بعدما نشرت جريدة هسبريس الإلكترونية مقالًا حول احتمال لجوء السفير الجزائري سعيد موسي إلى فرنسا، في وقت لم تكن المعطيات مؤكدة بشكل رسمي، سارعت جهات إعلامية جزائرية إلى التشكيك في الرواية، واتهام الصحافة المغربية بترويج أخبار “مفبركة” في سياق ما أسمتها “حربًا نفسية إعلامية ضد الجزائر”. غير أن اليوم التالي حمل مفاجآت غير محسوبة، إذ خرجت مصادر فرنسية موثوقة لتؤكد أن موسي، الذي مثل بلاده في باريس سابقاً، رفض الامتثال لأمر الاستدعاء، وفضّل البقاء على الأراضي الفرنسية وطلب الحماية السياسية.
قرار موسي أثار موجة من التساؤلات في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية، ليس فقط لكونه أول سفير جزائري يتقدم رسميًا بطلب لجوء سياسي في دولة أجنبية، بل لأن الخطوة جاءت في توقيت بالغ الحساسية على مستوى العلاقات بين الجزائر وفرنسا. فبعد سلسلة من التوترات الدبلوماسية بين البلدين بدا أن موسي لم يعد يحظى بالدعم الكامل من السلطة التي عينته، وهو ما زاد من الشكوك بشأن ما إذا كان قرار اللجوء نتيجة قناعة شخصية أم ثمرة لخلافات عميقة داخل النظام نفسه.
وفي ظل هذا المستجد اللافت سعت بعض الأصوات المقربة من النظام الجزائري إلى تقديم تفسيرات بديلة لما جرى، إذ زعم صحافيون وفاعلون سياسيون أن السفير تم سحبه بشكل “عادي” و”روتيني” في سياق إعادة هيكلة البعثات الدبلوماسية، نافية بذلك وجود أي توتر أو خلاف. لكن هذا الطرح سرعان ما فقد وجاهته أمام تواتر التقارير الأجنبية التي تحدثت عن رفض موسي العودة، وإقدامه على توكيل محامين لتسوية وضعيته القانونية بفرنسا ضمن إطار طلب الحماية.
وفي المقابل لم يصدر عن السلطات الجزائرية أي توضيح رسمي بشأن مصير سعيد موسي، وهو ما زاد من حدة الغموض، وفتح المجال أمام تحليلات تربط بين الواقعة وبين صراعات داخلية مستترة تشهدها الدبلوماسية الجزائرية؛ فغياب البلاغات الرسمية، وتجاهل الموضوع في الإعلام العمومي، شكّلا دليلاً إضافيًا على حرج السلطات من الخوض في حيثيات هذا الملف، خصوصًا أن موسي يُعد من بين الأطر الدبلوماسية المخضرمة التي تولت مهام حساسة في عدد من العواصم الكبرى.
ووسط هذا الصمت الرسمي تحركت بعض المنصات المعارضة في الخارج لتأكيد ما كانت الصحافة المغربية أشارت إليه منذ البداية، مبرزة أن خطوة السفير موسي تعكس حالة تذمر متنامية داخل صفوف الدبلوماسيين الجزائريين، الذين يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان وسط توجيهات سياسية متقلبة وقرارات تعسفية. وبحسب ما أوردته هذه المنابر فإن موسي اختار مغادرة المنظومة “بكرامة”، بدلًا من العودة إلى ما وصفتها بـ”بيئة إدارية خانقة لم تعد تحتمل”.
وفي هذا المناخ المتوتر برزت تساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي دفعت سعيد موسي إلى اتخاذ هذه الخطوة غير المسبوقة؛ فبين من يرى فيها رد فعل فرديا ناتجًا عن ظروف شخصية أو تحفظات مهنية، ومن يعتبرها صرخة رمزية في وجه نظام لم يعد يتسع لأصوات مستقلة أو مواقف خارج النص، يتفق المراقبون على أن القضية باتت تتجاوز مجرد طلب لجوء، لتتحول إلى عنوان لأزمة أعمق تعتمل داخل البنية الدبلوماسية الجزائرية وتنعكس على صورة البلاد في الخارج.
وهكذا لم تعد المسألة، كما يصورها الخطاب الرسمي الجزائري، مجرد نزاع تأويلي بين “إعلامين متقابلين”، بل أصبحت فضيحة دبلوماسية مكتملة الأركان، كشفت هشاشة التماسك المؤسسي الجزائري في تدبير أزماته الداخلية والخارجية؛ فبينما اعتاد النظام الجزائري أن يُخضع خطاب سفرائه لمعادلة الانضباط السياسي المطلق جاء قرار موسي ليكسر هذا النمط ويعيد طرح إشكالية استقلالية السلك الدبلوماسي، خصوصًا حين يتعلق الأمر بملفات شائكة كالعلاقات مع باريس، أو إدارة الملفات السيادية المرتبطة بالهوية والسياسة الإقليمية.
في هذا السياق تتجه الأنظار إلى كيفية تفاعل السلطات الفرنسية مع طلب سعيد موسي، إذ إن قبول هذا الطلب من شأنه أن يُحدث زلزالًا سياسيًا في العلاقات بين باريس والجزائر، ويمنح مزيدًا من المصداقية لما يُثار حول الخلل في المنظومة الجزائرية. وفي المقابل فإن أي محاولة فرنسية لإقفال الملف بهدوء قد تُفسر كتنازل دبلوماسي هدفه الحفاظ على شعرة معاوية مع النظام الجزائري. وبين هذا وذاك يبقى مصير موسي معلقًا على خيط رفيع بين السياسة والقانون، فيما تستمر تداعيات قضيته في فضح التصدعات التي تنخر مؤسسات الدولة الجزائرية من الداخل.