أخبار عاجلة

يأجوج ومأجوج...

يأجوج ومأجوج...
يأجوج ومأجوج...

منذ آلاف السنين، ظلّ اسما “يأجوج ومأجوج” يثيران في النفس الإنسانية قلقًا غامضًا، وخوفًا فطريًا من القادم المجهول. ورد ذكرهما في القرآن الكريم لا كأسماء مجردة، بل كرمزين للفوضى الكاسحة، للخرق الذي لا يُرمم، ولليد التي تنقض البناء حين تضعف أعمدته من الداخل.

وقد ورد في سورة الكهف: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الكهف: 94]، ثم يرد على لسان ذي القرنين بعد بناء السد: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 97].

لكن السؤال الفلسفي الذي يطل برأسه من بين ثنايا هذا المشهد: من هم يأجوج ومأجوج في العمق؟ أهم قوم محددون جغرافيًا وتاريخيًا؟ أم هم إسقاط دائم لمأزق الإنسان في صراعه مع المجهول، مع الانفلات، مع ما لا يستطيع ضبطه؟

يظهر يأجوج ومأجوج في القرآن وسط قصة ذي القرنين، ذلك الحاكم العادل الذي أقام سدًا يمنع عن الناس فسادهم. وما إن يستقر السد حتى تبدأ القصة في التوتر مجددًا. فالفكرة ليست في بناء الجدار، بل في صعوبة أن يبقى هذا الجدار قائمًا في وجه قوى لا تتعب ولا تنام.

لهذا ختم ذو القرنين قوله بعد إتمام السد بتوكيد توحيدي فلسفي بالغ: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ [الكهف: 98].

بهذا المعنى، يمكن أن نفهم يأجوج ومأجوج كقوى رمزية تمثل الفساد حين يُكثّف، والشهوة حين تتوحش، والانفجار البشري حين يُكسر قيد القيم والحدود. هم ليسوا فقط خارج الأسوار، بل يسكنون داخلنا نحن، في زوايا النفس حين تخبو البصيرة وتعلو الأصوات الغريزية.

في عصرنا هذا، لعل أشد ما يُخيف في أسطورة يأجوج ومأجوج هو أنها أصبحت قريبة جدًا من واقعنا. انفجار غير مسبوق في التكنولوجيا، سرعة فائقة في تدفق المعلومة، انهيار متواصل في منظومات الأخلاق الجماعية، وظهور أزمات تتكاثر كالفطر في جسد الحضارة.

أليس هذا هو الزمن الذي تبدأ فيه السدود بالتصدع؟ أليست هذه هي اللحظة التي نكتشف فيها أن “الفساد في الأرض” ليس فقط خطرًا ماديًا، بل رؤية باطنية تعني انهيار الضمير، وتفكك المعنى، وزوال المركز الروحي في الإنسان؟

وكأننا نسمع صدى قول الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: 41].

يأجوج ومأجوج قد لا يكونان فقط قومًا سيظهرون في نهاية الزمان، بل هما العلامة الدائمة على أن كل نظام إنساني يحمل داخله احتمالية الفوضى، وأننا كلما توهمنا السيطرة الكاملة، كان خروجهم أقرب. لا أحد يبني سدًا أبديًا. حتى ذو القرنين، بكل قوته، لم يمنع خروجهما إلى الأبد.

ربما لأن السد الحقيقي الذي يمنع الفساد ليس في الجغرافيا، بل في القيم، في التربية، في الكلمة، في الوعي. وربما خرج يأجوج ومأجوج فعلاً، لا عبر نفق في جبل، بل عبر شقوق التكنولوجيا، وانفلات الأيديولوجيات، واندثار الضوابط الأخلاقية التي كانت تحفظ المجتمعات من التفكك التام.

اليوم نعيش عالماً بلا سدود تقريبًا، حيث كل شيء مباح، مكشوف، ومعرّى. ليس هناك حدود فاصلة بين الخطأ والصواب، بل رغبات متصارعة، وصوت الغريزة يعلو فوق الحكمة. وهذا هو الخطر الأعظم: أن نألف وجود يأجوج ومأجوج بيننا، وننسى أن مكانهم الطبيعي كان دومًا خلف الجدار.

ولأن الإنسان كائن هش، يعيش بين حاجته للنظام وغواية الفوضى، يبقى ذكر يأجوج ومأجوج تذكرة لا بنهاية العالم فحسب، بل بنهاياتنا الصغيرة كلما استسلمنا للانفلات، أو خدعنا أنفسنا بأننا محصّنون من السقوط.

الشر لا يطرق الباب صراحة، بل يبدأ همسًا في داخلنا، قبل أن يخرج كفيضان لا يرحم. وكأن الآية الكريمة تحذّرنا: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ﴾ [الأعراف: 97].

ولعلّ أعظم سؤال نخرج به من قصة يأجوج ومأجوج ليس متى سيخرجون، بل: هل نحن مستعدون حقًا لو خرجوا؟ وهل نحن متأكدون أنهم ما زالوا خلف الجدار… أم أنهم خرجوا منذ زمن، وصرنا نعيش معهم دون أن نشعر؟

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى حضرت احتفالية.. محامي نوال الدجوي يرد على تحدي الخصوم: "الدجوي في كامل قواها العقلية