يقدّم الذكاء الاصطناعي حلًا واعدًا لأزمة تغير المناخ وقضايا البيئة، التي تعدّ من أهم التحديات التي تواجه العالم في الوقت الحالي.
وهذا الذكاء من بين الأدوات الحديثة التي أظهرت إمكانات كبيرة في خفض البصمة الكربونية والحفاظ على الموارد الطبيعية.
وتعدّ القرارات البيئية السليمة والمتوازنة من الضروريات الملحّة للمجتمعات الحديثة، ووجهت الأبحاث العلمية مؤخرًا بأن تقليل انبعاثات الكربون ضرورة عاجلة للحفاظ على استقرار المناخ وكوكب الأرض.
في هذا السياق، يظهر الذكاء الاصطناعي أداة تكنولوجية متقدمة يمكنها تحليل كميات هائلة من البيانات واتخاذ قرارات ذكية بسرعة وبدقة مطلقة.
تساعد هذه التقنية المؤسسات والهيئات الحكومية والشركات الصناعية وغيرها في تحسين استعمال الطاقة والتقليل من الانبعاثات الملوثة.
وتتعدد استعمالات الذكاء الاصطناعي بين المجالات المختلفة؛ فمن تحليل البيانات الضخمة لتحديد مصادر الانبعاثات إلى تحسين كفاءة العمليات الصناعية والنقل والطاقة المتجددة.
سنسلّط الضوء في هذا المقال على أهمية هذه التكنولوجيا وكيفية استعمالها في خفض البصمة الكربونية، مع تسليط الضوء على بعض التطبيقات والابتكارات التي حققت نجاحًا ملحوظًا في هذا المجال.
أهمية خفض البصمة الكربونية
التحديات البيئية العالمية:
تنجم التغيرات المناخية التي يسبّبها ارتفاع نسب انبعاثات الكربون عن تلوث الهواء والمياه، كما تؤدي دورًا رئيسًا في ظواهر الطقس المتطرفة والعواصف والكوارث الطبيعية.
ومن الأمور المقلقة زيادة درجات الحرارة العالمية، مما يؤدي إلى ذوبان الأنهار الجليدية وارتفاع مستويات سطح البحر، وهو ما يهدد العديد من المناطق الساحلية بالفيضانات والتلوث البيئي.
أثر البصمة الكربونية في الصحة والاقتصاد:
تؤثّر البصمة الكربونية في صحة الإنسان، إذ ترتبط بظهور أمراض الجهاز التنفسي والمشكلات القلبية والعديد من الأمراض الناتجة عن تلوث الهواء.
كما أن التكلفة المادية لهذه القضية لا تقتصر على الصحة فقط، بل تمتد لتؤثّر في الاقتصادات من خلال زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية وخفض إنتاج العمل في البيئات المتأثرة.
الحاجة إلى حلول ذكية ومستدامة:
مع ازدياد الحاجة لتخفيف الانبعاثات، بات من الضروري إيجاد حلول تكنولوجية وبيئية تسهم في تحقيق التنمية المستدامة.
هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه تحويل البيانات الضخمة إلى معلومات قيّمة تساعد في اتخاذ قرارات تقلل من البصمة الكربونية بشكل فعّال واقتصادي.
الذكاء الاصطناعي أداة لخفض البصمة الكربونية
تحليل البيانات الضخمة لتحديد مصادر التلوث:
يعمل الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات هائلة من البيانات المستخلصة من أجهزة الاستشعار عن بعد، والأقمار الصناعية، والمصادر الأخرى، مما يساعد في تحديد مواقع الانبعاثات والعمليات التي تستنزف طاقة غير ضرورية.
فمثلًا، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل تدفقات النقل في المدن لاكتشاف الاختناقات المرورية وتحديد الطرق التي تؤدي إلى انبعاث أكبر نسبة من الكربون، مما يساعد في إعادة تنظيم حركة المرور وتحسين التخطيط الحضري.
تحسين كفاءة الطاقة في الصناعات والمباني:
تُطبَّق تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل استهلاك الطاقة في المباني والمصانع، حيث تساعد في تحديد الأماكن التي يمكن تحقيق اندفاعات كبيرة من الكربون واقتراح طرق لتحسين إدارة الطاقة.
تُستعمَل تقنيات التعلم الآلي لمراقبة استهلاك الطاقة وتقديم توصيات حول تعديلات البناء أو تعديل جداول العمل لتقليل استهلاك الطاقة خلال ساعات الذروة.
على سبيل المثال، تركّب بعض الشركات حساسات ذكية تتابع درجات الحرارة والإضاءة، ومن ثم تُحلِّل البيانات لضبط استهلاك الطاقة وفقًا للاحتياجات الفعلية دون التسبب بإهدار.
إدارة شبكات الطاقة المتجددة:
الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية والرياح يتطلب إدارة فعالة لشبكات الطاقة وضبط التغيرات المفاجئة في إنتاج الطاقة.
يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل توقعات الطقس والطلب على الطاقة في الوقت الحقيقي لضبط توزيع الطاقة بذكاء.
يساعد ذلك في تقليل الاعتماد على الطاقة الأحفورية وتحقيق توزيع أكثر كفاءة للطاقة المتجددة، مما يسهم بشكل كبير في خفض انبعاثات الكربون.
تحسين وسائل النقل والنقل الذكي:
يعدّ قطاع النقل أحد أكبر مصادر انبعاثات الكربون.
ويمكن للذكاء الاصطناعي تحسين عمليات النقل من خلال تطوير أنظمة ملاحة ذكية، تحليل البيانات الحركية، وإدارة الأساطيل بكفاءة عالية.
يسهم ذلك في تقليل الازدحام المروري وتحسين التدفق المروري، مما يؤدي إلى انخفاض استهلاك الوقود.
ومن خلال استعمال البيانات والتحليل التنبؤي، يمكن لشركات النقل تحديد الطرق الأكثر كفاءة وتوقيت الرحلات بأفضل شكل ممكن.
المراقبة البيئية والاستجابة للطوارئ:
تتيح تقنيات الذكاء الاصطناعي مراقبة الظروف البيئية والتنبؤ بالكوارث الطبيعية مثل الفيضانات أو حرائق الغابات.
يساعد ذلك السلطات المحلية في اتخاذ إجراءات سريعة للحدّ من الأضرار البيئية.
كما يمكن للنماذج التنبؤية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي تحديد المناطق الأكثر عرضة للخطر، وإرسال إنذارات مبكرة، مما يقلل من الأضرار التي قد تلحق بالبنية التحتية والمواطنين.
الابتكار في مجال التقاط الكربون وتخزينه:
تسهم الأبحاث العلمية في تطوير تقنيات تساعد على التقاط الكربون من الهواء وتخزينه بفعالية.
هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي في تحسين عمليات التقاط الكربون وتخزينه من خلال تحليل البيانات التجريبية وتجارب المعامل.
يمكن للأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تعديل العمليات الكيميائية لتحسين كفاءة التقاط الكربون وتقليل تكاليفها، مما يجعل هذه العمليات أكثر جدوى للاستعمال الصناعي.
التجارب العملية والتطبيقات العالمية
تجارب المدن الذكية:
يعمل العديد من المدن حول العالم على اعتماد تقنيات المدن الذكية لتحقيق التنمية المستدامة وخفض البصمة الكربونية.
تستعمل بعض المدن نظم ذكاء اصطناعي لتحسين إدارة المرور واستعمال الطاقة في الأبنية العامة.
من خلال حساسات ذكية وأنظمة تحكم متطورة، تُقلَّل التكاليف الناتجة عن ازدحام السيارات وانبعاث الغازات الضارة، وتُزوَّد المدينة ببيانات واقعية تساعد المسؤولين على اتخاذ القرارات المستنيرة بشكل أسرع.
شركات الطاقة العملاقة والتكنولوجيا الخضراء:
بدأت شركات الطاقة العملاقة في اعتماد الذكاء الاصطناعي، ليس فقط لتحسين عمليات الإنتاج، بل أيضًا لتعزيز مبادرات الطاقة الخضراء.
تستعمل هذه الشركات تقنيات تحليل البيانات لتحسين أداء محطات الطاقة الشمسية والرياح، وفي الوقت نفسه لكي تقلل من النفقات التشغيلية.
تُظهر التجارب الحالية أن استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحسّن من كفاءة الشبكات الكهربائية بنسبة تصل إلى 20%، مما يؤدي إلى خفض انبعاثات الكربون بشكل ملحوظ.
النقل الذكي في العصر الحديث:
يُعدّ قطاع النقل من أكثر المجالات التي استفادت من تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
على سبيل المثال، تعمل شركات السيارات الذكية على تطوير نظم قيادة ذاتية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة استهلاك الوقود.
هذه الأنظمة لا تسهم فقط في تقليل الانبعاثات، بل تسهم أيضًا في تقليل الحوادث المرورية وتحسين مستوى السلامة على الطرق.
بالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسات إلى أن النقل الذكي يسهم في تخفيض استهلاك الوقود بنسبة تصل إلى 15% في المدن الكبيرة.
الزراعة المستدامة والذكاء الاصطناعي:
تؤدي الزراعة المستدامة دورًا حيويًا في خفض البصمة الكربونية، إذ إن الاستعمال الذكي للتقنيات الحديثة يسهم في تحسين إنتاج المحاصيل وتقليل استهلاك الموارد كالأسمدة والمياه.
تُستعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات التربة والطقس والتغذية النباتية، مما يؤدي إلى استعمال موارد زراعية بكفاءة أكبر وتحقيق دخل بيئي واقتصادي أكبر في الوقت ذاته.
تُظهر التجارب أن الزراعة الموجهة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تقلل من انبعاثات الكربون الناتجة عن العمليات الزراعية بنسبة ملحوظة.
تحسين إدارة النفايات وإعادة التدوير:
يؤدي الذكاء الاصطناعي أيضًا دورًا مهمًا في تحسين طرق إدارة النفايات وإعادة التدوير.
من خلال تحليل البيانات المتعلقة بأنماط استهلاك النفايات، يمكن للنماذج الذكية تحديد الأماكن التي تتطلب تدخّلًا وإعادة تنظيم جمع النفايات.
بالإضافة إلى ذلك، تسهم الأنظمة الذكية في فرز النفايات آليًا، مما يقلل من التكاليف التشغيلية، ويزيد من كفاءة عمليات إعادة التدوير، ما يعزز من ممارسات الاستدامة البيئية ويخفض انبعاثات الكربون الناتجة عن عمليات النفايات.
الرصد الذكي للموارد المائية:
تعدّ الموارد المائية عنصرًا حيويًا في توازن البيئة، ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي دورًا فعالًا في إدارتها بشكل مستدام.
تعمل النظم الذكية على تحليل بيانات مستويات المياه والتنبؤ بحدوث الجفاف أو الفيضانات، ما يساعد في تنظيم استعمال المياه في القطاعات الزراعية والصناعية والسكنية.
تحسين إدارة الموارد المائية، بالإضافة إلى توزيع المياه بشكل فعّال يسهم بتخفيض الطاقة المستهلكة في عمليات الضخ والمعالجة، مما يؤدي إلى تقليل البصمة الكربونية.
تقنيات المراقبة البيئية والفضائية
أحد أبرز مجالات تطبيق الذكاء الاصطناعي هو تحليل بيانات الأقمار الصناعية والحساسات البيئية لتحديد المناطق التي تحتاج إلى تدخُّل سريع.
تراقب هذه التقنيات مستويات التلوث والكربون في الهواء والمياه، وتُحدّد المناطق التي تشهد تغيرات مناخية ملحوظة.
على سبيل المثال، تُستعمَل نماذج التعلم الآلي لتوقُّع انتشار التلوث الناجم عن الحرائق أو الانبعاثات الناتجة عن الأنشطة الصناعية، ما يسمح بوضع خطط استجابة سريعة لتقليل الآثار البيئية.

يُعدّ استعمال الذكاء الاصطناعي في خفض البصمة الكربونية خطوة ثورية نحو تحقيق الاستدامة البيئية في مواجهة التحديات المناخية العالمية.
فقد أثبتت التطبيقات العملية المتعددة للذكاء الاصطناعي -بدءًا من مراقبة الموارد الطبيعية وتحسين كفاءة النقل، وصولًا إلى تحليل وتحسين استهلاك الطاقة في المباني والمصانع- أنها أداة فعّالة تسهم في تقليل الانبعاثات الضارة وتحسين نوعية الحياة للمجتمعات.
من خلال تحليل كميات ضخمة من البيانات بسرعة ودقة، يمكن للذكاء الاصطناعي تحديد فجوات في استعمال الطاقة وتقديم حلول مبتكرة لتحسين الكفاءة.
كما يعزز من إدارة المصادر المتجددة والتحكم بالأنظمة البيئية في الوقت الحقيقي، مما يجعل من الممكن اتخاذ إجراءات فورية لتقليل آثار الأحداث الطارئة مثل الفيضانات أو الحرائق.
ومع زيادة الاستثمارات في هذا المجال وتشجيع البحث والتطوير، نتوقع أن يستمر دور الذكاء الاصطناعي في التوسع ليشمل قطاعات جديدة، مع تقديم فرص لتطوير نماذج أكثر دقة وفعالية.
وبرغم التحديات التي تواجه تطبيق هذه التكنولوجيا، من المهم تكثيف الجهود المشتركة بين الحكومات والمؤسسات والشركات الناشئة لضمان التغلب على العقبات الاقتصادية والتنظيمية التي تواجهها.
إن مستقبلنا يعتمد على قدرتنا على الابتكار وتطبيق الحلول الذكية التي تقلل من التأثيرات السلبية للنشاطات البشرية في البيئة.
وفي هذا السياق، يمثّل الذكاء الاصطناعي جبهة جديدة من التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة وضمان بقاء كوكب الأرض مستدامًا للأجيال القادمة.
* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..