عندمَا تخَطيتُ السّور الخارجي لجامع صغير بدون مئذنة، ولجتُ أبواب “الْمْسِيدْ” لأوّل مرّة في “أيْلَة” قريتي بأريَاف تاونات، وأنا بعدُ صغير السنّ. جلستُ القُرفصَاء، وكنّا متعوّدين على ذلك في قُرَانَا. بادَرني عمّي السّي عبد الرّحمن، رحمه الله، فقيهُ المسجد وإمامُه بالسّؤال:
– ما اسمُك؟ وما اسمُ أبيك؟
أسئلة لم تكن مُتوقّعة، ولكنه فعل ذلك أُسْوَةً بباقي أطفال القرية، كأنه ليس عمّي، وليس قريبي أو ينتمي إلى عائلتي، وكأنه ليس أخًا لأبي. ربّما فعل ذلك لإبعاد شبهة ما وإثبات نزاهته، وإظهار موضوعية كاملة في التعامل مع المُلتحقين من الصّبيان الجُدُد. جَحظت عينيّ من الدّهشة، لأنّني كنت أنتظر منه كل الأسئلة، إلا أن يسألني عن اسمي واسم أبي. لم أكن أتوقع منه في الحقيقة مثل هذه الأسئلة، ويتصرّف معي مثل غريب، وأن يتعامل معي بهذه الحيادية “النّاشفة”. لم أستسغ أن يتعامل فقيه المسجد، الذي هو عمّي، معي بتلك الطريقة، وأنا ابن أخيه. تصرّف معي كأنه يراني لأول مرة في حياته، وأنا بالكاد تناولت ُ”المْسْمّْن” و”خْرِينْكو” مع “غَلّاي دَاتَايْ” بالشّيبة، والقهوة بالحليب في الصباح مع أولاده بدار جدّي، حيث نسكن معًا.
يا للعَجب، تلعثم لساني بداية، ولكنني سرعان ما استرجعت أنفاسي، ولأنني أيضًا كنتُ واثقًا من نفسي، قدمت له بسرعة كل جواباتي. ومع ذلك، بدأت أسمع دقات قلبي وأعدُّها عدًّا، كما لو أن قلبي اشتغل لتوّه أول مرّة منذ أن خُلقت. وضع الفقيه، الذي هو عمّي، القلم في “الدّْوَايَة” ومسح ما فاض من قطرات “السّْمَاغْ” في شعري الأسود. بَسْمَل وحَمْدَل، وخَط بقلمه القصبيّ، المُمَيّز عن باقي الأقلام، كلمات باللون البُنيّ الغامق على لوحيَ الخشبيّ. ثم قال لي بصوته الجَهوَريّ:
– اقرأ باسم ربك الذي خلق، إدريس بن عمر، هذا هو اسمك، احفظه جيدا، إيّاك أن تنساه بعد اليوم…!!
كان الولد في زمَاننا يُلصق عادة باسم أبيه، وفي حالات قليلة، لم يكن لها من تفسير موضوعي أو علمي وأنثروبولوجي، يُلصق باسم أمّه. لم أكن أعرف لسذاجتي أو صغر سنّي أنّ أسئلته، كانت تمهيدا وإشارة مُبطنة إلى أن رجليّ لن تنجوا من “الفَلقة” مثل أرجُل كلّ أقراني، ولن تكونا في مأمَن بعد اليوم من عصًا السَّفرجل المُمَدّد كالثعبان إلى جانبه على “هَيْدُورَة” الصّوف المُرَقّطة بالأبيض والأسود. استرجعت اللحظات من الذّيل بعد ذلك، ولم أدرك حقيقة الأمر إلا مُتأخرًا.
في أحيان كثيرة، كانت يُسراه ويُمناه وعصاه أشدُّ وطأة وإيلامًا على رجليّ من الأطفال الآخرين، حتى أنني كرهت أن يكون السّي عبد الرحمن عمّي رحمه الله. لم أكن أتصوّره خارج الكتاب بتلك القسوة، ولو أن نيّته كانت صادقة لوجه الله تعالى، وخالصة صافية في تعليمي، وأنّ حرصه كان شديدا على تحفيظي سورًا من القرآن الكريم قبل التحاقي بالمدرسة، ولم تكن بعيدة عن الدوّار.
خارج أسوار الكتّاب، كانت شرذمة قليلة تناديني باسمي الحقيقي “إدريس” أو مقرُونًا باسم أبي “عُمر” رحمه الله. البنات وبعض نساء القرية تنادينني بلقب “الرّومي” في أيلة، إما شماتة ونكاية بي أو لإغاظتي، وفي أحيان أخرى للبسط والمزاح معي. كما كانت تُستعمل في لحظات غضب عابر للوشاية أو تقديم شكاية بي لأبي رحمه الله ضدّي، عندما يصدر منّي تصرُّف طائش، كأن أسرق العنب من دالية محروسة في ظلام الليل، أقتل ديكًا أو دجاجة برَمية حَجر مُميتة في الصباح أو أدوس برجليّ عنوة في الطريق على كتكوت صغير. كنت طائشًا متهوّرا ومُنحرفًا صغيرًا، ولذلك كثيرًا ما كنت أسمع جُملا نابيَة في حقّي، من قبيل: “هاد الفَعلة ما يقدر عليها غير الرّومي…”. وفي أحيان أخرى، يكون الكلام باللمز والغمز من أجل تصفية حسابات غرامية قديمة مع أهل فتاة في الدوّار، خوفا من ردود أفعالي الغاضبة والمُدمرة أحيانا، أعمد حينها إلى تدمير خُمّ الدّجاج أو نسف قنّ من أقنان الجيران أو أعيثُ فسادا وإفسادًا في أحواض الفلفل والطماطم والخضر، ولم أكن أميّز بين عرصات الدوّار في لحظات الغضب .
وكم كنت أسمع في لحظات كثيرة أصواتا تناديني بـ:”الرّومي” من فوق سطوح المنازل أو في غابات الزيتون والبَطم والأودية المُقفرة صيفًا. وفي أحيان أخرى، من وراء ستار أو زارب شوكيّ يحمي عرصة. كان أصحاب هذه الأصوات المزعجة كثيرا ما يختفون كالعفاريت خوفا من رُدود أفعالي، وأبقى حائرًا يمتلكني الغضب، وأغلي كما يغلي المِرجل حين لا أرى منهم أحدًا. فيما بعدُ، وقد كبرت قليلا، علمت من أمّي رحمها الله أن اللقب ليس مَسبّة ولا عيبًا أو مَنقصَة، ولذلك استأنست به تدريجيًّا، وتآلفت مَسامع أذنيّ معه. ولم أشعر، بعد ذلك في يوم من الأيام، أنه ضايق مسامعي. ولكن ما كان يُضايقني أكثر، هو أنني لم أكن أجد جوابا شافيًا أو تبريرًا موضوعيًّا أقدّمه، حين يسألني أساتذتي بعد التحاقي بالمدرسة عن معناه أو أصله وفصله.
لم تكن عينيّ خضراوين ولا زرقاوين كالنّصارى، وهذا ما كان يربكني، ولا شعري أصفر اللون ولا أشقره مثل الإسكندنافيّين. ولما سألت كبار الناس وشيوخهم لاحقا، وقد وَعيت قليلا، تعدّدت أسباب التّسمية والمُسبّبات أمامي. لم أجد لهذا اللقب فيّ علامة، ولم أعرف حتى الآن من هو العفريت الذي كان وراء “تلقيبي” بذلك اللقب الأعجمي والغريب على ثقافتنا العربية والإسلامية. فيما بعد، وقد أصبحنا صديقين أنا وهو، بات كل واحد ينسبُه إلى نفسه. هكذا كثُرَت الأنسابُ، وتفرّق أصله بين العشائر والأقران في دروب “أيلة” ومسالكها.
هكذا وجدت نفسي مُرغمًا على حمل لقب غريب عنّي، لم أعرف كيف اهتدى إليه الشياطين من أصحابي، ولا من أين جاؤوا به. كان أغلبهم أطفالا قضوا أنصاف أعمارهم مثلي حُفاة، مُنغلقين على أنفسهم في قرية شبه منسية في جبال الرّيف، مُنعزلين عن منظومة إنسانية تعّجّ بالعرب والعجم، وفي كون فسيح يسكنه خليط من الأجناس والأعراق والقوميات من المحيط إلى المحيط.
الغريب في الأمر، أنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن طباع الرّوم في قريتي “أيلة” ولا أشكالهم، ولا كنت أنا روميّ الملامح والصّفات، ولا أحمل منهم أيّ صفة أو علامة، فلا أنا كنت أشقر الشعر ولا أزرق العينين، ومع ذلك اختاروا لي أن أحمل لقب “الرّومي”. وكنتُ بدوري مُجبرًا على حمله طوعًا أو كرها، ولو أنّني تحمّلت في البداية أعباءه وتبعاته بكل سلبياتها وإيجابياتها. وخصوصا في البدايات، لم أكن أعرف إن كان يحمل بين طياته شميلة وفضيلة أو شتيمة ونقيصة.
وحدث في إحدى المرّات، أنّ أحد جيراننا من الشباب المُلتحقين للعمل عند الرّوم ب”الكونطرادا”، كان يحكي عن طريفة حصلت له مع مُشغّله هناك. وكان هذا الشاب من الجيل الأول الذي هاجر إلى فرنسا في منتصف السّبعينيات من القرن الماضي، وكنا نسمّي الفرنساويّين في الدّوّار عادة بـ”النّصراني” أو “الرّومي”. جاءت أمه متأخرة، ولم تلتقط من القصة سوى الرّومي. قالت له ببراءة الأوّلين، ولم تعلم بكل ما حصل من الحكاية: “هاد الشي كامل خرج من إدريس دْعْمَار..؟!” اعتقدت المسكينة أن “الرّومي” الذي يحكي عنه ابنها هو “الرّومي” الذي يُجاورهم في السكن، وليس المُشغّل الفرنسي لابنها في ديار المهجر. ضحكنا معًا ببراءة أهل القرى، وأوضح لها ابنها أنه يتحدث عن النصراني الفرنسي في أفنيون، وليس عن الرّومي التاوناتي في أيلة.
لم يكن يجرؤ أحد من الأطفال في القرية على شيئين: الهرُوب من قدره أو النجاة من حمل لقب في صغره، اختاره له أقرانه من الأطفال أو المحيطين به. ولم تكن لنا خيارات كثيرة في حياتنا، ألقاب عديدة سادت بيننا في “المْسِيد” والمدرسة، ثم بادَت وانقرضت حين كبرنا، وانصرف كل واحد إلى مساره في دنياه. كل واحد انحاز إلى طريق قدره، رُسم له أو اختاره عن قصد وطار إلى جهة معلومة أو مجهولة. كل أطفال القرية كانوا يحملون معهم ألقابًا غصبًا عنهم، تُصاحبهم رغم أنفهم طيلة فترة عمرية تطول أو تقصر. هذه الألقاب كانت ترتبط عادة بالصحة، الطول، القصر أو الشكل، وقد ترجع أصولها إلى نسب العائلة أو صفة وعيب خُلقي في الطفل، الأبُ أو الأمّ، الجدّ أو الجدّة.
لم يسلم أحد من لقب كُنّيَ به إلى جانب اسمه العائلي، ولم تكن لنا في الحقيقة أسماء عائلية، كان الجميع متساويا أمام لا زمة “بن”، وكنت أنا مثلهم وواحد منهم: إدريس بن عمر، قبل أن يلصق بي لقب “الرّومي”. ولم يكن هذا “الرّومي”، هو اللقب الوحيد الذي حملته في سنوات صبايَ ومُراهقتي، كل مرحلة عُمرية أو دراسية كانت لها خصائصها وألقابها، ولكنه اللقب الوحيد الذي صمَد من بين كل تلك الألقاب التي توشّحتُ بحملها في طفولتي، وفي مراهقتي أمام التحوُّلات العُمرية والمراحل الدراسية. وهو الذي قاوم دون سواه أعاصير الزمان وصعوبته التي عشناها، وتعايشنا معها رغم أنوفنا. وحين كبُرت، نسيتُه كما نسيَه الجميع. لكن، وأنا أنبش بين ملفاتي القديمة، استرجعت ملامح طفل صغير كنتُه، وإذا بي أجد “أوراق الرّومي المَنسية” مدفونا بين دفاتري القديمة…!!