مع كل موسم امتحانات للباكالوريا تعود إلى السطح فضائح الغش التي تتخذ أشكالًا متجددة ومبتكرة، وتعود معه نقاشات محمومة حول انهيار الأخلاق وتردي مستوى التلاميذ الذين صاروا يعتبرون الغش حقًا مكتسبًا، والمعلم المراقب الذي يؤدي واجبه عدوًا يستحق العقاب والتنكيل.
لكن هذه النقاشات الموسمية المتكررة تغفل عن حقيقة جوهرية مربكة: أننا نشجب العَرَض الصاخب الذي يلفت الأنظار، ونتعامى عن المرض العميق والمستتر الذي أنتجه، بل ونرفض حتى مجرد التفكير في تشخيصه.
إن هذا الإصرار على البقاء في دائرة إدانة السلوك الأخلاقي للتلاميذ، دون النظر إلى البنية النظامية التي تنتج هذا السلوك وتغذيه، هو في حد ذاته آلية دفاعية يلجأ إليها المجتمع لتجنب مواجهة الأسئلة الحقيقية حول طبيعة نظامه التعليمي ووظيفته الفعلية. إنه نوع من الرقابة الذاتية الجماعية التي تحرص على إبقاء النقاش في المنطقة الآمنة للأخلاق الفردية، بعيدًا عن المنطقة الخطيرة للنقد المؤسسي والبنيوي.
إن حل ظاهرة الغش، في جوهره، قد يكون أبسط مما نتخيل: السماح بالاستعانة بالمراجع والكتب خلال الامتحانات. بعبارة أخرى، الانتقال الجذري من امتحان الذاكرة إلى امتحان الذكاء. أن يتحول الاختبار من مجرد قياس القدرة على الحفظ والاسترجاع الآلي، إلى تقييم حقيقي لمهارات الفهم النقدي، والتحليل، والبحث المنهجي، والربط الذكي بين المعطيات المختلفة، وبناء التركيبات الفكرية الجديدة.
عندها، وفقط عندها، يفقد الغش معناه ووظيفته، فكيف يمكن أن تغش في امتحان لا يطلب منك تكرار ما تحفظ من نصوص ومعلومات جاهزة، بل يطلب منك بناء استنتاج أصيل لم يُكتب في أي مرجع؟ كيف تنسخ حلًا لمسألة تتطلب منك أن تفكر بطريقة شخصية في أوضاع ومعطيات محددة؟
لكن هذا الحل، على بساطته الواضحة وعدم حاجته إلى موارد مالية ضخمة أو تقنيات معقدة، يكاد يكون مستحيل التطبيق.
إن فهم استحالة هذا الإصلاح البسيط يتطلب رؤية دقيقة للوظيفة الحقيقية التي تؤديها المؤسسة التعليمية في النظام الاجتماعي الحديث. فهذه الأنظمة التعليمية لم تُصمم، في معظمها وفي جوهرها التاريخي، لتخريج عقول قادرة على التفكير الحر والنقدي المستقل، بل تأسست أصلًا على منطق التلقين والتحفيظ المنهجيين. الامتحانات فيها ليست سوى مقياس تقني لمدى نجاح الطالب في تخزين المعلومات والصيغ والنصوص مؤقتًا في ذاكرته قصيرة المدى، تمهيدًا لتفريغها آليًا على ورقة الإجابة في لحظة الامتحان، ثم نسيانها بالكامل فور مغادرة قاعة الاختبار وانتهاء مهمة الأداء المطلوب.
إن المدرسة، بهذا المنطق، تؤدي في الحقيقة وظيفة اجتماعية وسياسية بالغة الدقة والأهمية في البنية العامة لأنظمة الدولة الحديثة. المدرسة، في حقيقتها، ليست مؤسسة محايدة لنشر المعرفة وتنمية القدرات الفردية، بل هي إحدى أهم وأخطر أدوات الدولة الحديثة لضمان حفظ الوضع القائم واستمراريته عبر الأجيال. إنها الأداة الناعمة والمقنَّعة التي تضمن إعادة إنتاج المجتمع وفق التصور والنموذج الذي تريده السلطة، وتتحكم من خلالها في عملية تشكيل النخب بالعدد المطلوب تمامًا، والمواصفات المحددة مسبقًا، والولاءات المضمونة.
المدرسة في حقيقتها هي أشبه ما تكون بـ مصنع للتعليب يدخل إليه الطلاب كمواد خام متنوعة ومختلفة، بخلفياتهم الاجتماعية المتباينة وقدراتهم الفردية المتمايزة وميولهم الشخصية المتنوعة، ليخضعوا جميعًا لعملية قولبة ومعالجة موحدة ومعيارية، أساسها التلقين المنهجي المدروس الذي يقتل فضول السؤال في مهده، ويُعلي من شأن الجواب الجاهز والمعلب، ويكافئ الامتثال والحفظ على حساب النقد والإبداع.
أمّا المنتج النهائي لهذا المصنع، فهو مجموعات من العُلب المعيارية المتراصة والمتشابهة إلى حد كبير، تحمل كلها ملصقًا واحدًا هو شهادة الباكالوريا (وما بعدها)، وهي جاهزة للاستهلاك المباشر في سوق الشغل، أو لتكملة المسار في قوالب جامعية أخرى لا تختلف كثيرًا في جوهرها ومنطقها عن القوالب التي سبقتها.
ما يهم إدارة المصنع بالدرجة الأولى والأساسية هو سلامة شكل العُلبة الخارجية وتحقيق عدد المنتجات المتوافقة مع الخطة الكمية الموضوعة مسبقًا. أما جودة المحتوى الداخلي، أي مستوى الفهم والمعرفة الفعلية ومهارات التفكير النقدي والإبداعي، فهي مسألة ثانوية، بل وأحيانًا مزعجة. إن المحتوى “الممتاز” الذي يتميز بالقدرة على النقد والتساؤل الجذري ومساءلة المسلمات قد يُعتبر في الواقع عيبًا في الإنتاج أو خللًا في التصنيع، لأنه يهدد بتجاوز المواصفات والحدود المخطط لها مسبقًا.
قد أبدو مبالغا، لكن هذا التصور يعكس واقعًا ملموسًا يمكن ملاحظته في كل تفاصيل العملية التعليمية: من الطريقة التي تُصاغ بها المناهج وفق قوالب جامدة ومعيارية، إلى نظام التقييم الذي يركز على القياس الكمي أكثر من التطوير النوعي، وصولًا إلى منطق خطوط الإنتاج المدرسية التي تنقل التلاميذ من مرحلة إلى أخرى وفق جدولة زمنية صارمة، بغض النظر عن اختلاف إيقاعات التعلم الفردية واحتياجات كل طالب الخاصة.
في هذا السياق، تكتسب ظاهرة الغش دلالة أعمق وأكثر إثارة للقلق من مجرد كونها انحرافًا أخلاقيًا فرديًا أو تراجعًا في منظومة القيم الاجتماعية. إن تفشي حالات الغش وتدني مستوى التعليم الحقيقي لا يمثلان، من منظور منطق السلطة هذا، أزمة حقيقية تتطلب حلولًا جذرية، بل يشكلان في الواقع جزءًا من الآلية العامة لعمل المصنع ووظيفته الاجتماعية الخفية.
فالغش ما هو إلا وسيلة إضافية ومكملة لضمان نجاح عملية التعليب الشكلي والظاهري للطلاب. طالبٌ لا يملك القدرة أو الاستعداد للحفظ والاستظهار الآلي، يستعين بالغش ليُنتج الإجابة المطلوبة ويحصل على النقاط المحددة، وفي كلتا الحالتين، سواء أكان النجاح عبر الحفظ أم عبر الغش، تكون النتيجة النهائية واحدة: فرد يحمل شهادة تثبت خضوعه للنظام التعليمي ومروره عبر مراحله المختلفة، دون أن يمتلك بالضرورة الأدوات الفكرية والنقدية التي قد تدفعه يومًا ما إلى مساءلة هذا النظام أو التمرد على قواعده الأساسية.
إن مجتمعًا يعتمد أفراده في تحصيلهم على آليتين متكاملتين هما الحفظ الآلي والغش التقني، هو مجتمع يفتقر بطبيعته إلى المهارات النقدية والقدرات التحليلية الحقيقية، وبالتالي هو مجتمع أسهل في القيادة والتوجيه والتحكم. هذا المجتمع سيكون مبرمجًا على قبول التوجيهات دون فحصها، وتصديق المعلومات دون التحقق منها، والامتثال دون مساءلة، وهي بالضبط الخصائص المطلوبة في رعايا الدولة الحديثة في أغلب بقاع العالم، سواء كان النظام مستبدا أو كان ديموقراطيا يدّعي أنه نتيجة لتصويت الأغلبية؛ تلكم الأغلبية التي يسهل توجيهها والتحكم فيها.
قد يبدو هذا المقال وكأنه يصف مؤامرة مدبرة ومخطط لها بعناية من قبل قوى خفية، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا وأعمق جذورًا من نظرية المؤامرة البسيطة. إن ما نواجهه هو منطق طبيعي للأنظمة الاجتماعية والسياسية، التي تميل بطبيعتها إلى الحفاظ على استقرارها واستمراريتها عبر إعادة إنتاج الشروط التي تضمن هذا الاستقرار.
هذا المنطق لا يحتاج إلى تآمر واعٍ أو تخطيط مسبق من قبل أفراد محددين، بل يعمل كآلية تلقائية تفرضها ضرورات النظام وحاجاته البنيوية. السياسيون والتربويون والإداريون الذين يديرون هذا النظام ليسوا بالضرورة مدركين تمامًا للأبعاد العميقة لما يفعلونه، فكثير منهم يعتقدون صادقين أنهم يعملون لصالح التعليم والتقدم والتنمية.
لكن النتيجة النهائية تبقى كما هي، بغض النظر عن النوايا الشخصية: نظام يعيد إنتاج نفسه عبر تشكيل عقول تقبل منطقه وتعمل ضمن حدوده، دون أن تملك الأدوات أو الجرأة للتفكير خارج الصندوق أو تصور بدائل جذرية له. والطريقة الوحيدة لتخطي، وتحدي، ذلك النظام هي عدم دخوله من الأصل.