“إن الانخراط في السلطة هو، فعلا، أن يموت المرء كإنسان ليولد كحائز للمسؤولية الكبرى” جورج بالاندييه الذي ابتدع مصطلح “العالم الثالث” سنة 1956 بجانب ألفريد سوفي في مؤلف جغرافي
ظلت السياسة، في نماذجها الكلاسيكية، تُبنى على كل ما يرتبط بالقضايا العامة: الحريات العامة، التعليم للجميع، العدالة الاجتماعية، حق الإضراب… ساحة للصراع الطبقي، الثقافي والهوياتي.. أي تعبيرا عن صراع مجتمعي حول القيم، حول أنماط العيش المشتركة، حول أسئلة العدالة والتوزيع، الهوية والانتماء، المساواة والحريات، التقدم والحداثة… لذلك، ظلت ساحة مفتوحة للنقاشات، للتعدد، للصدامات بين من يريد بناء الدولة على قاعدة دينية، أو قومية، أو اشتراكية، أو ليبرالية…
في الفهم الفلسفي الذي قدّمه هابرماس، كانت السياسة تُعدّ فعلًا تواصليا جماعيا بين الفاعلين الاجتماعيين داخل الفضاء العام.. اليوم، هذا الفضاء العمومي نفسه تمّت خوصصته، لم تعد هناك ساحة أكورا يتجادل فيها المواطنون حول المصالح والقيم، بل شاشات موجهة، وخوارزميات تقترح علينا ما نستهلكه سياسيا كما تفعل تجاريا.. بهذا المعنى، قُتلت السياسة كـ”جدل” وأُخضعت لمنطق السوق.
ماتت السياسة كأفق تغييري وسادت روح المقاولة
منذ نهاية الحرب الباردة، بدأ تفريغ السياسة من محتواها الإيديولوجي.. كان يمكن انتقاد الإيديولوجيا باعتبارها مُضلّلة؛ لكن وجودها كان يُغني النقاش السياسي ويخلق ما أسميه بالأساطير الدافئة للجمهور، موتها جعل السياسي الجديد لا يثير أسئلة كبرى لا عن العدالة ولا عن الحرية، بل يتحدث عن الميزانية، النجاعة، والاستثمار والمرونة.. وهذا قتلٌ لمخيلة الشعوب، التي لم تعد تتخيل بديلا أو تحلم بيوتوبيا.. لقد ماتت السياسة كأفق تغييري.
طغت فجأة روح الفردانية في الخطاب السياسي المنمق بشعارات مغرية؛ لكنها تنميطية فيها رائحة المقاولة: “اصنع نجاحك”، “حسّن مهاراتك”، “استثمر في ذاتك”… هذا الخطاب يُخلي الدولة من مسؤولياتها، ويُحوّل السياسة إلى “كوتشينغ” نفسي، لا إلى مشروع مجتمعي عبر إفراغ السياسة من مضمونها الجماعي.
لم تعد السياسة، في العقود الأخيرة وعلى المستوى الكوني، كما عهدناها. لم تعد حلبة للأفكار المتصارعة، ولا ساحة لحروب الإيديولوجيات ولا صوتا ناطقا باسم الجماهير أو الأغلبية الصامتة؛ بل تحولت تدريجيا إلى إدارة تقنية باردة بلا أحلام ولا رؤى تحرك الفاعل السياسي والمواطن على السواء، أضحت حقلا يتسيّده تكنوقراطيون ومهندسو اقتصاد قدموا من عالم المال والأعمال، يحكمون بلغة الأرقام لا بلغة الحلم، ويتحدثون عن الكفاءة عوضا عن الشرعية والاستحقاق، ويُسيرون الأوطان كما تُسيّر الشركات.
مع صعود التكنوقراط، تم تذويب الصراع في خطاب العقلانية التقنية: لا يمين ولا يسار، بل “حلول ناجعة” و”إصلاحات ضرورية”، ومداخل ومخرجات؛ وهو ما يُخفي المصالح الطبقية والتراتبية العميقة، ويُشرعن قهرا ناعما باسم الكفاءة والنجاعة، حيث تحول السياسي إلى مُدير موارد، وأقصي المواطن من الفعل العمومي.
لقد أُفرغت السياسة من كل ما كان يجعلها حاضنة لأحلام الناس ومُجمّعة لهم وحاملة لآلامهم في أن يستيقظوا على يوم أسعد من بؤس حالهم.. مع صعود رأسمالية الميديا والمنصات، لم يعد المواطن يُنظر إليه كمشارك، بل كـ”زبون انتخابي”، تُدرس سلوكياته الاستهلاكية لا مواقفه الأخلاقية أو السياسية.. تسويقه يتم عبر حملات إعلانية تشبه الإشهار التجاري.. السياسي نفسه لم يعد حامل مشروع، بل وجه تسويق.. كان من نتائج هذا تحول عميق في بنية الدولة الديمقراطية.
لم تعد السياسة اليوم حتى في الدول التي راكمت تقاليد باذخة في الديمقراطية سوى إدارة تقنية للقرارات، حيث صارت البرامج متشابهة والخطابات مكرورة، والوجوه السياسية بلا ملامح فكرية دافئة، لم تبق لدينا إلا معاقل قليلة مضيئة وسط هذه العتمة.
من السياسي المثقف إلى التكنوقراطي التنفيذي
في الستينيات حتى بداية التسعينيات، كان السياسي فاعلا ممارسا ومفكرا ومنظرا، مكونًا ثقافيًا يحمل مشروعا مجتمعيا، يستند إلى خلفية نضالية أو تاريخ حزبي. كان المثقف السياسي حاضرا في صلب الفعل السياسي، يحاور ويصطدم، يصوغ الأفكار والبدائل.. وكانت للسياسة وجوه تُلهم الناس: نيلسون مانديلا، تشرشل، روزفيلت، الحسن الثاني، ماو تسي تونغ، غيفارا، دوغول، جمال عبد الناصر، علال الفاسي، محمد بلحسن الوزاني، المهدي بنبركة… كان المثقف يلعب دور الوسيط النقدي بين الدولة والمجتمع.. أما اليوم، فالمثقف إما مدجَّن تابع أو صامت يائس، أو محاصر في دوائر أكاديمية معزولة.. اختفى المثقف الذي يُنير طريق السياسة بمعناها النقدي، ومعه خفتت نار التنوير الجماعي، وهذا أحد مظاهر قتل السياسة كفعل نقدي.
لقد تراجع هذا النموذج مع صعود الليبرالية المتوحشة، وانسحاب الدولة من أدوارها الاجتماعية، وتحول السياسة إلى تدبير مالي وإداري يخضع لقواعد السوق. وأضحى الساسة يشبهون بعضهم في الخطاب، في اللباس وفي الحذر… لا كاريزما، لا رؤى كبرى، لا مشروع جامع.. والناس لا يَتبعون، بل يُتابعون ما يحدث في سوق الفرجة.. وهذا انسحاب آخر للسياسة كقوة رمزية.
صعد السياسيون الجدد من عالم البنوك والشركات الكبرى، يحملون شهادات من جامعات النخبة؛ لكنهم يفتقدون الحس التاريخي والالتزام الاجتماعي. ينظرون إلى الدولة كمنصة خدمات، لا كفضاء لصناعة المصير الجماعي. لهذا، فهم يتعاملون مع المواطنين كزبائن لا كفاعلين، لا ككائنات لها حاجيات ورغبات، ولها أحلام في الحرية وطموح في تحسين وضعها الاجتماعي وحفظ كرامتها والاعتراف بها كذوات لها الحق في وجود يتجاوز تلبية رغباتها المادية فقط.
زحف التقنية وانهيار المعنى
لم يعد السياسي حامل مشروع بحاجة إلى قاعدة شعبية أو حزب قوي؛ بل إلى خبير تسويق ومحلل بيانات، وخوارزميات قادرة على استهداف الناخبين برسائل مُخصصة. هكذا، أصبحت السياسة تُدار بلغة الإعلانات والتطبيقات الذكية، وتم تفريغها من بعدها الرمزي والتاريخي.
مع هيمنة هذا النموذج، انحسر النقاش حول القيم الكبرى: لم يعد السؤال عن العدالة الاجتماعية أو توزيع الثروة، أو نماذج العيش، بل عن تخفيض العجز، وتحسين ترتيب البلد في مؤشرات التصنيف الائتماني، وجذب الاستثمار.. صارت المقاربات الاقتصادية تطغى على النقاش السياسي، وأصبحت المؤسسات المالية الدولية اللاعب الأساسي في رسم السياسات العمومية، وهو ما أفقد السياسة استقلالها ودفئها. ففي ظل العولمة، لم تعد الدول قادرة على فرض قراراتها السياسية بحرية، خصوصا في الجنوب؛ فمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي تُملي سياسات التقشف وتُضعف المجال السياسي الوطني… وهكذا، تم قتل السياسة من فوق، عبر اختراق سيادي، يجعل الحكومات مجرد منفذة لتوصيات غير منتخبة.
كانت السياسة وعدًا بالمستقبل وحقًا للشعوب في تقرير مصيرها.. اليوم، شركات مثل Google، Meta، OpenAI، SpaceX وغيرها، هي التي تُصمم ملامح المستقبل.. الذكاء الاصطناعي، الهجرة إلى المريخ، الميتافيرس… والحكومات تلهث خلفها.. ها هو المستقبل يُصنع خارج السياسة؛ وهو ما يعني نزع القدرة السياسية عن البشر، واستلاب خيالهم الجمعي.
أحزاب بلا إيديولوجيا وبرامج بلا رؤى
ترافق هذا التحول مع تراجع الأحزاب السياسية وتحولها إلى أدوات انتخابية فارغة من المضامين. لم تعد الأحزاب في العالم، كانت يمينية أو يسارية، تنتج الفكر ولا تشكل القيادات؛ بل تستورد المرشحين من عالم المال أو الإعلام، في إطار الصفقات السياسية. وبالتالي، اختفت الفوارق بين اليسار واليمين، وتماهت البرامج الانتخابية، وأصبح الاختلاف في الأسلوب لا في المضمون.
كما ساهم الإعلام الجديد في تكريس هذا النمط، حيث صار السياسي نجما على المنصات الاجتماعية، يراهن على عدد المتابعين بدل جودة البرنامج، ويتحدث بلغة مبسطة حد التبسيط الذي يُلائم منطق “الترند” عوضا عن منطق العمق. فما نعيشه ليس فقط نهاية عصر إيديولوجي أو صعود أدوات جديدة للحكم، بل هو تحول وجودي عميق يُعيد تعريف معنى السياسة والسلطة والمواطنة عبر إفراغها من مضمونها الإنساني والتاريخي… قتل السياسة بهذا المعنى هو نزع للسيادة عن الإنسان، لا فقط عن الدول.. وحين تموت السياسة، لا يحل مكانها الحياد؛ بل تحل مكانها قوة السوق والتقنية والهيمنة غير المرئية، ونصبح مجرد وحدات أداء لا كائنات سياسية.
موت السياسة خطر على الديمقراطية
إن قتل السياسة، بهذا الشكل، لا يعني فقط نهاية مشروع تنويري بدأ مع عصر الحداثة؛ بل يمثل أيضا خطرا على مستقبل الديمقراطية. فعندما تتحول السياسة إلى شأن تقني، يُدبره خبراء لا يحتكمون إلى التصويت الشعبي بل إلى تقارير المؤسسات الدولية، فإننا بذلك نُفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها.. ما الجدوى من الانتخابات إذا كان صانع القرار الحقيقي يجلس في وادي السليكون؟ وما جدوى الأحزاب إذا كانت البرامج تُصاغ في مختبرات الاقتصاد العالمي؟ بل ما جدوى المشاركة إذا كان الفعل السياسي محصورا في التوازنات المالية؟
لذلك، تتفاقم مشاعر العجز والسأم واللامبالاة في صفوف المواطنين، ما يُفسر تنامي العزوف الانتخابي، وانكفاء الجماهير عن السياسة، وشعورهم بأن لا صوت لهم في اتخاذ القرار. وأمام التحديات الكونية الكبرى (الاحتباس الحراري، الأوبئة، الهجرة الجماعية…)، يُنتظر من السياسة أن تقود؛ لكنها تتوارى خلف العلماء والخبراء والمعاهد ومراكز التنك تانك، أضحت القرارات تُتخذ تقنيا لا ديمقراطيًا، ومصير الشعوب يُقرر في غرف مغلقة تحت شعار “الضرورة”. وهذا من أخطر تجليات قتل السياسة كمجال للقرار الجماعي.
الحاجة إلى بعث سياسي جديد
لكن، وكما علمنا التاريخ، فإن السياسة لا تموت؛ بل تتحول. وربما، وسط هذا المشهد الرمادي، تنبثق بوادر مقاومة جديدة، تدعو إلى استعادة السياسة كفعل جماعي للمعنى، وكفضاء للصراع حول المستقبل.
فالحركات الاجتماعية الجديدة، التي تخرج إلى الشارع من أجل العدالة البيئية أو الحقوق الثقافية أو كرامة العمل، تشكل أحد تجليات هذا الأفق السياسي الجديد. كما أن بعض التجارب السياسية الحديثة، التي تستعيد خطاب العدالة والتوزيع، تشير إلى إمكانية تجاوز النموذج التقنوقراطي.
علينا أن نعيد طرح الأسئلة الكبرى: كيف نريد أن نعيش معًا؟ أي نماذج للتنمية نريد؟ من يستفيد من الثروة؟ من يُقرر؟ وما هو المعنى الحقيقي للسيادة الشعبية؟
فقط من خلال استعادة هذه الأسئلة، يمكننا بعث السياسة من جديد، لا كإدارة للضرائب؛ بل كفن للحكم وكأفق للتغيير وكصراع على العدالة والمعنى والكرامة. إن العالم لا يحتاج فقط إلى قادة أكفاء؛ بل إلى سياسيين حالمين، يملكون الجرأة لطرح الأسئلة الصعبة، والوفاء لقضايا الناس والرؤية البعيدة لبناء المستقبل. هذا هو التحدي الحقيقي أمامنا، إذا أردنا أن نعيد للسياسة معناها وللديمقراطية روحها.