عندما يتحوّل تحالف أقوى رئيس في العالم وأغنى رجل فيه إلى معركة تغريدات، فإن ما يتهاوى ليس مجرد علاقة براغماتية، بل وَهم أمريكي كبير: أن السيطرة على التكنولوجيا تعني السيطرة على الدولة، وأن النفوذ الشخصي قادر على تجاوز القوانين والمؤسسات.
لم يجمع دونالد ترامب وإيلون ماسك حزبٌ ولا رؤية، بل التقت فيهما فردانية مفرطة وغرور يلامس عنان السماء. كلاهما يرى النظام أداة، والسلطة مشروعًا ذاتيًا لا يلزمه ميثاق ولا مساءلة. التقيا على طموح بلا سقف، وعلى قناعة بأن المنصة أقوى من الدولة، وأن الخوارزمية أسرع من الدستور.
ثمة “اتفاق” غير مكتوب سبق الانتخابات الرئاسية: ماسك يفتح لترامب فضاء “إكس”، وترامب يمنح ماسك مفاتيح النفوذ. تغريدات تُطلق، أموال تُضخ، عقود تُوزّع، ونفوذ يُعاد تشكيله على مقاس الرغبة المشتركة في الهيمنة.
لكن ما يُبنى على المزاج، ينهار عند أول تصادم. ماسك يهاجم خطة ترامب الاقتصادية، يصفها بـ”العار المقزز”، ويلمح إلى ورود اسمه في الملفات الفضائحية للملياردير الراحل جيفري إبستين، المتهم بالاتجار الجنسي.
ترامب يرد بسحب الغطاء، التهديد بإلغاء العقود، والسخرية من مظهر ماسك على الملأ. لا خطوط حمراء بين رجلين لا يعترفان بحدود، ولا مرجعية تحكم هذا الصراع سوى الذات.
النتيجة؟ قلق في الأسواق المالية، ارتباك في دوائر القرار، وصمت ثقيل في وادي السيليكون. تحالف “اليمين التكنولوجي” انسحب بهدوء، كما تفعل الرأسمالية حين تشعر أن أحد أطراف اللعبة بات عبئًا. فالولاء هنا سلعة، والمواقف مؤجلة حتى إشعار آخر.
هذا الانفصال لا يفضح فقط هشاشة التحالف، بل يكشف عن نمط حكم جديد يتشكّل في ظل “الشعبوية الرقمية”: لا مؤسسات، بل إدارة تطبيقات. كل شيء قابل للتعديل، الإلغاء، أو إعادة التشغيل. لا توازن، لا مساءلة. فقط زرّ يتحكم في مصير وطن.
ترامب يرى الدولة امتدادًا لذاته، لا كيانًا عامًا. وماسك، الذي ضخ مئات الملايين في دعم حملاته، اكتشف أن النظام لا يُكافئ الوفاء، بل يُعيد توزيع أوراقه عند أول اختلاف. في هذا المشهد، من يخالف الخوارزمية يُحذف، ومن يطلب الاستقرار يُوصم بالجمود.
وهكذا انتهى التحالف، لا كحادثة شخصية بين أقوى رئيس في العالم وأغنى رجل فيه، بل كعرض مكشوف لانهيار أوسع: انكسار العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتحوّل الدولة إلى تطبيق يُدار من يد المالك، لا من عقل المؤسسات.
في مشهد كهذا، لا تبقى للسياسة وظيفة عامة، ولا للمؤسسات وزن، بل يُعاد تشكيل الحكم وفق منطق السوق، حيث تُسعَّر الولاءات وتُبرمج القرارات، ويُحذف كل من لا ينسجم مع “كود السيطرة”.
إنها لحظة ما بعد الدولة، حين يحكم الخيال الخوارزمي، ويُدار مصير الأمم بلمسة إصبع.