رصدٌ لتطور مفهوم تاريخي سياسي اقتصادي، حاضر بقوة في النقاشات المغربية عبر القرون وصولا إلى الزمن الراهن، هو “المخزن”، نهض به المؤرخ امحمد جبرون، الذي انتقد في أحدث حلقات برنامجه “مذاكَرات في الفكر والتاريخ” استعمال هذا المفهوم سواء بطريقة سلبية أو إيجابية، “في غياب الخلفية التاريخية”.
وعاد جبرون إلى “المخزن” الذي هو “مرفق عمومي قبلي وجد لدى القبائل المغربية، وخاصة في الجنوب المغربي، حيث كان لكل تجمع سكاني صغير أو كبير، هو بمثابة خزينة القبيلة التي توضع فيها الأمور الثمينة والغلات من زرع وحبوب، بل والمواشي والبهائم”.
وأضاف: “عندما جاءت دولة الموحدين، أخرجت المخزن من مجاله القبلي الاجتماعي وأدخلته إلى المجال السياسي، فجعلته بمثابة بيت المال، علما أنه كان قبلهم وخاصة في عهد المرابطين”، لافتا إلى أن “هذا المعنى للمخزن لم يكن يعني حصرا المغاربة، والقبائل الأمازيغية المغربية في الجنوب؛ بل (توجد إشارات لاستعماله) في تونس، وبغداد، دون الخروج عن معنى بيت المال الذي تُجمع فيه أموال الدولة من منقولات وغيرها من مجوهرات وحلي، بل وحتى العبيد المعتبرين من ممتلكات العامة “عبيد المخزن””.
ووضّح صاحب ثلاثية “تاريخ المغرب القديم” و”تاريخ المغرب الوسيط والحديث” و”تاريخ المغرب المعاصر” أن “الاستعمال السياسي للفظ المخزن قد تراجع في العهد المريني، ولم يستعملوا هذا المفهوم بشكل كبير، ربما بحكم قبيلة المرينيين التي لم يكن لديها عرف المخزن المشترك”، مع ترجيحه أن “الأمر مرتبط بعلاقة الدولة بالمجتمع؛ فالمخزن كمؤسسة مالية بالدرجة الأولى تحضر عادة في علاقة الدولة بالمجتمع والقبائل، ويمكن أن تكون علاقة الدولة المرينية بالجباية والمال غير وطيدة، ليصبح حضور المخزن مميزا؛ فعلاقة المرينيين بالقبائل فيما يتعلق بالأمور المالية لا تخرج عن الضرائب الشرعية إلا في بعض الحالات”.
وحول انتقال “المخزن” من مؤسسة مالية إلى “الدولة”، ذكر جبرون أن المرحلة التي حدث فيها الأمر هي “بداية القرن الخامس عشر الميلادي، وارتبط هذا أساسا بالدولة السعدية وازدهارها، بعد انهيار دول المرينيين، وهي مرحلة ظهر فيها المفهوم المتضخم للمخزن وصار عنوان الدولة، واسما ومرادفا لمفهوم الدولة”، دون أن ينفي وجود نقاش حول مدى دقة الترادف المفاهيمي بين “المخزن” كمفهوم تاريخي وبين “الدولة” كمفهوم حديث.
ثم ذكر أن “المخزن أصبح دولة خاصة في فترة أحمد المنصور السعدي”، وطرح فرضية يقدر وجاهتها هي أن “السعديين تحديدا في علاقتهم بالمجتمع والقبائل من الناحية الجبائية مارسوا ضغطا كبيرا على القبائل، وفرضوا الجباية عليها، وكانت متنوعة، وأبرز أنواعها الخراج المفروض على كافة سكان المغرب”.
وتابع شارحا: “باعتبار أن المغرب فُتح عنوة، وهذه قصة طويلة (…) دخل المغاربة الإسلام عنوة بالسيف، فكان عليهم أداء الخراج للدولة، وهذا ما جعل المخزن كمؤسسة مالية يحضر بشكل متكرر، لجمع المال، وأحيانا لتوزيعه. فحضور الموظف المخزني، والوظائف المخزنية، ربما كان هو المقدمة الأساسية، والأساس التاريخي والاقتصادي لتحول المخزن من مجرد مؤسسة مالية تحضر في المناسبات بشكل أو بآخر، علما أن الدول بالمغرب كانت تعتمد أساسا في مداخيلها قبل السعديين على الفتوحات، فعند توقف الفتوحات رجعت الدولة إلى الضرائب، وبحثت عن ذرائع لفرض ضرائب على السكان، ومن هذه المبررات فرض الخراج على المغاربة الذين دخلوا الإسلام عنوة”.
ومن الأمور التي سطر عليها جبرون كون “تحول مفهوم المخزن لم يكن مرتبطا فقط بمخيال شعبي غير رسمي”؛ بل هو تحولٌ “حدث أيضا على مستوى عقل الدولة، من السلطان وحاشيته والوزراء والموظفين الكبار، الذين لم يعد المخزن هامشيا لديهم، بل هو الدولة في تطبيق الأوامر وإصدارها، وحتى الاتفاقيات التي يبرمها المغرب مع الدول الأجنبية، كانت تبرم مع المخزن، والمخزن يبرم الاتفاقات مع “مخزن” الدول الأجنبية، فصار المصطلح غير مقصور فقط على الاستعمال المحلي والداخلي، وهناك اتفاقات في العهد العلوي مع الإسبان تستعمل هذا الاصطلاح في الحديث عن الدول الأخرى”.