
لا أُخْفِيكُمْ أَنِّي كَثِيرًا مَا أَتَعَجَّبُ مِنْ أُنَاسٍ تَحَسَّنَتْ أَحْوَالُهُمُ الْمَعِيشِيَّةُ بِشَكْلٍ مَلْحُوظٍ، إِذَا مَا قُورِنَتْ بِالْمَاضِي الْقَرِيبِ. مَسَاكِنُهُمْ أَوْسَعُ وَأَجْمَلُ، مَلَابِسُهُمْ أَجْوَدُ، وَسَائِلُ تَنَقُّلِهِمْ أَيْسَرُ وَأَكْثَرُ رَاحَةً، وَسُبُلُ الْاتِّصَالِ وَالْمَعْرِفَةِ بَاتَتْ فِي مُتَناوَلِهِمْ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ. وَرَغْمَ ذَلِكَ، لَا أَرَاهُمْ يَشْعُرُونَ بِحَلَاوَةِ مَا يَعِيشُونَهُ، أَوْ يَسْتَمْتِعُونَ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي.
وَهُمْ أَنْفُسُهُمُ الَّذِينَ تَعِيشُ بُلْدَانُهُمْ، مُقَارَنَةً بِالْمَاضِي الْقَرِيبِ، تَقَدُّمًا مَلْمُوسًا وَسَرِيعًا فِي الْاقْتِصَادِ، وَالْبُنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ، وَالنَّقْلِ الْعُمُومِيِّ، وَوَسَائِلِ الْاتِّصَالِ، وَمَصَادِرِ الْمَعْرِفَةِ… لَكِنْ بَدَلًا مِنَ الْاعْتِرَافِ بِهَذِهِ الْمَكَاسِبِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا كَنِعَمٍ مِنَ اللهِ، أَرَاهُمْ – لِلْأَسَفِ – لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهَا، بَلْ يُسَارِعُونَ إِلَى تَبْخِيسِهَا، مُرَكِّزِينَ عَلَى مَا يَنْقُصُ، مُرَدِّدِينَ مَا يُشْبِهُ لَحْنًا حَزِينًا عَنِ الْجُزْءِ الْفَارِغِ مِنَ الْكَأْسِ.
لَا أَحَدَ يُنْكِرُ حَقَّ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَحْزَنَ لِمَنْ لَمْ تَتَحَسَّنْ أَوْضَاعُهُمْ، وَهُمْ كَثِيرٌ، أَوْ فِي أَنْ يَنْتَقِدَ السِّيَاسَاتِ الَّتِي لَا تَعْتَنِي بِالْهَشَاشَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَمَا يَنْبَغِي. هَذَا مَوْقِفٌ نَبِيلٌ وَمَشْرُوعٌ. لَكِنْ أَنْ يُعْمِيَهُ ذَلِكَ عَمَّا تُحَقِّقَ لَهُ شَخْصِيًّا، وَلِبِلَادِهِ عُمُومًا، مِنْ تَحَسُّنٍ مَلْمُوسٍ وَمُلْحَوَظٍ فِي شَتَّى مَنَاحِي الْحَيَاةِ، مُقَارَنَةً بِالْمَاضِي الْقَرِيبِ، فَذَلِكَ شَكْلٌ مِنْ أَشْكَالِ التَّدَمُّرِ الْمُؤْلِمِ لِلنَّفْسِ، الَّذِي لَا مُسَوِّغَ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٧]. تُرِيدُ الْمَزِيدَ مِنْ نِعَمِ اللهِ؟ مِنْ حَقِّكَ. وَاللهُ وَعَدَكَ بِهِ، شَرِيطَةَ أَنْ تَشْكُرَهُ أَوَّلًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ. وَكَيْفَ يَشْكُرُ مَنْ لَا يَشْعُرُ بِهَا أَصْلًا؟ وَهِيَ تَغْمُرُهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؟
لَنْ أَتَوَقَّفَ عِنْدَ تَفَاسِيرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَكْفِي التَّذْكِيرُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَلِفَ النِّعْمَةَ، نَسِيَهَا وَلَا يَشْعُرُ بِهَا إِلَّا حِينَ يَفْقِدُهَا. وَخَيْرُ مِثَالٍ عَلَى ذَلِكَ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ الَّتِي وَصَفَهَا الْحُكَمَاءُ – وَبِحَقٍّ – بِالتَّاجِ فَوْقَ رُؤُوسِ الْأَصِحَّاءِ لَا يَرَاهُ إِلَّا الْمَرْضَى، لَكِنْ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَلِهَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ لِتُعَلِّمَنَا الِابْتِعَادَ عَنْ نِسْيَانِ النِّعَمِ بِالِاعْتِيَادِ عَلَيْهَا، وَيُعَوِّدُنَا عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَالِامْتِنَانِ، بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
فَالتَّحَدِّي الْحَقِيقِيُّ هُوَ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْجَازَاتِ الْحَاضِرِ، مَعَ الِاسْتِمْرَارِ فِي السَّعْيِ نَحْوَ مُسْتَقْبَلٍ أَفْضَلَ، لَكِنْ مِنْ دُونِ الْاسْتِسْلَامِ أَبَدًا لِيَأْسٍ يُخْنِقُ النَّفْسَ وَيُعْمِي الْبَصَرَ عَنِ التَّقَدُّمِ الَّذِي تَحَقَّقَ. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يُوسُفَ: ٨٧].
وَهَنَا يَأْتِي دَوْرُ التَّرْبِيَةِ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْمَدْرَسَةِ. التَّعْلِيمُ يُعْنَى بِنَقْلِ الْمَعْرِفَةِ، لَكِنَّ التَّرْبِيَةَ تُوَجِّهُ وَتُهَذِّبُ وَتُبَصِّرُ. تَرْبِيَةٌ تُدَرِّبُ عَلَى مُقَارَنَةِ الْحَاضِرِ بِالْمَاضِي، لَا بِغَرَضِ التَّوَقُّفِ عِنْدَ الرِّضَا، بَلْ مِنْ أَجْلِ تَعَلُّمِ الِامْتِنَانِ مَعَ الطَّمَعِ الْمَشْرُوعِ فِي الْمَزِيدِ، وَالتَّحْفِيزِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي إِنْجَازِهِ بَدَلًا مِنْ نَقْدِ الْمُتَفَرِّجِ. تَرْبِيَةٌ تُذَكِّرُ بِتَارِيخِ الْمَعَانَاةِ وَالتَّضْحِيَاتِ، وَتُعَلِّمُ النَّقْدَ الْبَنَّاءَ، بَدَلَ التَّذَمُّرِ الَّذِي لَا يَبْنِي شَيْئًا. تَرْبِيَةٌ تُحَصِّنُ النَّفْسَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي فَخِّ مَا يُشْبِهُ الْمَازُوخِيَّةَ الْجَمَاعِيَّةَ، الَّتِي تَحْلُو لَهَا رُؤْيَةُ السَّوَادِ حَيْثُ يُوجَدُ النُّورُ، وَالْأَنِينُ مِنَ الْعَطَشِ وَهِيَ وَاقِفَةٌ عَلَى نَبْعٍ جَارٍ.