لا التريليونات المخطوفة ، ولا "بهلوانيات" الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" ، ولا "القبة الذهبية" الصاروخية الفضائية ، سوف تحقق هدف "ترامب" فى جعل أمريكا الأعظم مرة أخرى ، ولا فى فرض "السلام الأمريكانى" على طريقة "السلام الرومانى" القديم ، أو ما يسميه "ترامب" كثيرا "فرض السلام بالقوة" ، ربما السبب فى التغيرات الجارية بخرائط العالم ، فقد تغير العالم لمرات كثيرة منذ العهد الرومانى ، وليس واردا أن يصبح "ترامب" امبراطورا رومانيا جديدا ، وقد لا تصح الاستهانة بقوة أمريكا الحربية والتكنولوجية ، تماما كما لا تصح الاستهانة بصعود قوى أخرى إلى قمة التطور العالمى ، قد تكون الصين أهمها بالمعنى الشامل للقوة ، لكن روسيا أيضا تعاود الصعود على طريقتها العسكرية ، وجمع القوة الصينية والروسية العسكرية معا يزيد بكثير على قوة أمريكا ، رغم أن أمريكا تنفق عسكريا مايزيد على التريليون دولار سنويا ، وهو ما يزيد بمرتين على ما تنفقه الصين وروسيا معا ، لكن المقابل المالى مختلف عن المقابل العينى المرئى لأسباب كثيرة ، ويكفى ـ مثلا ـ أن روسيا مع التواضع النسبى لإنفاقها العسكرى ، تنتج سنويا أربعة أمثال ما تنتجه دول حلف "الناتو" مجتمعة بما فيها أمريكا من سلاح.
وقد يستطيع "ترامب" أن يعقد مؤتمرا صحفيا كل يوم وكل ساعة ، وأن يفاخر ـ على عادته ـ بعظمة وروعة الأسلحة الأمريكية (!) ، وأن يتمتع شخصيا بإصدار أوامره "البهلوانية" بضم "كندا" واحتلال "جرينلاند" وقناة "بنما" و"غزة" وقبلها "المكسيك" ، وأن يتخيل على طريقة مبالغات تليفزيون الواقع ، أن أوامره كلها تتحقق فور النطق بها ، لكن لا شئ تحقق أو يتحقق رغم مضى شهور على شطحاته وتبجحاته ، ولسبب بسيط لا يدركه فى فورة انفعالاته الحماسية ، هو أن هناك حدودا للقوة الأمريكية ، التى جرى ويجرى اختبارها فى السنوات الأخيرة ، وبالذات فى مناطق نفوذ الصاعدين الجدد ، وإن أغراه الفوز السريع السهل فى مناطق "الربع الخالى" ، كما فى المنطقة العربية بالذات ، لكن الأمور لا تمضى كما يتصور فى مناطق أخرى ممتلئة بناسها وقواها ، وكلنا يتذكر أغرب وعود "ترامب" ، وقوله المتكرر فى حملته الانتخابية الصاخبة ، أنه يستطيع وقف حرب أوكرانيا فى 24 ساعة (!) ، ثم زاد المدة قليلا بعد عودته رسميا إلى البيت الأبيض ، ثم مضت شهور لاهثة طويلة إلى اليوم ، بادر فيها إلى إجراء مكالمات هاتفية مطولة بالساعات مع الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، وتبرع بانطباعات "بهلوانية" عن جودة وروعة مفاوضاته الهاتفية ، وعن أدوار وزرائه ومبعوثيه فى الرياض وموسكو ، وقدم المغريات تلو المغريات للرئيس الروسى ، وكرر موافقته على ضم شبه "جزيرة القرم" والمقاطعات الأوكرانية الأربع إلى موسكو ، وتعهده بعدم انضمام أوكرانيا لحلف "الناتو" فى أى وقت ، واستعداده للقاء "بوتين" فى أى مكان ، لكن "بوتين" ظل يتلاعب بعواطف "ترامب" ، ولم يذهب إلى مفاوضات تركيا ، وضيع على "ترامب" فرصة التقاط صور ترضى غروره ، وترك "ترامب" يعود من غزوته الخليجية إلى واشنطن محبطا من خذلان "بوتين" لمساعيه ، فيما وجه الرئيس الروسى معاونيه بصياغة مذكرة استسلام أوكرانى شامل ، يتوقع عرضها فى اجتماع لاحق بتركيا ، وتكون شرطا مسبقا لبحث اقتراحات واشنطن لوقف إطلاق النار ، وهو ما زاد فى غضب "ترامب" ، وإلى أن وصف "بوتين" أخيرا بالمجنون تماما ، وأنه "يلعب بالنار" ، ومن دون أن يكلف "بوتين " نفسه عناء الرد على "ترامب" ، وإن صدرت عن "الكرملين" تعليقات طريفة لاذعة ، من نوع وصف تهجمات "ترامب" اللفظية بأنها تنفيس عن "عبء عاطفى زائد" ، فالمعروف أن "ترامب" يعانى من خسارة توقعاته ، ومن خيبة أمله فى تجاوب الرئيس الروسى معه ، بعد أن تباهى "ترامب" مرارا وتكرارا بمعرفته العميقة بالرئيس "بوتين" ، وبمحبته الغامرة لطريقة تفكيره ، وتلك واحدة من ألغاز "بوتين" ، الذى يثق على ما يبدو فى حدود ردود أفعال "ترامب" ، الذى يطالبه معاونوه بالعودة إلى فرض عقوبات جديدة على موسكو ، يتشكك "ترامب" نفسه فى جدواها ، حتى وإن اندفع إليها .
وكما قلنا مبكرا هنا وفى غير مكان ، أن ماجرى ويجرى بين موسكو وواشنطن ، هو لعبة "بوتين" مع "ترامب" وليس العكس ، وأن هدف "بوتين" هو تعميق الفجوة بين واشنطن والحلفاء الأوروبيين فى حلف "الناتو" ، والسعى لإخراج أمريكا من حرب أوكرانيا ، والاستفراد بأعداء موسكو الأوروبيين ، وهو ما جرى الكثير منه باندفاعات "ترامب" ، وابتزازه المتكرر للحلفاء الأوروبيين فى حلف "الناتو" ، وطلبه زيادة بل مضاعفة الإنفاق الأوروبى فى ميزانية الحلف ، وإلى حدود 5% من إجمالى الناتج القومى لكل دولة أوروبية حليفة ، وتخفيض عبء الإنفاق الأمريكى فى الميزانية السنوية البالغة 1.6 تريليون دولار ، إضافة إلى فتح أسواق أوروبا بلا قيود للمنتجات الأمريكية ، وإزالة الاشتراطات والمعايير الأوروبية الصارمة على السيارات والمنتجات الغذائية الأمريكية ، فوق مضاعفة واردات أوروبا من البترول والغاز الطبيعى من أمريكا ، وكلها شروط أمريكية لا يستطيع الأوروبيون تلبيتها ببساطة ، حتى فى المفاوضات الجارية فى مهلة التسعين يوما بعد تعلية "ترامب" لسقف الرسوم الجمركية ، وكلامه المتكرر عن تناقض المصالح الاقتصادية بين واشنطن والاتحاد الأوروبى ، وتخوف الأوروبيين المتزايد من احتمالات سحب مظلة الحماية النووية والقواعد العسكرية الأمريكية فى أوروبا ، وهو ما دفع الأوروبيين إلى عودة للبحث فى نظام دفاعى أوروبى بحت ، وإعلان المفوضية الأوروبية عن خطة لإنفاق 800 مليار يورو لتطوير الإنتاج العسكرى الأوروبى حتى 2030 ، وتخصيص 150 مليار يورو إضافية لدعم أوكرانيا فى الحرب مع روسيا ، وقد أثبتت سنوات الحرب الثلاث وأكثر الفائتة ، أنه ليس بوسع "أوروبا الأطلنطية" مجاراة روسيا ، ورغم إنفاق مئات مليارات الدولارات دعما وتسليحا من جانب أمريكا وأوروبا معا ، فإنها لم تستطع وقف التقدم العسكرى الروسى ، الذى تصاعدت وتيرته فى الشهور الأخيرة ، مع استعادة الروس لكامل مقاطعة "كورسك" الروسية ، واستمرار موسكو فى القضم المتدرج لما تبقى من المقاطعات الأوكرانية الأربع (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون) ، وما عجزت عنه حرب أمريكا وأوروبا معا ، لا يتصور أحد أن تنجح فيه أوروبا وحدها ، بعد نجاح "بوتين" فى استثمار اندفاعات "ترامب" ، وخلخلة الموقف الأمريكى الداعم لأوكرانيا ورئيسها "فلوديمير زيلينسكى" ، وإهانات "ترامب" الشهيرة للرئيس الأوكرانى فى لقاء المكتب البيضاوى ، وتصميمه على تقديم أوكرانيا لتنازلات كبيرة من أراضيها لصالح الروس ، وفتور حماسه لتقديم مزيد من المعونات العسكرية فى حرب الميدان الأوكرانى ، وهو ما ظهر فى ضعف نظام الدفاعات الجوية بالداخل الأوكرانى ، وبما زاد فى إفساح المجال لهجمات المسيرات الانتحارية والصواريخ الروسية ، وفى توسع الهجمات البرية الروسية داخل مقاطعتى "خاركيف" و"سومى" ، إضافة للمقاطعات الأربع المستهدفة أصلا ، وهو ما يضاعف من ذعر الأوروبيين ، الذين يخشون من امتداد الحرب الروسية إلى مقاطعات أوكرانيا غرب نهر "دنيبرو" ، وربما إلى دول البلطيق الصغيرة الثلاث (لاتفيا واستونيا وليتوانيا) المنضمة سابقا لحلف "الناتو" ، خصوصا مع تخطيط موسكو لإرسال مئة ألف جندى إضافى إلى "بيلاروسيا" تحت غطاء إجراء مناورات ، وتضاعف معدلات حروب موسكو "الهجينة" تحت مياه بحر البلطيق ، وقطع كابلات الاتصال والطاقة باستخدام أساطيل الظل الروسية ، وزيادة الحشد العسكرى الصاروخى والنووى فى مقاطعة "كالينينجراد" المنفصلة بريا عن الأراضى الروسية ، والتى تبدو على الخرائط كخنجر نافذ فى قلب أوروبا الغربية ، علما أن أراضى البر الرئيسى الروسى الأوروبى تشكل 40% من كل مساحة أوروبا ، وبينما تبدو التحركات الروسية كإجراء احترازى يرد على توسع حلف "الناتو" وضمه لفنلندا والسويد ، وهو ما يزيد من هلع الأوروبيين ، ويدفعهم إلى اتخاذ إجراءات مضادة ضد روسيا ، على طريقة إعلان المستشار الألمانى الجديد "فريدريش ميرتس" عن فك قيود استخدام أوكرانيا للصواريخ بعيدة المدى فى العمق الروسى ، وربما توريد ألمانيا لصواريخ "تاوروس" إلى أوكرانيا ، إضافة لصواريخ "ستورم شادو" البريطانية و"سكالب" الفرنسية ، التى لم تحقق تغيرا فارقا فى موازين الحرب ، لا هى ولا مثيلتها "أتاكمز" الأمريكية ، فالروس يتكيفون مع المستجدات الحربية بسرعة لافتة ، ولديهم الدواء لكل داء حربى مستجد ، وقد يهزمون ويتراجعون أحيانا ، لكنهم ينتصرون فى النهاية ويستنزفون الأعداء الغربيين ، وهو ما اعترف به "ترامب" نفسه مرات ، وقال أنه لا يمكن تصور هزيمة روسيا .
ويبقى فى الحساب المفتوح ، أن "بوتين" لاعب الشطرنج المتمكن سياسيا وعسكريا ، لا يبدو قابلا لخداع جديد ، وليس مستعدا لخسارة تحالفه القوى مع الصين ، ويدمج ببراعة بين أهدافه فى أوكرانيا وأوروبا ، وبين سعيه لإقامة عالم متعدد الأقطاب ، يفكك ويفتت الهيمنة الغربية والأمريكية ، ويعيد روسيا إلى قلب تفاعلات العالم الأوسع .
[email protected]
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.