أخبار عاجلة

عيد أضحى "مغاير" بمدينة الريصاني.. تقاليد أصيلة تلازم الإنسان الفيلالي

عيد أضحى "مغاير" بمدينة الريصاني.. تقاليد أصيلة تلازم الإنسان الفيلالي
عيد أضحى "مغاير" بمدينة الريصاني.. تقاليد أصيلة تلازم الإنسان الفيلالي

لا ثغاءَ للأكباش هذا الصباح في مدينة الريصاني. “العيد الكبير” قرر التواري خلف صمت الماشية هذه المرة، كأنه يوم عادي يتنكّر في ثوب الفرح، لتعيش المدينة صبيحةً حارّةً نسبيًا، فتحت فيها المساجد التي تكتظّ خلال صباحات المناسبات المماثلة أبوابها. الساعة السابعة تقترب، وتُقبل معها الأصوات المنبعثة من مكبرات الصوت بالمساجد. تكبيرات العيد تُشعرُ الأذن باقتراب الفضاء؛ فأينما ولّيت وجهك تجد ركنًا تعبديًا يحتضن جوّا مبحوثًا عنه.

العيد بتوقيع مختلف. الأكباش نجت من الذبح بعد الإهابة الملكية بعدم النحر. لكن هسبريس لاحظت أن الإنسان الفيلالي “لم ينجُ من عاداته الثابتة التي أحبّها وترافع عنها” بوصفها “تفرّدًا” داخل المشهد الثقافي الوطني. امتثلت الساكنة للدعوة الملكية والمصلحة الوطنية، وأكدت أنه “لا سكاكين أصغت إلى رقاب الأغنام إلا خلسة أو شبهة”.

“لا شيء يتغير”

تُخبِّئ أزقّة هذه الحاضرة الصغيرة ما تبقّى من تقاليد عميقة. ترى الساكنة، في نقاشاتها هذا الصباح، أن “مهد الدولة العلوية ليس بحاجة إلى الخرفان لتتلمّس العيد الكبير”. “ولقد حلّ، بالنسبة إليها، في صيغة أكثر طرافة”، تعتبر أن “المناسبة طقوس، وصلاة، وتعبّد، وأشياء أخرى يتصرّف فيها كلّ توقيع حسب خصوصيته”. ويشدّد أبناء المدينة على أن “العادات أعادت تمثيل نفسها بعفوية مدهشة، تكرّس تحرّكات الفيلاليين كـ’علامة ثقافية مسجّلة’ لم يُعطّلها تعليق النحر”.

ارتدى الأطفال ملابس جديدة، وحظوا بعيديّتهم كالعادة. النساء تغطَّين بالجلابيب والعبايات والأزرّ السوداء والملوّنة، و”الحايك” و”الملحفة” وقصدن المصلّى. كما لبس الرجال جلابيب الحرير و”الفوقيات” البيضاء والصفراء والزرقاء. لا تواطؤ في الألوان. فاللوحة اكتملت أثناء الصلاة. قدّمت “خليطًا بصريّا” يشبه كلّ المغرب، بيد أنه يتميّز، ترابيّا أو محليّا، بشيء ما: تلاوة فيلالية للقرآن، أدعية محلية… وإقدام أكبر على الآخر. إقدام شجاع لا يؤمن بحدود المعرفة المسبقة.

تتبين هسبريس أثناء مرافقة هؤلاء “البسطاء” كما يطلقون على أنفسهم، أن ثمّة شعورًا سائدًا يكاد يختم كلّ قول: “العيد ليس طقسًا، بل طقوس؛ يُحيّى فيها الغريب ويُقبَّل. يُزار فيها الجار بعد الصلاة لاحتساء الشاي والدفع بالنداء الشهير عند طرق الباب: “مالين الدار!”، فتجيب الأسر: “الله مولاها”. يقابلها الطارق بالقول:

“عواشركم مبروكة!”، فيطرق مسامعه صوت يأتي من الداخل: “الله يحييك لْكُلّْ عام. دخل راه الباب محلول”.

قلة هي الأبواب “المغلقة” صبيحة العيد. وأما في القصور (القرى المحلية المحصنة) فمجمل مداخل بيوتها الطينية مفتوحة. لكن التغيير هذا اليوم أن الدماء لا تغسل الأزقة. الطينية ولا الإسفلتية. لا يحتاج الزائر، الذي يبارك العيد، إلى رفع الجلباب ليخطو بهدوء تفاديًا لتلطيخ الملابس بالدماء السابحة. من الطرائف المحلية أن زائرًا ما يمكن أن يحتسي الشاي في كل البيوت المنتظمة في زقاق واحد. يُقبل ويغادر بـ”لا تكلف أو ادعاء”، وفق الساكنة.

“ذاكرة مشتركة”

بعد الصلاة تتسابق الأيادي للمصافحة، وتخطف الأحضان بعضها. فجأةً، يصيرُ الغريب مألوفًا. يضحى العناق “ألفةً جديدة” بالنسبة للفيلاليين. يفجر العيد، كما يبدو لهسبريس، مرة أخرى “تنوعًا ثقافيًا وإثنيًا يتعايش داخل منظومة متراصّة لم تستطع العنصرية النيل منها”، وقال أحد الباحثين من أبناء المنطقة مرّة: “التفاصيل التي تنبض بها الأزقة حين تُفتح الأبواب على مصاريعها، تحتفظ للعيد بمذاقه. والساكنة ترفض التفاوض لذبح الذاكرة. تقبل، فقط، العيش على وقع الخلاص الجماعي”.

في هذه الأرض التي لم تُسلّم نفسها بالكامل للإسفلت، أكد الإنسان الفيلالي أنه “لن يبرأ” من ثقافة “النّيّة”… وقد “صرّف ذلك في العيد بوصفه روحًا تُستعاد، لا مجرد شعيرة تُؤدى”. تَصرّف كما لو أن “تعليق النحر لم يحدث، لأن الوعي المحلي يتنفسُ قيمة الأشياء وليس وزن الكبش وحده”. وقال أحد شيوخ قصر الملاّح في نقاش عابر هذا الصباح ما مفاده أن “اللحم والكبدة والشواء شروط ينبني عليها العيد، لكن هذه السنة فرصة لاستحضار كيف تخفق القلوب لتستجيب لنداء النحر”.

حسب ما عاينته هسبريس، يقدم هذا اليوم الديني والاجتماعي “فلسفة محلية” تعتبر المناسبة “مرآة داخلية”، يستعيد فيها الكهل طفولته، والزوج عزوبته، والأرملة فترات زيجتها. “العيد الكبير” “يستفزّ” الذاكرة. يتحول العيد في تافيلالت إلى “محطة بوح صغيرة بتطلعات كبيرة”، يُجرّب فيها الناس الانتشاء بالذبح، للانسلاخ من “آثام قديمة”، وتذبح فيها الذات “شرورا قد تتملكها، فتعبرها أو تسكن فيها إلى الأبد”، فالفيلالي مهما قيل عنه من “مديح”، اقتنع بأنه ليس “سليل الملائكة”.

“قيم مستمرة”

دافع عبد المالك مغراوي، مدرس باحث في الخطابات والأنساق الثقافية، عن “القيم المحلية التي تتشابك خلال العيد”، وقال: “هي عادة راسخة. طقوس المناسبة بمدينة مولاي علي الشريف تتخذ طابعًا مميزًا واستثنائيًا. تنتصر المحبة والتآزر بين الناس، وتتَعانق الزيارات المتبادلة لتشكّل بناءً ثقافيًا”. وتابع: “إلى غاية السنة الماضية، كان الجيران يتكاتفون على نحر الأضاحي بروح من الأخوة والمودة. هذه المرة غابت الأضحية، فظلت القيم المذكورة حيّة، لا تموت”.

وتحدث المغراوي لهسبريس مبينًا أن “العيد حمل معه هذه السنة اختلافًا ملحوظًا عن الأعوام السابقة، بفعل المتغير الذي طرأ بحكم الإهابة الملكية عدم ذبح الأضحية”، مضيفا أنه “رغم ذلك، لم تفقد الأجواء بهجتها. بقيت مشحونة بمزيج متنوع من المشاعر الدافئة التي توحد بين الأحباب والأقارب”، وتابع: “قرار إلغاء الأضحية قد يضفي على العيد نكهة مختلفة؛ لكن أسراب العائدين إلى الأهل تكشف أن الموعد يقدّم مرة أخرى حكاية الثابت والمتحول في صيغة فيلالية”، يمكن أن تكون مشتركة مع بقية الهويات الوطنية.

الباحث عينه شدد على أن “روح التاريخ حاضرة في النفوس مهما تغير الظرف. ولهذا، بقي النسق ثابتًا: صلاة العيد، وتبادل التهاني الصادقة، والاتصالات والزيارات التي تعزز أواصر المحبة والتواصل، وصلة الرحم، وعزائم الشاي التي لا تنتهي”، وزاد: “رغم اشتداد حرارة الطقس التي تعرفها المدينة، والتي من شأنها أن تثني البعض عن تحمل مشقة السفر واكتظاظ الطرقات، إلا أن هذا العامل لم يشكل عائقًا أمام الإصرار على العودة”.

وأجمل الباحث عينه بأن “الثقافة المحلية أصيلة وحقيقية؛ لذلك حافظت على مناعتها أمام موجات التزييف الثقافي ومحاولات الاستدماج الغاصبة بحكم النظرة المتعالية لكل ما هو عصري”، معتبرا أن “العادات المتوارثة عن الأجداد تمثل نبض حياة أهلها وهويتهم الشفافة”، وختم قائلا: “التمسك بهذا التراث والحفاظ عليه دليل واضح على رفض الانصياع لضغوط التغيير التي قد تهدف إلى طمس الخصوصية المحلية”.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق وزارة الداخلية تواصل حملاتها الأمنية الموسعة بجميع مديريات الأمن
التالى إمام عاشور يستقبل زيزو فى معسكر الأهلى بالأحضان.. فيديو