أخبار عاجلة
11 يوليو.. هاني شاكر يحيي حفل غنائي في بيروت -

تفكيك سردية الأمير مولاي هشام.. أين تبدأ وتنتهي ثورات العالم العربي؟

تفكيك سردية الأمير مولاي هشام.. أين تبدأ وتنتهي ثورات العالم العربي؟
تفكيك سردية الأمير مولاي هشام.. أين تبدأ وتنتهي ثورات العالم العربي؟

في مقاله الأخير بمجلة “لوموند ديبلوماتيك” (يونيو 2025)، يرسم الأمير مولاي هشام بن عبد الله العلوي لوحة كثيفة التحولات، تبدأ من سقوط النظام السوري وتراجع النفوذ الإيراني، ولا تنتهي إلا في حدود ما يشبه “نبوءة سياسية” بعودة وشيكة للموجات الثورية التي اجتاحت العالم العربي قبل أكثر من عقد. يعتمد الأمير على مسار استقرائي يبدو للوهلة الأولى متماسكًا، لكنه يعيد تفعيل مقولات قديمة حول شروط التغيير الثوري وممكناته في السياق العربي، متغافلًا تحولات الواقع العميقة.

لقد سبق للأمير، وتحديدًا في مقال نُشر سنة 2013، أن أطلق تصورًا حول ما سمّاه “ثورة الكمّون”؛ وهي ثورة افتراضية تنضج ببطء في العمق الشعبي لتتفجر في فبراير 2018 ضد البُنى التقليدية للسلطة. في هذا المخيال، راهن الأمير على تحالف بين جماعة العدل والإحسان المحظورة واليسار الراديكالي، بوصفه القوة القادرة على إعادة تشكيل المشهد السياسي المغربي.

لكن هذا الطرح، وإن سُوِّق على أنه استشراف، بقي أقرب إلى خيال سياسي منفصل عن الشروط الفعلية للتغيير. فالمراهنة على قوى تقع خارج الإطار الدستوري والقانوني، وتفتقر إلى امتداد اجتماعي ومشروعية وطنية، لا تُنتج تحولًا بقدر ما تفتح الباب أمام فوضى غير محسوبة. كما أن اعتماد منطق القفزة الثورية يتجاهل تمامًا مطلب النضج المؤسساتي، والتراكم السياسي، والتوافق الوطني، بوصفها شروطًا لا يمكن الاستغناء عنها لبناء انتقال حقيقي.

والمفارقة أن كون الأمير ابن عم الملك محمد السادس وحفيد رياض الصلح لا يمنحه، من حيث المبدأ، سلطة رمزية تؤهله للحديث باسم شعوب ومجتمعات لم يعد يعيش داخلها، خصوصًا حين تُطرح رؤاه من موقع خارجي منفصل عن نسق الدولة ومزاج المجتمع. فالأمير، المقيم منذ عقود في الولايات المتحدة، لا يشارك تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية اليومية في بلاده إلا عبر الإعلام الأجنبي ومواقع التواصل، وانشغالاته ترتبط أكثر بالمجال الأكاديمي والاستثماري داخل فضاء نخبوي غربي. وهو موقع، وإن وفّر له هامشًا واسعًا من حرية التعبير، فقد راكم في الوقت نفسه مسافة عن الواقع العربي والمغربي، بما يجعله عرضة لانفصال تدريجي عن نبض المجتمعات التي يكتب باسمها.

المنطقة العربية اليوم ليست على شفا لحظة ثورية، بل تمر بمرحلة إعادة تموضع تاريخي طويل. تتقاطع فيها اعتبارات الهوية والأمن والتنمية والسيادة الوطنية، ولا تُحركها العواطف السياسية وحدها. الشعوب التي خرجت بالملايين سنة 2011 ليست هي نفسها اليوم. تجربة العقد المنصرم علمتها أن الكرامة لا تبني دولة دون مؤسسات، وأن الأمن، رغم تكلفته، ليس نقيضًا للحرية، بل شرط من شروطها.

لقد واجهت الشعوب، كما النخب، اختبارًا وجوديًا قاسيًا، انتهى إلى حقيقة صلبة: لا تغيير بلا أدوات، ولا ديمقراطية بلا تنظيم، ولا إصلاح بلا قدرة على الإمساك بالمؤسسات. لم تُهزم الثورات فقط بالقمع أو المؤامرات، بل أيضًا بخواء البدائل، وانقسام المجتمعات، وهشاشة الفاعلين، وتدخلات خارجية أعادت إنتاج الانقسامات القديمة بعناوين جديدة.

ما لا يراعيه المقال الأخير للأمير مولاي هشام، وهو يربط بين سقوط أنظمة وبوادر تغيير جذري، هو أن الفاعلين الإقليميين – من الخليج إلى تركيا – لم يعودوا يتحركون بدوافع أيديولوجية، بل من منطلقات واقعية قائمة على تحصين الاستقرار الداخلي. ليس كل انهيار لنظام يُنتج مشروعًا تحرريًا، وليس كل احتقان اجتماعي ينتهي بثورة.

صحيح أن النظام السوري يواجه تحديات بنيوية، وأن إيران تعاني من تآكل استراتيجي، وأن إسرائيل تمر بعزلة أخلاقية دولية متزايدة، وأن الغرب لم يعد يملك مفاتيح التوجيه كما في السابق. لكن، في المقابل، تصعد في عدد من الدول العربية نماذج حكم جديدة: أكثر مرونة، وأشد قدرة على التكيّف، تتقن لغة التنمية والرقمنة، وتُحسن استخدام الخطاب الوطني، دون أن تتخلى عن أدوات الضبط والاستقرار. لا تلبي هذه الأنظمة كل المطالب، لكنها تُديرها ضمن منطق توازني واقعي، بعيدًا عن الفوضى.

السردية التي يتبناها الأمير، والتي يقدم من خلالها دروسًا في الحُكم والحكامة للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، ترى أن سقوط محور المقاومة أو تراجع إيران وسوريا سيفتح الباب لموجة تحررية. لكنها تتجاهل أن السلطوية في العالم العربي ليست مجرد امتداد لمحاور إقليمية، بل هي نتاج لتوازنات داخلية مركبة: من تحالف الثروة والسلطة، إلى هشاشة الطبقات الوسطى، إلى ثقافة سياسية تُمجّد الاستقرار حتى وإن كان مكلفًا.

وكما أشار عبد الله العروي في الإيديولوجيا العربية المعاصرة (1967)، فإن الاستبداد ليس فقط في الحاكم، بل “في الفكر الذي يبرّره، وفي الثقافة التي تُنتج خضوعًا تلقائيًا باسم الدين أو العرف”. ويتقاطع ذلك مع ما أكّده محمد عابد الجابري في الديمقراطية وحقوق الإنسان (1994)، حين قال إن “الاستبداد متجذر في العلاقة المركبة بين الدولة والمجتمع، وفي بنية الثقافة السياسية نفسها”.

إن ما تحتاجه المنطقة ليس ثورات جديدة، بل مشروعًا جديدًا للدولة: مشروع لا يُراهن على الفوضى، بل على التغيير الهادئ، المتدرج، العميق. مشروع يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، لا عبر الصدام، بل عبر الثقة والمساءلة والفعالية. مشروع يبدأ ببناء المؤسسات، لا بإسقاط الرموز، ويُدشّن إصلاحًا طويل النفس، لا انتفاضات قصيرة الأمد.

إن سردية الأمير، في نسختها الأخيرة، تُعيد إنتاج خطاب فقد اليوم قدرته على الإقناع، لأنها تتجاهل المعطى الأهم: ما هو التغيير أصلًا الذي تطمح إليه الشعوب العربية؟ هل هو إسقاط النظام؟ أم هو تغيير يُعيد الاعتبار للتنمية، والعدالة، ومحاربة الفساد، والحكامة الرشيدة؟

لقد أثبتت التجربة أن أغلب الشعوب لم تخرج في الأصل مطالبة بإسقاط الدولة، بل بإصلاحها من الداخل. طالبت بالكرامة لا بالقطيعة، وبالعدالة لا بالفوضى. لكنها حين وُوجهت بالتجاهل أو بالقمع، انزلقت المطالب نحو أقصى التعبيرات. ولذلك، فالتغيير، حين يأتي، لن يُفرض من نداءات الخارج، بل سيتشكل من داخل المجتمعات ذاتها، حين تملك أدواتها، وتستعيد وحدتها، وتصوغ طموحها السياسي والتنموي من واقعها، لا من حلمٍ معلّق في الفراغ.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق وفاة شاب إثر انقلاب دراجته البخارية ببني سويف
التالى مسلسلات الصيف 2025: ثلاثية مشتعلة بين الواقع والخيال والصراع الشعبي