مع التصعيد المحتدم بين إيران وإسرائيل انبثقت مفاجأة دبلوماسية مدوّية بعد توجيه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، دعوة صريحة لروسيا لتضطلع بدور الوسيط في هذا النزاع المتشابك. دعوة كهذه لا يمكن قراءتها بمعزل عن تحولات عميقة في مزاج الإستراتيجيات الدولية، إذ تنم عن رغبة دفينة لدى صانع القرار الأمريكي في إعادة ترسيم هندسة التحالفات الكبرى، واستنهاض قنوات التواصل مع موسكو بعد أعوام من البرود الجيوسياسي والتنافر الحاد.
أما التقارب المفترض بين القوتين فيُفصح عن لحظة انعطاف محتملة في خرائط الهيمنة الدولية؛ لحظة قد تُعيد صياغة موازين التأثير من جديد بين ضفتي العالم. فواشنطن، في سعيها إلى استعادة المبادرة، تقابلها موسكو بمسعى موازٍ لتأهيل ذاتها كقوة مرجعية في معادلات التفاوض الدولية، موقظة طموحها الإمبراطوري من سباته.
ويرى مراقبون أن تجسّد هذا التقارب على أرض الواقع من شأنه أن يُعيد رسم معالم النظام الدولي وفق أولويات جديدة للقوى الكبرى؛ فبينما تميل الولايات المتحدة إلى التخفف من أعباء انخراطها المباشر في بؤر التوتر تسعى روسيا إلى استعادة موقعها كقوة توازن لا غنى عنها في صوغ تسويات النزاعات المركّبة. وإذا ما تأكد هذا التحول فإن العالم سيكون أمام مشهد دولي جديد تُحرّكه مقاربات “البراغماتية التفاوضية” بدلًا من ثنائيات الاستقطاب الحاد، وهو ما قد يفتح المجال لتليين مواقف بعض الفاعلين الدوليين من قضايا إقليمية معقدة، لطالما خضعت لمعادلات جامدة.
في هذا الأفق المتحول يطل المغرب كأحد الفاعلين الإقليميين الذين راكموا زخمًا دبلوماسيًا لافتًا خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء سنة 2020، واتساع دائرة التأييد لمبادرة الحكم الذاتي في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. وإذ تظل موسكو، رغم روابطها التاريخية بالرباط، مترددة في اتخاذ موقف صريح من النزاع، فإن أي تبدل مرتقب في تموضعها الجيوسياسي، بفعل تقارب محتمل مع واشنطن، قد يتيح للمغرب نافذة إستراتيجية لإعادة تموقعه ضمن منظومة التحالفات الكبرى، مستندًا إلى براغماتية واقعية تؤمن بتدوير الزوايا.
تتخطّى الرهانات الجارية مجرد السعي إلى الوساطة في نزاع إقليمي محدود، لتُلامس عمق التحولات الممكنة في بنية المواقف الدولية إزاء قضايا السيادة. وإذا ما تحقق التقارب الأمريكي الروسي، حتى وإن اتخذ طابعًا ظرفيًا أو براغماتيًا، فقد نشهد تحوّلًا في منهجية تعاطي مجلس الأمن مع الملفات الخلافية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية. ذلك أن تضاؤل الفجوة التقليدية بين موقفي موسكو وواشنطن من شأنه أن يُربك تموقع القوى المناوئة للمغرب داخل المنتظم الأممي، ويفتح للرباط أفقًا تفاوضيًا أكثر مرونة.
تحوّل محتمل
يرى حسن الإدريسي، الباحث في قسم العلاقات الدولية بجامعة ابن زهر، أن دعوة دونالد ترامب فلاديمير بوتين للعب دور الوسيط في النزاع الإيراني الإسرائيلي لا تندرج فحسب في إطار المناورة الدبلوماسية، بل تعبّر عن توجه أعمق لإعادة ضبط موازين القوة الخارجية في مواجهة التوجهات السائدة في البيت الأبيض، ويؤكد أن هذا المعطى يفرض على المغرب يقظة إستراتيجية، إذ إن أي تقارب محتمل بين موسكو وواشنطن قد يُعيد تشكيل ديناميات التفاوض داخل مجلس الأمن، ولاسيما في ما يتعلّق بملف الصحراء المغربية، حيث يشكّل الطرفان ركيزتين أساسيتين في هندسة القرارات الأممية.
ويورد الإدريسي، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الرباط راكمت من التجربة والرصيد الدبلوماسي ما يؤهلها للتعامل بمرونة مع التحولات المتسارعة في توازنات القوى العالمية، خاصة تلك التي تُعيد رسم خريطة النفوذ الدولي، ويعتبر أن نجاح المغرب في استثمار هذا التقارب المحتمل بين موسكو وواشنطن مشروط بقدرته على تعميق حضوره داخل دوائر القرار في العواصم الغربية والشرقية على حدّ سواء، وبتفعيل قنوات تواصل غير مباشرة مع روسيا تتيح بناء تفاهمات مرنة حول ملف الصحراء المغربية، بعيدًا عن منطق الحرب الباردة والانحيازات العقائدية.
ويتابع المتحدث ذاته بأن من مصلحة المغرب أن يتابع بحذر هذا التحول في المزاج الجيوسياسي، ولاسيما أن تغير ميزان الاصطفافات داخل مجلس الأمن قد يمنحه هامشًا أوسع للتحرك، بعيدًا عن ثنائية التأييد والفيتو، ويرى أن الرباط مطالبة اليوم بتعزيز مسارات التواصل مع العواصم المؤثرة، بما فيها موسكو، ليس من باب المجازفة، بل من موقع البراغماتية التي راكمتها في العقد الأخير.
تحالفات متبدّلة
تعتبر سناء القاسمي، رئيسة شعبة العلوم السياسية بالجامعة الأورومتوسطية بفاس، أن دعوة ترامب بوتين إلى تأدية دور الوسيط لا تعكس فقط تحوّلاً داخلياً في المشهد السياسي الأمريكي، بل تفتح أفقاً جديداً لتشكيل محاور بديلة في النظام الدولي، تتجاوز الانقسامات التقليدية بين الشرق والغرب، وتوضح أن مثل هذا التحول، وإن بدا ظرفياً في طبيعته، فإنه يحمل دلالات قوية حول استعداد القوى الكبرى لتجاوز الخطوط الحمراء التاريخية من أجل حفظ التوازنات الإستراتيجية؛ وفي هذا السياق ترى أن المغرب قد يجد في هذه اللحظة فرصة لتعزيز مقاربته الواقعية القائمة على التعددية والانفتاح، خصوصاً في ظل حاجة موسكو وواشنطن معاً إلى شركاء إقليميين موثوقين في شمال إفريقيا.
وتؤكد القاسمي، في تصريحها لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الرباط لطالما انتهجت سياسة خارجية مرنة، تُوازن بين تعدد الأقطاب وتقاطعات المصالح، وهو ما يضعها اليوم في موقع متميّز لاستثمار أي تقارب محتمل بين موسكو وواشنطن، وتشير إلى أن المغرب، بحكم تراكمه في مجال الوساطات الإقليمية وموقعه الريادي داخل القارة الإفريقية، قادر على الدفع نحو تجاوز القراءة التقنية لملف الصحراء، باتجاه مقاربة أكثر واقعية تُراعي الاعتبارات الأمنية والتنموية، وتخلص إلى أن الظرفية الحالية تقتضي من الدبلوماسية المغربية يقظة إستراتيجية واستثمارًا متبصرًا لهذا التحول، في سبيل تعزيز الحضور داخل مجلس الأمن وتقليص هامش المناورة لدى الأطراف المناوئة.