في أعماق الجنوب المغربي، حيث مازالت آثار الزلزال ماثلة على ملامح الحجر والبشر، اختارت قافلة “أمان وشفاء” أن تعود هذا العام بحضور أقوى وامتداد أوسع؛ مبادرة يقودها طلبة كليات الطب من الرباط والدار البيضاء، بروح جماعية تُعيد تعريف دور الطالب في خدمة محيطه. ليست مجرد زيارة علاجية، بل فعل تضامني يسعى إلى وصل ما انقطع بين الجامعة والمجتمع، بين التكوين الأكاديمي وحاجيات الواقع.
وتأتي هذه القافلة في سياق وطني يتّسم بتزايد الوعي بأهمية العدالة الصحية، ولاسيما في المناطق المتأثرة بالكوارث الطبيعية، فمنذ زلزال الحوز برزت الحاجة إلى مبادرات نوعية تتجاوز التدخلات الظرفية، وتكرّس ثقافة الاستمرارية والانخراط الفعلي في تخفيف معاناة الساكنة. وقد اختار منظمو القافلة أن تكون وجهتهم هذا العام مزدوجة: نحو دواوير بإقليم الحوز مازالت في طور التعافي، ومناطق بأزيلال تواجه إكراهات بيئية واجتماعية متشابكة.
واعتمدت القافلة مقاربة تشاركية جمعت بين التخصصات الطبية المختلفة والانفتاح على المجتمع المحلي، من خلال تنظيم فحوصات طبية، وتوزيع أدوية، ولقاءات تحسيسية حول الصحة العامة. ولم يكن التركيز فقط على تقديم الخدمة، بل أيضاً على بناء جسور ثقة مع السكان، والاستماع إلى انتظاراتهم وتطلعاتهم. هذا البُعد الإنساني، كما يصفه المنظمون، هو ما يمنح للمبادرة معناها الحقيقي، ويحولها من مجرّد حملة طبية إلى تجربة ميدانية ترسّخ في أذهان المشاركين مسؤولية الانتماء المهني والاجتماعي.
امتداد إنساني
شهاب الدين ميلاح، طالب طب ورئيس النادي الجمعوي لطلبة الطب والصيدلة بالرباط، قال إن قافلة “أمان وشفاء” تمثل النسخة العاشرة من القوافل التي دأب النادي على تنظيمها منذ سنة 2020، مشيراً إلى أن كل موسم جامعي يشهد قافلتين مختلفتين في طبيعة التدخلات والأنشطة.
وأوضح ميلاح، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذه القوافل تجمع بين الجانبين الطبي والتحسيسي، وأحياناً تمتد لتشمل إصلاح مرافق عمومية في القرى المستهدفة، مشدداً على أن الغاية من هذه المبادرات هي تعزيز الحس التضامني لدى الطلبة وربطهم بقضايا مجتمعهم.
وأبرز المتحدث ذاته أن قافلة “أمان وشفاء” تختلف عن سابقاتها من حيث الحجم والتأثير، إذ اعتُبرت نقلة نوعية في مسار القوافل التي دأب النادي على تنظيمها، سواء من حيث التنسيق أو من حيث تنوع المستفيدين وطبيعة التدخلات، وأشار في حديثه لهسبريس إلى أن التحدي الأكبر تمثل في توسيع نطاق التدخل ليشمل إقليمي الحوز وأزيلال، بناءً على زيارات ميدانية رصد خلالها الطلبة حجم الخصاص، سواء الناتج عن الزلزال أو بسبب الجفاف، وموردا أن القافلة هذه السنة تميزت أيضاً بشراكة نوعية مع نادي طلبة الطب بالدار البيضاء، ما أضفى بعداً تكاملياً عليها.
وأوضح طالب الطب، في تصريحه، أن قافلة “أمان وشفاء” تتضمن مشروع حفر بئر في منطقة نائية بإقليم أزيلال، استجابة لحاجة ملحة إلى الماء الصالح للشرب، إلى جانب تدخلات تشمل ترميم وإصلاح ست مؤسسات تعليمية ودينية بإقليم الحوز، من بينها مدارس فرعية ومساجد تضررت بفعل الزلزال؛ كما تشمل جناحاً طبياً متعدد التخصصات، يضم أكثر من عشرين طبيباً وطبيبة من مختلف المجالات، بهدف تقديم استشارات طبية وخدمات وقائية لحوالي تسعة آلاف مستفيد من سكان الدواوير المعنية.
وأكد المتحدث عينه أن الفعاليات التي ينظمها النادي تنطلق من قناعة راسخة بأن العمل الجماعي والتضامن المجتمعي يشكلان جزءاً لا يتجزأ من التكوين الإنساني والمهني لطالب الطب، وأضاف أن القوافل التي تُنظم تُمثل امتداداً لهذه القيم، وتُترجم على أرض الواقع من خلال أنشطة تعاونية تُمارَس خارج الإطار الأكاديمي الروتيني.
ولفت الطالب ذاته إلى أن روح التضامن التي تسود داخل النادي تجد صداها في علاقات الطلبة ببعضهم البعض، كما تنعكس في انخراطهم في خدمة المجتمع بمختلف فئاته، مؤكداً أن هذا الزخم التضامني ما كان ليتحقق لولا دعم إدارة كلية الطب والصيدلة بالرباط، وتعاون الشركاء الذين ساندوا هذه المبادرات منذ بداياتها؛ وختم بالقول إن مثل هذه التجارب تؤكد أن طالب الطب قادر على أن يكون فاعلاً جمعوياً ومواطناً ملتزماً بقضايا بلده، إلى جانب تكوينه العلمي والمهني.
تدخلات ميدانية
أبرز عبد الرحمان شاكير، نائب رئيس النادي الجمعوي لطلبة الطب والصيدلة بالدار البيضاء، أن القافلة الإنسانية متعددة التخصصات، التي ستنظم بشراكة مع نظيرهم في الرباط، ستمتد من 29 ماي إلى فاتح يونيو، وستشمل جماعتي آيت حكيم آيت زين بإقليم الحوز وآيت بوولي بإقليم أزيلال.
وأوضح شاكير، في تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن القافلة تهدف إلى تلبية حاجيات الساكنة في مجالات متعددة، من خلال تنظيم قافلة طبية متعددة التخصصات في إقليم الحوز، بمشاركة أطباء في مجالات الطب العام، وطب العيون، وطب القلب والشرايين، وطب الأطفال، وطب العظام والمفاصل، وطب النساء والتوليد، وطب المسالك البولية، وطب الفم والأنف والحنجرة، بالإضافة إلى صيدلية متنقلة لتوزيع الأدوية اللازمة.
وأضاف المتحدث ذاته أن القافلة ستشمل أيضاً توزيع قفف غذائية وملابس على عدد من الساكنة، إلى جانب إصلاح وتجهيز أقسام للروض والمساجد والمصليات بالمنطقة، وتنظيم ورشات تحسيسية لفائدة الساكنة.
أما في إقليم أزيلال فستركز القافلة على حفر وتجهيز بئر لفائدة الساكنة التي تعاني من نقص في المياه الصالحة للشرب، في خطوة تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية للسكان المحليين، وفق المصدر ذاته.