أُسدل الستار على النسخة 21 من “الأسد الإفريقي”، الْمُناوَراتُ الْكُبْرَى عَلَى صَعِيدِ الْقَارَّةِ الإِفْرِيقِيَّةِ، جِسرٌ لِلتَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمَمْلَكَةِ الْمَغْرِبِيَّةِ وَالْوِلاياتِ الْمُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ وَشُرَكَاءَ دُوَلِيّينَ آخَرِينَ، مناسبة حَيْثُ تَلْتَقِي الْخِبْرَاتُ وَتُصْقَلُ الْمَهَارَاتُ.
خلال هذه المناورات لَا مَجَالَ لِلصُّدْفَةِ، كُلُّ شَيْءٍ يَبْدَأُ مِنَ التَّدْرِيبَاتِ الأَكَادِيمِيَّةِ الدَّقِيقَةِ، حَيْثُ تُصْقَلُ الخُطَطُ وَتُدَرَّسُ التَّكْتِيكَاتُ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ المَعْرِفَةُ إِلَى المَيْدَانِ لِتَتَحَوَّلَ إِلَى مُنَاوَرَاتٍ عَمَلِيَّةٍ وَاسِعَةِ النِّطَاقِ، تُحَاكُ وِفْقَ سِينَارْيُوهاتٍ مَضْبُوطَةٍ وَمَدْرُوسَةٍ بِعِنَايَةٍ، تُحَاكِي مُوَاجَهَةَ عَدُوٍّ اِفْتِرَاضِيٍّ بِتَهْدِيدَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمُتَغَيِّرَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ التَّحَدِّي بَرًّا حَيْثُ تُسْتَعْمَلُ أَثْقَلُ الأَسْلِحَةِ وَأَكْثَرُهَا تَطَوُّرًا، أَوْ جَوًّا حَيْثُ تَحِلِّقُ النُّسُورُ لِحِمَايَةِ الأَجْوَاءِ، وَحَتَّى بَحْرًا، حَيْثُ تَتَأَهَّبُ القُوَّاتُ البَحْرِيَّةُ لِتَأْمِينِ السَّوَاحِلِ وَالمِيَاهِ الإِقْلِيمِيَّةِ.
هسبريس واكبت الجنود المرابطين في جو من التَّأهُّبِ الدَّائِمِ والانضباطِ العَسْكَرِيِّ، حَيْثُ كانَتْ ملامحُ الجُهوزِيَّةِ تَشْرُقُ مِنْ عُيُونِ المُشاركين، وَيَتَجَلَّى التَّرَكِيزُ التَّامُّ على إتقانِ كلِّ حَرَكَةٍ وتَنفيذِ كلِّ أَمْرٍ بِدِقَّةٍ، مَعَ تَناغُمٍ بَيْنَ القُوَّاتِ المغربية والأمريكية ومن مختلف الدول المشاركة.
وقال الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأمريكية لإفريقيا (أفريكوم)، إن النسخة الـ21 من مناورات “الأسد الإفريقي” عملت على تعميق الشراكة مع القوات المسلحة الملكية، وحضرت أكثر من 52 دولة لتشهد ذلك.
مناورات برية بأبعاد استثنائية
من بين أبرز محطات تمرين “الأسد الإفريقي” المناورات البرية التي تجري عِنْدَ مَصْبِ وَادِي دَرْعَةَ الْمَهِيبِ بِإِقْلِيمِ طَنْطَانَ؛ هناك تَأْخُذُ الْمُناوَرَاتُ أَبْعَادًا اسْتِثْنَائِيَّةً، حيث تتحول تلك الْأَرْضُ الشَّاسِعَةُ إِلَى مَيْدَانٍ حَقِيقِيٍّ لِاخْتِبَارِ الْقُدُرَاتِ وَصَقْلِ التَّكْتِيكَاتِ. وشهدت هذه النسخة إطلاق نِيرَانِ الْمِدْفَعِيَّةِ وَالدَّبَّابَاتِ وَأَسْلِحَةٌ أُخْرَى، مع قَذَائِفُ تُصِيبُ أَهْدَافَهَا بِدِقَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، مُبْرِهِنةً عَلَى الْكَفَاءَةِ الْعَالِيَةِ لِلطواقِمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى تَوْجِيهِ ضَرَبَاتٍ سَاحِقَةٍ؛ إِنَّهَا مُحَاكَاةٌ وَاقِعِيَّةٌ لِظُرُوفِ الْمَعْرَكَةِ، حَيْثُ كُلُّ طَلْقَةٍ لَهَا حِسَاب.
يونس بنعياد، قائد العمليات الميدانية بكاب درعة، أوضح في تصريح لهسبريس أن “مناورات هذه السنة شهدت لأول مرة دمج القوات الخاصة المشتركة وقوات الرد السريع التابعة للواء المحمول للمشاة، ضمن سيناريوهات تحاكي واقع الحروب الكلاسيكية”.
تطور تلو الآخر شهدته هذه المناورات طيلة السنوات الماضية. هسبريس حضرت التمرين الأخير الذي تضمن طلعات جوية لمقاتلات “إف-16″، وضربات راجمات “هيمارس”، حيث واجهت القوات المغربية والأمريكية، بشكل مشترك، مجهّزة بوحدات المشاة الآلية ومدرعات “أبرامز” ومدافع المدفعية الملكية “M109A5” والطائرات المقاتلة “F16″، وراجمة الصواريخ “هيمارس”، هدفا بريا افتراضيا.
أسلحة الدمار الشامل
مِنَ البَرِّ نَنتَقِلُ إِلَى البَحْرِ فِي قَلْبِ مِينَاءِ أَكَادِيرَ العَسْكَرِيِّ، حيث تَتَجَلَّى الجَاهِزِيَّةُ لِمُوَاجَهَةِ وَاحِدٍ مِنْ أَشَدِّ التَّحَدِّيَاتِ الأَمْنِيَّةِ المُعَاصِرَةِ: خَطَرُ أَسْلِحَةِ الدَّمَارِ الشَّامِلِ.
تَدْرِيبٌ دَقِيقٌ وَمُتَخَصِّصٌ يَضَعُ المُشَارِكِينَ فِي مُوَاجَهَةٍ مُبَاشِرَةٍ مَعَ هذَا التَّهْدِيدِ الخَفِيِّ. يَنْصَبُّ التَّرْكِيزُ هُنَا عَلَى صَقْلِ مَهَارَاتِ الاسْتِطْلَاعِ المُتَقَدِّمَةِ، وَتَطْبِيقِ بُرُوتُوكُولَاتِ عَزْلِ أَسْلِحَةِ الدَّمَارِ الشَّامِلِ بِكَفَاءةٍ عَالِيَةٍ.
كُلُّ هَذَا يَتِمُّ مِنْ خِلَالِ سِينَارْيُو مُحَكَّمٍ يُحَاكِي الوَاقِعَ بِدِقَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، فَالْهَدَفُ الأَسْمَى لَيْسَ مُجَرَّدَ التَّدْرِيبِ، بَلْ هُوَ الِارْتِقَاءُ بِالقُدُرَاتِ التَّشْغِيلِيَّةِ وَالتَّكْتِيكِيَّةِ إِلَى أَعْلَى المُسْتَوَيَاتِ.
هُنَاك عملت سَرِيَّةُ الدِّفَاعِ النَّوَوِيِّ وَالإِشْعَاعِيِّ وَالبَيُولُوجِيِّ وَالكِيمْيَاوِيِّ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ مَعَ فَرِيقِ الغَوْصِ المُتَمَرِّسِ وَفَرِيقِ التَّخَلُّصِ مِنَ الذَّخَائِرِ المُتَفَجِّرَةِ التَّابِعِ لِوِحْدَةِ الإِغَاثَةِ وَالإِنْقَاذِ بِالقُوَّاتِ المُسَلَّحَةِ المَلَكِيَّةِ؛ التَّأَهُّبُ هُوَ شِعَارُهُمْ، وَالِاسْتِعْدَادُ الدَّائِمُ لِلتَّعَامُلِ الفَعَّالِ وَالحَاسِمِ مَعَ أَيّ أَزْمَةٍ قَدْ تَنْطَوِي عَلَى مَخَاطِرَ إِشْعَاعِيَّةٍ أَوْ كِيمْيَائِيَّةٍ أَوْ تَهْدِيدَاتٍ بِالذَّخَائِرِ المُتَفَجِّرَةِ هُوَ غَايَتُهُمْ.
إيريك غايغر، مشارك من الجيش الأمريكي في مناورات “الأسد الإفريقي”، أكد ضمن تصريح لهسبريس أن التعاون بين القوات المسلحة الملكية ووكالة تنظيم الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والإشعاعية والنووية الأمريكية يعود إلى أزيد من عشر سنوات، لافتا إلى أن تمرين اليوم الذي جمع القوات الخاصة المغربية والأمريكية والهنغارية والغانية ساهم في “تعزيز التعاون المشترك وتقنيات التصدي لأسلحة الدمار الشامل”.
رسالة إنسانية عميقة
“الأسدُ الإفريقيُّ” ليسَ مُجرَّدَ استعراضٍ للقُوَّةِ العَسْكَرِيَّةِ والتَّنسيقِ المَيْدانيِّ، بلْ أَيْضًا رِسالةٌ إِنْسانِيَّةٌ عَميقةٌ، والتزامٌ تُجاهَ المُجتمعاتِ المَحَلِّيةِ، وسَعيٌ إلَى تَقْديمِ يَدِ العَوْنِ حَيْثُما دَعَتِ الحَاجَةُ. هذا الاِلْتِزامُ يَتَجَسَّدُ بوضوحٍ في مُبادَراتٍ مَلموسَةٍ تُخدِمُ الإِنْسانَ أَوَّلًا وأخِيرًا.
فعلى هامشِ المُناوَراتِ العَسْكَرِيَّةِ تم نصب صَرْحٌ إِنْسَانِيٌّ استِثنائيٌّ، مُستَشفى عَسْكَرِيٌّ جِراحِيٌّ مَيْدانيٌّ مُتَكامِلٌ بِجَماعَةِ أَنْزي في إِقْلِيمِ تِزْنيتَ، أَبْوابُهُ كانت مَفْتوحة على مَصراعيْها لِاستِقبالِ المُواطنينَ مِنَ السُّكَّانِ المَحَلِّيِّينَ، لِتَقْديمِ رِعايةٍ صِحِّيَّةٍ هُم في أَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَيها.
حضرت طَواقِم طِبِّيَّة مِنْ مُختَلِفِ التَّخَصُّصات، بِخِبْراتٍ عالِيَةٍ وتَجهيزاتٍ مُتَطَوِّرَةٍ، بلغ عددها 271 من الأطر العسكرية المغربية والأمريكية، حيث عملت بِتَفانٍ لِتَقْديمِ أفضَلِ الخَدَماتِ العِلاجِيَّةِ، مِنَ الفحوصاتِ العَامَّةِ إِلَى التَّشخيصاتِ الدَّقِيقَةِ، مُرُورًا بِالتَدَخُّلاتِ الجِراحِيَّةِ المُعَقَّدَةِ الَّتي تُجرى في المَكانِ.
وقالت الطبيبة الصيدلانية المقدم نوال نشينش في تصريح لهسبريس إن “العمل بجانب الزملاء الأمريكيين كان في جو رائع يتسم بالجدية اللازمة، ما جعل تمرين الأسد الإفريقي فرصة لا تعوض”، كاشفة أن المعدل اليومي وصل إلى استقبال ألف مريض.
تدريب أكاديمي
كُلُّ هَذِهِ القُدُرَاتِ الَّتِي شَهِدْنَاهَا، مِنْ دِقَّةِ النِّيرَانِ البَرِّيَّةِ، إِلَى احْتِرَافِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَ التَّهْدِيدَاتِ البَحْرِيَّةِ، مَرُورًا بِالْلَمْسَةِ الإِنْسَانِيَّةِ النَّبِيلَةِ، وُصُولًا إِلَى السِّيَادَةِ الجَوِّيَّةِ… كُلُّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَلِيدَ اللَّحْظَةِ، إِنَّهُ ثَمَرَةُ جُهْدٍ دَؤُوبٍ وَتَخْطِيطٍ إسْتِرَاتِيجِيٍّ يَبْدَأُ قَبْلَ أَنْ تَطَأَ أَقْدَامُ الجُنُودِ أَرْضَ المَيْدَانِ.
فِي مَرَاكِزِ التَّكْوِينِ وَالتَّدْرِيبِ الأَكَادِيمِيِّ تُوضَعُ الأُسُسُ، وَتُحَلَّلُ الدُّرُوسُ المُسْتَفَادَةُ، وَتُطَوَّرُ العَقَائِدُ القِتَالِيَّةُ؛ خُبَرَاءُ وَمُخَطِّطُونَ مِنْ مُخْتَلِفِ الدُّوَلِ المُشَارِكَةِ يَجْتَمِعُونَ لِتَبَادُلِ الخِبَرَاتِ وَتَوْحِيدِ المُفَاهِيمِ العَمَلِيَّةِ وَالتَّخْطِيطِ لِلسِّينَارْيُوهَاتِ المُعَقَّدَةِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا تَتَجَسَّدُ عَلَى أَرْضِ الوَاقِعِ.
الفريق محمد بن الوالي، رئيس أركان الحرب بالمنطقة الجنوبية، قال إن الدورة تكوينية شاملة، همت 381 متدربا، وتناولت مجالات أساسية وحيوية، بغية إلمام جميع المتدربين بالمعارف والمساطر الضرورية حتى يستعدوا للمشاركة، بفعالية وكفاءة، في مختلف المناورات والتمارين الميدانية.
وهكذا يُسْدَلُ السِّتَارُ عَلَى نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْ مُنَاوَرَاتِ “الأَسَدِ الإِفْرِيقِيِّ”؛ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ تَدْرِيبَاتٍ عَسْكَرِيَّةٍ عَابِرَةٍ، بَلْ تَجْسِيدٌ حَيٌّ لِتَحَالُفٍ إسْتِرَاتِيجِيٍّ رَاسِخٍ، وَشَرَاكَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ لِمُوَاجَهَةِ تَحَدِّيَاتِ الحَاضِرِ وَالمُسْتَقْبَلِ.
مَعَ كُلِّ دَوْرَةٍ جَدِيدَةٍ تَتَجَدَّدُ العَزِيمَةُ، وَتَتَعَمَّقُ الشَّرَاكَة، وَتَتَأَكَّدُ الجَاهِزِيَّةُ… لِيَبْقَى “الأَسَدُ الإِفْرِيقِيُّ” رَمْزًا لِلتَّعَاوُنِ المَثْمَرِ، وَالقُدْرَةِ عَلَى العَمَلِ المُشْتَرَكِ، وَالأَمَلِ فِي مُسْتَقْبَلٍ آمِنٍ أَكْثَرَ لِلْجَمِيعِ.
" frameborder="0">