تعيش العديد من البلدان ومن بينها المغرب خلال السنوات الأخيرة على وقع تمدد هادئ ولكن مقلق لسوق التداول والمضاربة، سواء عبر العملات الأجنبية المعروفة بـ”الفوركس” أو العملات الرقمية المشفرة، الذي يُسوّق عبر قنوات التواصل الاجتماعي كفرصة ذهبية لتحقيق الاستقلال المالي والثراء السريع.
أعداد متزايدة من الشباب، في مدن كبرى كما في مناطق هامشية، يجدون أنفسهم منجذبين في عالم التواصل الاجتماعي نحو إعلانات ساطعة وأسلوب حياة مبهرج يستعرضه مؤثرو “الفوركس” والعملات الرقمية كدليل على النجاح السهل والمتاح للجميع.
خلف هذا الوميض المغري، تكمن حقيقة مفزعة: ما يجري ليس استثمارًا بقدر ما هو مشروع وهمي مبني على التسويق النفسي والجهل المالي، ويمثل خطرًا ثقافيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا متناميًا.
الذين يقدّمون أنفسهم على أنهم “خبراء في الأسواق المالية” لا يُظهرون للمتابعين سوى جانب واحد من القصة: سيارات فارهة، رحلات إلى دبي، سهرات فخمة، وساعات باهظة.
لا وثائق رسمية، لا تقارير أداء موثقة، لا تدقيق مالي. مجرد عرض دائم لأرقام وهمية وإشعارات صفقات مغلقة “بالأخضر”، في غياب تام لأي دليل على اتساق أو استدامة في النتائج.
الأدهى أن مصدر دخل أغلبهم ليس التداول ذاته، بل بيع الدورات التدريبية، الاشتراكات في قنوات التوصيات، والعمولات من شركات الوساطة التي تُكافئهم كلما جلبوا زبائن جددًا… حتى لو خسر هؤلاء أموالهم بالكامل.
السؤال البديهي الذي يجب أن يُطرح في وجه كل من يدّعي تحقيق أرباح ضخمة من تداول “الفوركس” والمضاربة على العملات الرقمية هو:
لماذا لا يُدير أموال مؤسسات مالية كبرى، أو ينضم إلى صناديق تحوط دولية، أو على الأقل، يُظهر سجلًا ماليًا مدققًا لآخر سنة؟
الجواب مؤلم: لأن معظمهم لا يملكون تلك المهارات أصلًا، بل يتقنون فن العرض والتأثير، ويعتمدون على استغلال حاجة الشباب للفرصة، واستثمار الفراغ القانوني والرقابي، أكثر من استثمارهم في السوق نفسه.
من ناحية شرعية، لا جدال أن الغالبية الساحقة من صور تداول “الفوركس” والمضاربة في العملات الرقمية عبر استعمال الرافعة المالية المنتشرة اليوم تقع في محظورات واضحة: غياب القبض الفوري، وجود فوائد ربوية، استعمال الروافع المالية بشكل غير مشروع، وغياب التملك الحقيقي للأصول.
وقد أصدرت جهات علمية معتبرة، مثل مجمع الفقه الإسلامي الدولي ودار الإفتاء المصرية واللجنة الدائمة للإفتاء، فتاوى واضحة بتحريم هذه المعاملات لما تتضمنه من غرر وربا ومقامرة.
اقتصاديًا، التأثير لا يقل خطورة. حين يتحول وعي شريحة من الشباب إلى التعلّق بالمضاربة الرقمية بدل البحث عن مهارات إنتاجية أو فرص استثمار حقيقية، فذلك يعني سحبًا تدريجيًا من رصيد رأس المال البشري الوطني.
ناهيك عن أن الأموال المحوّلة نحو هذه المنصات لا تعود بأي قيمة مضافة للاقتصاد المحلي، بل تُستهلك وتُهدر في بيئة تداول خارجة عن رقابة الدولة ولا تحمي المستثمر المحلي من أي خسارة أو غش.
ثمّة مسؤولية ثقيلة أيضًا على عاتق منصات الإعلام الرقمي التي اختارت عن قصد أو جهل أن تُضفي على هذه الأسماء بريق المصداقية عبر استضافتهم والترويج لهم دون مساءلة حقيقية.
هؤلاء “المؤثرون الماليون” يتحدثون في حلقات “بودكاست” طويلة عن النجاح والمثابرة، في حين أنهم لم يقدّموا يومًا كشف حساب موثقًا يظهر نتائجهم الفعلية، بل يتهربون من أبسط اختبار للشفافية.
ألا يحق لنا، كجمهور، أن نطالب بكشف حساب حقيقي يثبت ربحًا قارًا ومستقرًا في مجال “الفوركس” وتداول العملات الرقمية على مدى عام؟
لماذا لا يتم فرض متطلبات قانونية على من يقدم نفسه كـ”محلل مالي” أو “خبير تداول” مثل السجل المهني أو التصريح المالي السنوي؟
هل يتم إدماج الثقافة المالية الأساسية في مناهج التعليم الثانوي والجامعي، مع تركيز خاص على الاستثمار بدل التداول والمضاربة، وتشجيع إدارة المخاطر والتحليل المالي ومحاربة الاحتيال الإلكتروني؟
ولماذا لا يتم فتح بوابات تبليغ وحماية للمستثمرين الصغار تمكنهم من الإبلاغ عن عمليات نصب وتضليل رقمية؟
إن ما يجري اليوم في مجال “الفوركس” وتداول العملات الرقمية على المستوى المحلي لا يقل خطرًا عن أي شكل من أشكال التضليل المالي أو الاحتيال الحديث، لأنه يمس الطبقة الأكثر هشاشة: شباب يائسون، بآمال مرتفعة، وبمعرفة مالية محدودة، يزجون بأموالهم وأحلامهم في سوق لا تعترف بالخسارة الآمنة.
وغالبًا ما تكون الخسارة الأخيرة لهم ليست مادية فقط، بل نفسية، لأنها تقضي على ما تبقى من ثقة بالذات وبالإمكانات المستقبلية.
لا نحتاج فقط إلى حملات تحسيسية، بل إلى مواقف رسمية وتشريعية واضحة، وإلى إعلام مهني لا يسقط في فخ الترويج لمن يعيشون على بيع السراب.
نحتاج اليوم إلى إعادة اعتبار لثقافة الكسب الحقيقي، والاستثمار المنتج، والتعليم المالي الرصين. لأن ما يُفقد اليوم ليس مالًا فقط، بل وعيًا جمعيًا قد لا يُعوّض بسهولة.