تشكل المؤتمرات الحزبية كما الحملات الانتخابية فرصة للخروج من السبات الذي يخيم على الحياة السياسية المغربية، فالتنافس على الزعامة والظفر بأكبر عدد من المقاعد، ينعش النقاش والعرض السياسي، بالإضافة على قراءة الفنجان والتنبؤ بصعود هذا ونزول ذاك. وربما تختزل هاتان المحطتان كل النشاط والظهور الحزبي، حتى سار على الألسن بنعت المقرات الحزبية بالدكاكين التي لا تفتح إلا حين دنو الانتخابات.
الحزب وجدلية الإشعاع والأفول:
أتاح انعقاد مؤتمر العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، مناسبة ليقظة الحزب واستعادة دوره السياسي، بعد أزمة المقاعد التي حصل عليها في انتخابات 2021. هكذا وجدنا أطره تغرد على مختلف المنصات، ضيوفا على المواقع الإلكترونية يبشرون بأطروحات الحزب في ظل التغيرات المحلية والإقليمية والدولية، ومد جسور التواصل الفكري والسياسي مع مختلف الفاعلين وعموم المواطنين. مما ينبئ بتعافي الحزب وتجاوزه مرحلة الصدمة التي أحدثها السقوط من «الطابق السابع» كما تم تشبيه الوضع. وتقديم قراءة تحمل نتيجة ما حدث للعوامل الداخلية والخارجية بشجاعة، غابت لدى فاعلين آخرين، حيث يتم البحث دائما عن مشجب تعلق عليه الإخفاقات. فإذا كان الاعتزاز بالنتائج الإيجابية أمر مشروع، كما حصل في انتخابات 2016، فإن الاعتراف بالتقصير وسوء التدبير أمر مطلوب. فالمغاربة ما زالوا يتداولون إجراءات الحزب مع ملفات اجتماعية من قبيل صندوق المقاصة والتقاعد، بالإضافة إلى التعاقد في الوظيفة العمومية والتعليم خصوصا.
ومن الإنصاف فإن هذا لا ينبغي أن يغطي على ما قدمه من منح للأرامل، وإلغاء لتولي الوظائف إلا بمباراة، ويفتخر بنزاهته في إسناد مناصب المسؤولية، فلم يستفد مناضلوه والمنتسبين إليه من كعكتها إلا في حدود ضيقة وبالتباري، ونظافة يدهم لا يختلف حولها اثنان. ولعل تجربة الحزب الحكومية بنجاحاتها وإخفاقاتها تحتاج إلى التدوين، كما صرحت ماء العينين، حينما ووجهت بسكوت الحزب بعد خروجه من الحكومة، وانسحاب الكثير من المناضلين وأطر الحزب إلى أشغالهم، في حين أن الأحزاب القوية والعتيدة تترك وثيقة كمرجع للأجيال اللاحقة، ومرآة ينظر فيها مناضلو الحزب إلى وجههم السياسي، كما فعل الاتحاد الاشتراكي على سبيل المثال لا الحصر.
وفي الخلاصة، يمكن القول إن المؤتمر التاسع للحزب، قد قطع الشك باليقين، الشك في موت الحزب، وإحالته على التراث السياسي المغربي، وإيداع وثائقه في أرشيف التنظيمات الحزبية المغربية. بيقين الانضباط التنظيمي وروح المسؤولية الجماعية في تحمل نفقات المؤتمر، بعدما رفضت وزارة الداخلية تمويل انعقاده. ويبقى النفس الديمقراطي الذي طبع أشغاله نقطة ضوء أثارت انتباه أكثر من متتبع، وخصوصا أن الكثير من المؤتمرات الحزبية لا تخلو من ملاسنات أو تبادل اللكمات والرشق بالصحون والملاعق…، وما يتبع كل ذلك من انشقاقات. ويبقى فوز عبد الإله بنكيران بولاية رابعة وهو الشيخ الذي ناهز71 سنة محط انتقاد كبير من طرف الخصوم، وجدل بين بعض المتعاطفين. وقد فُسر ذلك بعدم قدرة الآلة الحزبية وعقمها على إفراز نخبة شابة تتولى تدبير المرحلة، وتجديد الدماء في أوصال الجسد الحزبي المنهك. مستوعبة لما يعرفه العالم من تغيير في العقليات وأساليب تدبير الشأن العام، تحت خيمة الثورة المعرفية وما أحدثته من انقلابات قيمية، يتطلب التعامل معها مهارات قد يفقدها من تقدم بهم العمر. لكن الرجل من وجهة نظر أخرى، يجر خلفه تاريخا نضاليا من الغنى والثراء والتنوع ما لا يحظى به غيره، ولا يمكن أن يُنسى بلاؤه الحسن في بلوغ الحزب ذلك العدد من المقاعد البرلمانية، ورئاسة كبرى الجماعات الترابية، بقدرته التواصلية، وبلاغته الخطابية، وتمكنه من التقلب بين المقامات الدعوية والسياسية والنقابية، عملا بقول الجاحظ: «لكل مقام مقال». وهو الذي استطاع أن يقود سفينة الحزب في أشد اللحظات صعوبة، وكلنا يتذكر أحداث 16ماي الإرهابية ومحاولة إلصاق تهمة المسؤولية المعنوية بالحزب والدفع بحله، وكذا مواجهته لحزب يملك من القوة السياسية والأطر الفكرية المجتمعية ذات المشارب اليسارية خاصة، المجتمعة على عجل لكبح امتداده، لكنه خرج من المعركة أمامه أكثر عددا انتخابيا، وأفصح طرحا.
من متانة الطرح إلى كثرة العدد:
لقد التصقت الأطروحة السياسية والفكرية عند الحديث عن العدالة والتنمية أكثر من غيره من الأحزاب، باعتباره سليلا للحركة والصحوة الإسلامية، ومؤسسوه هم أبناء شرعيون للإسلام هو الحل. فقد صدحت منابرهم الإعلامية من صحف ومجلات بالأسلمة حينا من الدهر، وشعار «لا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها». فقد شكلوا جبهة ممناعة يصعب القفز عليها، وسدا منيعا في وجه كل الدعوات والإجراءات التي يرون أنها تسلخ المجتمع وتبعده عن هويته، كما حدث إبان «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية» سنة 1994. ولا يمكن نسيان المسيرة الهادرة بمدينة الدار البيضاء رفضا لمقتضياتها، باعتبارها استمرارا للتغريب، وإبعادا للأمة عن أصولها، وخصوصا وأنها كانت ستمثل أرضية لنصوص تشريعية تمس الحياة الأسرية، فصَّلت الشريعة الكثير من جوانبها. لكن ما يلاحظ على النقاش الذي طغى على المؤتمر وما يرتبط به، هو نقاش بالإضافة إلى الزعامة، نقاش مرتبط بالتدبير الحكومي، امتدادا لخطاب المعارضة البرلمانية. من تضارب المصالح والريع والفساد المتورط فيه بعض نواب الأغلبية، والدعم الذي يستفيد منه المقربون من حزب رئيس الحكومة، ولا يصل أثره للمواطن، وملفات أخرى حارقة لجيبه من قبيل البنزين ومشتقاته. أما الأفكار الكبرى فقد أقبرت مع أصحابها. ومن قيد له العيش، فقد اختار الابتعاد عن الأضواء، والركون إلى الدرس الجامعي والبحث الأكاديمي، أما الفاعل السياسي في الميدان فلم يعد قادرا على إنتاجها. وبالتالي تحضر «الديمقراطية لكن بدون عمق سياسي» (فوكوياما). كما أثير وفي غمرة مؤتمر الحزب من طرف مناوئيه الإجراءات والقرارات التي اتخذتها حكومة بن كيران والعثماني من قبيل: الزيادة في سن التقاعد مع زيادة نسبة مساهمة الموظف والنقص من نسبة استفادته، إلغاء دعم صندوق المقاصة للمحروقات وما ترتب عنها من رفع ثمنها، …. وهكذا غلب نفس الحملة الانتخابية على مجمل الخطاب السياسي في البلاد.
قوارب العودة:
هي ملفات تثار في وجه مناضلي الحزب عند كل نقاش، والتي ساهمت في الذهاب ببريقه والإلقاء بمقاعده من عل. لكن المؤتمر والخروج لأطره عبر مختلف المنابر الإعلامية، ساهم في جريان ماء النهر السياسي المغربي. الذي أحكم القبض على بوصلته توجه سياسي أحادي، بحيازته لأغلبية عددية مطلقة للمقاعد البرلمانية، والمجالس المحلية للمدن الكبرى.
وغياب الصوت المعارض او ضعفه، مما جعل الميزان السياسي يفقد توازنه. في ظل دستور منحها حق المشاركة في التشريع ومراقبة الأداء الحكومي عبر مجموعة من الآليات. والتي حاول الحزب استغلالها رغم قلة عدد نوابه، لكنها كتلة لها وزنها الذي لا تخطئه عين كل متتبع. ولعل اشتغاله على الانزلاقات الحكومية، وأثر تدبيرها العاصف بالقدرة الاستهلاكية.
علاوة على النقاش المحتدم حول مدونة الأسرة التي دخلت غرفة التأمل، والتي يعتبر الحزب نفسه المحامي الأصيل على قدسية بعض بنودها، في وجه دعاة التغريب كما ينعتهم، وهو النقاش الذي ذكر المغاربة بمواقفه التي تغيب عن باقي الفرقاء السياسيين. بالإضافة إلى الرياح التي تهب من غزة الجريحة، وتفاعل الحزب الداعم لها على مختلف واجهاته الموازية، وخصوصا وان تفاعله الإيجابي هذا لقضايا الأمة وفلسطين خصوصا ليس بجديد، قد يمَّكن الحزب من العودة في اللعبة السياسية ولعب أدوار طلائعية كما لعبها في السابق، ولعل هذا الأمل هو مفتاح فهم اختيار بن كيران لقيادة الحزب، باعتباره الفاعل رقم واحد فيما حققه ماضيا، وعليه وعلى خطابه المعول لتحقيق الصدارة في المستقبل كما يتفاءل قياديوه.