثم أطل علينا كما اعتاد أن يفاجئنا، ليعلن حلول السلام وإعلان وقف إطلاق النار. ما هذا العبث؟
المنطق يقول إن فرصة إسرائيل التي لا تتكرر هي ضرب إيران بالصواريخ والقصف الجوي أطول مدة ممكنة، شهر، شهران، ثلاثة، حتى تنفذ صواريخها الباليستية، فلا يتبقى لها إلا المسيّرات التي تتقن إنتاجها بكثرة ورخص ثمن، وهي أسلحة غير قادرة على تغيير مسار الحرب.
الذي يبدو واضحا هو تدخل ترامب لإنقاذ النظام الإيراني بموافقة إسرائيل، وهذا الواضح يخفي غامضا خطيرا، لا يقل خطورة عن كون طوفان الأقصى وما بعده مجرد مسرحية دموية تؤدي إلى نتائج مقبولة من طرف الجميع.
مهزلة ضرب القاعدة الأمريكية بقطر تقربنا من هذا الاحتمال. لأن الرئيس الأمريكي أخلى الكثير من المواقع الخليجية من الأمريكيين إلا قاعدة العديْد، وكأنه كان متأكدا أنها لن يصيبها ضرر، ولا خطر على الأمريكيين بها. ثم هل يعقل أن تضرب إيران أحد أحب حلفائها في الشرق الأوسط، قطر؟ واستكمالا للمسرحية تقوم قطر باستدعاء السفير الإيراني.
حين يريد الغرب تعديل خريطة الشرق الأوسط فإنه يضع لها بعض السيناريوهات، التي نادرا ما تكون منطقية. من أغرى صدام بخوض الحرب ضد إيران ثمان سنوات؟ من شجعه على احتلال الكويت؟ وهو يزدرد الطعم دون أن يدري؟ من اتهم العراق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل فتم تدمير نظام السنة بالكامل وتحويله إلى يد الشيعة؟
من خلق طالبان وبعدها القاعدة؟ من دمر أبراج أمريكا والبنتاغون لتكون حجة لبوش الابن؟ بل نرجع إلى 1917 فنتساءل، من وعد اليهود بوطن قومي؟ ومن رتب “أعمال المقاومة” اليهودية ضد البريطانيين حتى “انتزع” اليهود الاستقلال والاعتراف سنة 1948؟ أليس كل ذلك مسرحية تمسح التاريخ الحقيقي؟ إنه تخطيط غربي لإقامةِ توازنِ قُوَى في هذا الشرق الأوسط، حتى لا تتعاظم أي قوة هناك، سنية كانت أم مسلمة، ثورية يسارية أو قومية أو ما شاءت أن تكون.
أخاف أن يكون تهويل إسرائيل من خطر القنبلة النووية الإيرانية مجرد فصل أول من فصول هذه المسرحية السوريالية التي لا تنتهي.